شعب "الخال" في قصيدة "الأحزان العاديّة" ‏

للشاعر عبدالرحمن الأبنودي

زينب محمد عبد الحميد

ناقدة ومترجمة مصرية

 

في قصيدة "الأحزان العاديّة" للشاعر عبدالرحمن الأبنودي، يختار "الخال" الانغماس في ‏‏"العادي" بدايةً ومن عنوان قصيدته حين وصف "الأحزان" التي سيتناولها بـأنها "العادية". يحيلنا ‏هذا الوصف إلى الأحداث المشتركة بين جماعةٍ ما، تتكرَّر فيما بينها الأحزان ذاتها، إلى أن ‏تصبح غير مُستغرَبَة بين أفرادها؛ ممّا يُبعد عن أذهاننا أيّ أفكار عن الغريب أو الشخصي. ولا ‏يقف الحدث عند الوحدة أو انتظار جيل جديد من شعب منبوذ داخل زنزانة؛ فـ"الخال" الذي ‏ينحاز إلى شعب دائم الأحلام والتضحية في طريقه الصَّعب؛ ينتظر أجيالًا جديدة تنزع منها ‏الخوف من مواجهة الظلم الذي لم يتغيَّر عبر عصوره؛ ربّما يصبح جيلًا أكثر وعيًا لا تحاوطه ‏الأحزان ويعتادها.‏

 

يأخذنا الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي (1938-2015م) من عنوان القصيدة "الأحزان ‏العاديّة" إلى كلمة "وفجأة" ليضع منذ كلمته الأولى فارقًا بين زمنين؛ زمن ماض كان يعتقد الناس ‏امتداده، وزمن حاضر منذ لحظة المفاجأة، ثم يمتدّ بعد حدثه المفاجئ والمفارق للعنوان؛ لتشريح ‏دوافع ثم تبعات تلك اللحظة. يبدأ بناءه الدرامي منذ لحظة متوترة محتدمة، لا يفرّق فيها بين ‏زمنين وحسب، بل وجماعتين أيضًا؛ فلا يتدرَّج دراميًّا من بداية هادئة إلى وسط ثم نهاية بحسب ‏الأعراف التقليدية، بل يبدأ من صراع وتساؤل كان يبدو غير متوقَّع.‏

‏"وفجأة‎ 

هبطت على الميدان‎ 

من كل جهات المدن الخرسا‎ 

ألوف شبان‎ 

زاحفين يسألوا عن موت الفجر".‏

تحيلنا المفارقة بين العنوان وبداية القصيدة؛ إلى وجود فوارق بين فئتين أو لنقل بين "شعبين" كما ‏يقرِّر "الخال" في قصيدته، واضعًا بينهما هوّة وفاصلًا.‏

‏"إحنا شعبين.. شعبين.. شعبين‎ 

شوف الأوّل فين؟؟‎ 

والتاني فين؟؟‎ 

وآدي الخط ما بين الاتنين بيفوت".‏‎ 

يعتاد أحدهما على الأحزان، فيفسِّر لنا ماهيّة الأحزان العاديّة، بينما يواجه الآخر مفاجأة الحدث ‏غير المتوقَّع من شعب هذه المدن التي ظنَّ فيها الخرس. أمّا "الخال" فقد أباح بعلمه لأسباب هذه ‏الانتفاضة وتلك الأحزان بصفته واحدًا من معتاديها ومعبِّرًا عنها. ‏

‏"أنا عندي فكرة عن المدن‎ 

اللي يكرهها النور‎ 

والقبر اللي يبات مش مسرور".‏

اتَّخذ الأبنودي موقفًا واضحًا على مدار القصيدة؛ حين انحاز إلى "شعب" بعيْنه مستخدمًا أدواته ‏البلاغية والمعجمية لتقرير هذا الانحياز. يستخدم الأبنودي ظاهرة "الالتفات" البلاغيّة بكثرة ‏وتنوُّع؛ حيث يجول بين الضمائر من الغائب إلى المتكلم تارة، ومن صيغة المتكلم المفرد إلى ‏صيغة الجمع في أخرى. ‏

‏"إيديكم نعمت من طول ما بتفتل ليالينا الحلك‎ 

إحنا الهلك وأنت الترك‎ 

سواها بحكمته صاحب الملك ‏‎ 

أنا المطحون المسجون‎ 

اللي تاريخي مركون‎ 

وأنت قلاوون وابن طولون ونابليون".‏

يأخذ المتكلم صيغة المفرد والجمع على التوالي ليؤكد انضمام الشاعر وتماهيه مع "شعب" بعيْنه؛ ‏فيتحدَّث باسمه وباسم أحزانه التي هي جماعيّة "إحنا الهلك"، وشخصيّة "أنا المطحون" في آن.‏

أمّا الشَّعب (الثاني/ الآخر) فله "التفات" يخترق دومًا المتكلم ويضعه في مقارنة واضحة بين ‏أفعال وصفات كل فريق "إحنا الهلك وأنت الترك". وكذلك يتمثّل هذا الآخر في شخص واحد ‏بضمير المخاطب المفرد "أنتَ السجّان" وفي أشخاص كثر "إيديكم نعمت". لا يفسِّر لنا الاتفات ‏موقف الأبنودي الواضح الذي اختاره وقرَّره، بل يؤكد لنا في بلاغة شعوره بالانصهار داخل ‏جماعته وشعبه، وكذلك اغترابه أمام ذلك الآخر المتسلّط.‏

أما معجم الأبنودي فمُغرق في العاديّة دون أن ينافي قدرته على الانتقاء، وهنا أقتبس ما قاله سيد ‏البحراوي في كتابه "البحث عن لؤلؤة المستحيل" (دار شرقيات، مصر، 1996) إذ يقول إنَّ ‏‏"الشاعر لا يخلق اللغة من عدم، وإنّما هو يختار من الإمكانيات المتاحة في اللغة العادية، ليشكل ‏منها نظامًا لغويًا قادرًا على تشكيل المعنى أو الدلالة التي تحتويها تجربته الفنية، والقول بالاختيار ‏لا ينفي بالطبع دور الشاعر الفعّال والخالق في اللغة"(المعجم: ص111). لكن قوّة الحدث الذي ‏يعبّر عنه بما فيه من ثوريّة ومحاولة لتغيير ما اعتاد عليه وإعادة تشكيل مجريات الأحداث؛ ‏كانت قد أثّرت بدورها على لغة الأبنودي، لا اللغة الانتقائية فحسب، بل والاشتقاقية أيضًا؛ ‏‏"فالشاعر يستطيع أن ينحت بعض الكلمات، مثله مثل العالم الذي يبحث عن صيغة عربية ‏لمصطلح علمي جديد، ولكن هذا على كل حال ليس هو الدور الأهم بالنسبة للشاعر، وإنّما الدور ‏الأهم هو ذلك الدور الكامن في قدرته على الاختيار من بين المفردات، فهو –هنا- يقبل بعض ‏المفردات وينحّي بعضها الآخر باستخدامه لها وإهماله للأخرى، ممّا يشكّل أو يساهم في تشكيل ‏لغة جديدة لعصره وللعصور التالية"(البحث عن لؤلؤة المستحيل: ص111).‏

وهذا بالضبط ما حققه؛ حين استخدم المعنى وضدّه "بلدي مهما تتضيّع مش حتضيع" ليقرر فارقًا ‏بين تصوُّرات اللغة بين فريقين، ويجعل تصوُّر أحدهما شكليًّا عن "الضياع" المتمثل في الهيمنة ‏على مكان بعيْنه، ويجعل مفهوم "الشعب الآخر" منافيًا لما قد يتصوَّره الأوَّل من معنى ظاهري ‏للضياع "مش هيضيع". كذلك يشتق كلمات مثل "يفرسن" حين يعبِّر عن قدرة الخلق التي يمتلكها ‏الميدان مركز الثورة القادر على خلق الأبطال، وكذلك نحت كلماته التي تعبِّر عن مواقفه؛ والتي ‏نفهم منها أيضًا أنها وإن كانت مسلوبة في ظاهر الألفاظ إلا أنها غير مسلوبة في معجم مغاير ‏لشعب مغاير. ‏

‏"ما ضايع إلا ميدان وسيع‎ 

يساع خيول الجميع‎ 

يقدم المقدام‎ 

ويفرسن الفارس‎ 

ويترك الشجاعة للشجيع".‏

تستوعب مفرادات القصيدة معجمين، فلكل شعب من الشعبين معجم خاص يرى به الآخر، ‏ويضطر إلى قبول استخدامه لِما يفرضه عليه من تسلُّط واحتقار أحيانًا، وتهكُّم على ادّعاءات ‏قائِلِه في كثير من الأحيان.‏

أمّا زمن القصيدة فلنا أن نصفه بـ"الدائري" يجول بين التاريخ بما فيه من شهادات من التسلط ‏والقهر، ويرصد اللحظة الحالية المكدّسة بالأحزان المعتادة من المقهورين على مدار تاريخه ‏وحاضره، بل ويتجاوزه إلى مستقبل ميتافيزيقي حيث ما بعد الموت. كان الموت قد ظنه المقهور ‏خلاصًا يقيه بطش القهر ويعفيه من واجب الدِّفاع أو الردّ.‏

‏"أنا مُتّ‎ 

ومش منظور لي جواب‎ 

متحصّن بكتوف الأصحاب‎ 

ولذلك فُتّ".‏

إلا أنه يستقبل موقفًا جديدًا من الصدام؛ لا تتغيَّر فيه هيئة السلطة عن صورتها العادية، بل لا ‏يتغير ممثّلها فيمارس سلطته ومحاسبته بحذافيرها المهينة ذاتها.‏

‏"ضابط واعترض‎ 

قبض على الجثة‎ 

وطلب الأوراق‎ 

مزع الأكفان‎ 

عدّل الوش‎ 

ووقف وركلني‎ 

وقال لي بلؤم شديد‎ 

حتى فى الموت بتغش".‏

يواجه الشاعر السلطة من جديد؛ بعد أن أصبح الموت والحبس يمثلان مكان القمع ذاته، حساب ‏القبر وسؤال الضابط هما الحساب ذاته؛ وكذلك أصبح هو والشعب المنحاز له في الزنزانة ذاتها؛ ‏حتى وإن شعر بالوحدة فإنه يجعل من حبسه حبسًا للشعب بأكمله؛ يقول: ‏

‏"احبسني أو اطلقني وادهسني‎ 

رأْيِنا خِلف خلاف‎ 

وإذا كنت لوحدي دلوَقْت‎ 

بُكره مع الوقت‎ 

حتزور الزنزانة دي أجيال".‏

لا يقف الحدث عند الوحدة أو انتظار جيل جديد من شعب منبوذ داخل زنزانة؛ فـ"الخال" الذي ‏ينحاز إلى شعب دائم الأحلام والتضحية في طريقِه الصعب؛ ينتظر أجيالًا جديدة تنزع منها ‏الخوف من مواجهة الظلم الذي لم يتغيَّر عبر عصوره؛ ربّما يصبح جيلًا أكثر وعيًا لا تحاوطه ‏الأحزان ويعتادها.‏

‏"وأكيد فيه جيل‎ 

أوصافه غير نفس الأوصاف‎ 

إن شاف يوعى‎ 

وإن وعي ما يخاف".‏

لكن، هل يقبل "الخال" أن يأتي جيل يخلِّصه من الظلم بعد أن كان مقهورًا على مدار العصور! ‏لقد وضع الأبنودي نفسه محلّ أوّل سجين ليتمثّل تاريخ القهر منذ ميلاده في وطنه، ويتجرَّعه ‏حتى بعد الموت على الأرض ذاتها مفتخرًا بأنه المُعبِّر عن الأحزان على مدار الأزمان. ‏

‏"معروف صوتي فى زمن الأحزان‎ 

وفي أي زمان‎ 

واتذكّرت سنة ما اتبنت القلعة‎ 

وكنت أنا أوّل مسجون‎ 

وإن الضابط ده أوّل سجّان".‏

أتصوَّر أنَّ "الخال" لم يرضَ ألّا ينتهز فرصة زمن القصيدة الدائري المنفتح وقدرته على تجاوز ‏الزمن؛ ولم يكتفِ أن يكون أوّل مسجون مقهور ولا يشهد زمن الخلاص أو الحريّة؛ فصنع من ‏نفسه متكلمًا جديدًا من هذا الزمن المستقبلي الذي يحمل جيلًا "إن شاف يوعى وإن وعي ما ‏يخاف"، فيواجه سجّانه مواجهته الأخيرة بصفاته المستقبليّة، وينتصر عليه ليفوز بالوطن. ‏

‏"أنتم الخونة لو يصدق ظنّي‎ 

خد مفاتيح سجنك واترك لي وطني‎ 

وطني غير وطنك‎ 

ومشى‎ 

قلت لنفسي‎ 

ما خدمك إلا من سجنك".‏