مظاهر التعدُّد في شخصيّة "مرزوق"‏ من خلال رواية ‏" الأشجار واغتيال مرزوق" لعبدالرحمن منيف

مختار الماجري

كاتب تونسي

 

تتفرَّد شخصيّة "مرزوق" في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" بغناها الدرامي، وانغماسها الكلّي في الهَمّ ‏الإنساني. وهو أمر يختلف عن فرادة الشخصيّات المحوريّة لأبطال الرواية العربية الكلاسيكية (أحمد ‏عبدالجواد، مصطفى سعيد، زكريا المرسنلي، وغيرهم)، فـ"مرزوق" يمثّل الجوهر الأصيل للشعب، للحياة، ‏للعمل، للأصالة، للشموخ، إنّه الإنسان الذي تكمن الأسطورة الحقيقية في حياته. وهو أيضًا شخصيّة رامزة، ‏بل قطب الشخوص بما فيها الشخوص الرمزيّة؛ "مرزوق" يساوي كل الشخوص التي يعرضها الكاتب ‏عبدالرحمن منيف في غربتها وانتمائها، في خوفها وجرأتها، كاشفًا علائقها بالتاريخ والواقع ليمنح القارئ ‏كشفًا لذاته ولعالمه بعد تجربة الشخوص المماثلة. ‏

 

لئن شمل "التعدُّد" العديد من العناصر الأسلوبية في الرواية الحديثة، فإنّه لم يستثنِ أيضًا عنصر الشخصيّة ‏التي تبدو في ظاهرها واحدة من بين الشخصيات العامة لا تلك المتفرّدة التي تنشد الظهور والتميُّز من خلال ‏الفرادة البطولية في الرواية الكلاسيكية. وهي شخصيات محورية تشدّ اهتمام القارئ كشخصية "أحمد ‏عبدالجواد" في "ثلاثية" نجيب محفوظ، وشخصية "مصطفى سعيد" في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب ‏صالح، وشخصية "زكريا المرسنلي" في "الياطر" لحنّا مينة، وشخصية "مرزوق" في "الأشجار...واغتيال ‏مرزوق" لعبدالرحمن منيف. وإن كان "أحمد عبدالجواد" رمزًا للبرجوازي المنقسم على ذاته، و"مصطفى ‏سعيد" رمزًا للمثقف الممزّق بين الشرق والغرب، فإنّ شخصية "مرزوق" تختلف عن هاتين الشخصيتين من ‏حيث أبعادها المترامية الأطراف، كما أشار إلى ذلك عبدالرحمن منيف على لسان إحدى شخصيّاته "مرزوق ‏ليس واحدًا، مرزوق كل الناس، مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"(1). ‏فمن يا ترى مرزوق؟ وكيف يكون متعدّدًا؟

إنّ "مرزوق" شخصية محورية في رواية عبدالرحمن منيف "الأشجار...واغتيال مرزوق"، ولعلّ ذكر اسمه ‏في هذه الرواية دليل على أهميته. لكنّ الغريب في الأمر أنَّ هذا الاسم "مرزوق" لم يظهر إلّا حين تشرف ‏الرواية على الانتهاء، وبالتحديد في قسم اليوميّات، وإذا أردنا أن نكون أكثر دقّة نقول: ظهر هذا الاسم في ‏اليومية الرابعة عشرة المؤرخة بيوم "الجمعة 14 نيسان". وقسم اليوميات هو قسم يأتي قبل القسم الأخير ‏المُعَنْون بالخاتمة، وبعد القسم الأوّل والقسم الثاني اللذين يمثلان الجانب الكبير من الرواية إن لم نقل الرواية ‏كلها.‏

نقول –مبدئيًّا- إنّ ظهور "مرزوق" هو ظهور ذكري فحسب؛ أي لم تظهر لنا هذه الشخصية متحركة ‏ملموسة كما نلمس وجود الفواعل الأخرى في الرواية كما هو الشأن في ظهور "إلياس نخلة" و"منصور ‏عبدالسلام" مثلًا، أو ظهور "الشخصية الرمزية" بتعبير "فيليب هامون" مثل "الشجرة" أو "الأشجار" التي ‏نلحظ حضورها المكثف داخل الرواية حتى صارت لازمة إيقاعية تتكرر من حين لآخر. أمّا شخصية ‏مرزوق فهي "غائبة" -من هذا المستوى- بالمقارنة مع الشخصيات التي أشرنا إليها. فكيف يُعلن المؤلّف –‏على الرغم من هذا "الغياب"- على لسان إحدى شخصياته في جملة اسمية تقريرية "مرزوق ليس واحدًا، ‏مرزوق كل الناس، مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"؟ ‏

نلاحظ أنّ كلمة "مرزوق" قد تكررت خمس مرّات في مقولة الكاتب المذكورة، إنّها الكلمة المفتاح، غير أنّها ‏اقترنت بـ"كل الناس"، بـ"شجرة"، بـ"ينبوع، بـ"إلياس نخلة"، إذ لا وجود لمرزوق ولا قيمة له دون تلك ‏الشخصيات، فمرزوق يحيلنا على الشخصيات، هو شخصية حبلى بالرموز، مثقلة بالمعاني، مشحونة ‏بالدلالات، شخصية متجلية خفية، ففي خفائها موجودة، هي البُنى الصامتة في النص التي نقرؤها من بين ‏السطور "مرزوق كل الناس"، أليست وجهًا لشخصيتيْ "منصور" و"إلياس"؟ أليست حلقة تصل بين عالم ‏الشخوص في الرواية؟

جاءت شخصية "مرزوق" موصولة باغتيال الأشجار لأنّ اغتيال الأشجار هو اغتيال الإنسان، هذه الأشجار ‏التي تبدو عروقها ضاربة في الأرض وجذوعها ممتدّة نحو السماء إنما تحكي قصة الإنسان، عزّة الأبطال ‏وشموخهم، رغم الانهيارات والتشوّهات في الواقع، هي رمز النماء والتجدّد "مرزوق شجرة" بل قل هي ‏رمز الحياة، ولذلك يتعلق بها "إلياس نخلة"، بل نراه متشرّدًا منذ اللحظة التي قامر فيها على الأشجار. ‏ونلاحظ في هذه النقطة دلالة خاصّة للزمن، زمن التشرُّد اقترن ببداية المقامرة على الأشجار. ومنذ اغتيال ‏الأشجار تغيّر في قرية الطِّيبة وجه الأرض، أصابت اللعنة "الطيبة" بسكانها فلا الحياة تجري ولا السماء ‏تمطر... كل شيء تغيّر في قرية الطيبة، لأنّ الأشجار ليست النبات فقط، بل هي الحياة.‏

ومن جهة أخرى لو نظرنا في لقب "إلياس" نجده يتّصل بعالم الشجرة الرمز، فلقبه "نخلة"، وللنخلة دلالات ‏شتّى منها ما يتصل بالشموخ والقيم المتعالية الموحية بشِيم الإنسان العربي، ومنها ما يتّصل بالتجذّر ‏والأصالة والالتصاق بالأرض. أمّا الاسم "مرزوق" فيحيلنا مباشرة على الرزق، والأشجار مصدر هام ‏للرزق، وبين مرزوق والأشجار صلة حميمية. وبناء على هذا التأسيس يصبح "مرزوق شجرة... مرزوق ‏هو إلياس نخلة" بل "مرزوق ينبوع" أليست الأشجار مصدرًا للحياة أو ينبوعًا لها؟ أليس مصدر "مرزوق" ‏الذي هو "الرزق" ينبوعًا للحياة؟

إذا ما نظرنا بدقّة في المقولة المفتاح في هذا المبحث: "مرزوق ليس واحدًا، مرزوق كل الناس، مرزوق ‏شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"، نجدها وردت على شاكلة خمس جمل ‏مستقلة نحويًّا ومرتبطة معنويًّا. هي جمل قصيرة تتميّز بوحدة المبتدأ الذي هو "مرزوق" وتنوُّع الخبر. لكن ‏هذه الأخبار المختلفة من جملة إلى أخرى هي في الحقيقة ترتبط معنويًّا ارتباطًا وثيقًا. ويمكن تقسيم تلك ‏المقولة إلى جزئين مختلفين نسبيًّا؛ الجزء الأوّل "مرزوق ليس واحدًا، مرزوق كل الناس" والجزء الثاني بقية ‏المقولة "مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت". وحين نتأمّل الجزئين ‏نجدهما يفسّران بعضهما بعضًا؛ فمثلًا في الجزء الأوّل نجد الطرف الثاني يفسّر الطرف الأوّل، وكأنّ القول ‏إنّ "مرزوق" ليس واحدًا غير كافٍ لإفهام المتلقّي، فيأتي الطرف الثاني ليوضّح "مرزوق كل الناس". ثمّ نجد ‏أطراف الجزء الثاني من المقولة تفسّر بعضها بعضًا أيضًا "مرزوق شجرة، مرزوق ينبوع، مرزوق هو ‏إلياس نخلة الذي لا يموت". فكأنّ مصطلح "الينبوع" يوضّح لنا مصطلح "الشجرة" ولفظتيْ "إلياس نخلة" ‏تفسّران الشجرة والينبوع، فإلياس يختزل في ذاته المفهومين السابقين. و"مرزوق" هو شجرة، ينبوع وإلياس ‏نخلة الذي لا يموت. ثلاثة مفاهيم مختلفة البناء تشكّل شخصيةً واحدة هي شخصية مفعمة بإمكانية الفعل ‏التاريخي تمتدّ جذورها في عمق الكينونة التي لا تُحدّ متوّجة بنداوة الحلم الذي هو آتٍ. تتداخل العناصر ‏الثلاثة مشكّلة بنيان الشخصية دون أن تختلّ المعادلة في صياغتها، ومن هنا تكتسب فعلها الملحمي المتميّز.‏

وتبعًا لهذا النسق يتسنّى لنا القول إنّ الجزء التركيبي الثاني للموضوع الذي يشتمل على الشجرة والينبوع ‏وإلياس ورد لتفسير الجزء الأوّل من المقولة التي صيغ عنصراها في شيء من الغموض، فهل أنّ "الشجرة" ‏و"الينبوع" و"إلياس نخلة" هذه العناصر الثلاثة كافية للتدليل على مفهوم "مرزوق" خاصة إذا ما قرأنا ‏‏"مرزوق كل الناس"؟‏

إنّ عبارة "كلّ" تجعلنا نتجاوز كل التحديدات التي نصّت عليها المقولة خاصة عند اقترانها بـ"الناس". نعم ‏‏"مرزوق" هو "إلياس نخلة" ذلك الشخص الذي ضرب في الأرض سنين باحثًا عن لقمة العيش، يتنقّل من ‏مكان إلى آخر لا ينزل بمكان إلّا ليفارقه، هو رجل يرفض الاستقرار ويأبى السكون، فبعد فقدان الأشجار ‏التي قامر عليها تعاطى مِهَنًا عديدة: عمل عند دهّان، عمل بمقهى، عمل بالفرن، اشتغل بحمّام، اشتغل ‏بنزل... تقلّب في حِرَف عديدة لكنّه لم يستقرّ في إحداها، لأنّه يؤمن بالحركة المستمرّة التي تنجيه من ‏الموت، ألم يقل "منصور عبدالسلام": "إنّ إلياس مثل أمواج البحر لا يستقرّ لحظة واحدة لأنّه إذا استقرّ يكون ‏قد مات"(2)؟

إنّ "إلياس نخلة" شخصية متحوّلة، بل هي الشخصية الفعل التي تأبى الركود، وتكابد ما تكابده من أتعاب ‏وعذابات متنوعة من أجل الإيمان بأشياء عديدة. نعم هي شخصية متعبة عبّرت عن ذلك بنفسها حين سأل ‏منصور إلياس: "وواصلْتَ الحياة في المدينة؟"، يجيب إلياس: "نعم واصلتُ العذابات"(3).‏

شخصية مهمومة تنوء بعبء الحياة، حيث أصبحت الحياة لديها مرادفة للعذاب، هي شخصية مسكونة ‏بهاجس التحوّل ولا تخشى المغامرة، هي لا تخشى هذا العذاب ولا تحبّه، بل تنظر إليه من زاوية ‏مخصوصة، هي شخصية متفردة على عكس عامة الناس، يقول "إلياس نخلة" مخاطبًا "منصور عبدالسلام": ‏‏"لا تتصوّر أنّني لا أحب الشوك، أنا عكس كثير من الناس، أرى في الشوك عبقرية من عبقريات ‏الطبيعة"(4).‏

نعم إنّ "مرزوق هو إلياس نخلة" وهو "شجرة" كما نصّت على ذلك المقولةُ، ويتأكّد هذا المعنى على لسان ‏‏"إلياس" وهو يخاطب أبناء بلدته: "إنكم تقطعون أرزاقكم وأنتم تقطعون الأشجار..."(5). أمّا "مرزوق كل ‏الناس" فأمر يتجاوز المعطيات المذكورة، ولكن في تجاوزها يمثّلها من وجوه أخرى مختلفة، فـ"مرزوق" ‏الذي هو "إلياس" هو أيضًا "منصور عبدالسلام"، وبين "مرزوق" و"منصور" علاقة حميمية لا تنفصم، ‏يقول "منصور عبدالسلام" في قسم اليوميات: "لم أنم الليلة الماضية لحظة واحدة، قتلوا مرزوق..."(6). ‏فمنصور عبدالسلام "قد حوّل خيباته إلى إرادة حيّة تدفعه إلى مواجهة أعداء المجتمع والحياة وتحثّه على ‏الانحياز إلى برنامج الفعل الذي يبشّر بميلاد جديد، فيواصل الطريق من حيث انتهى مرزوق"(7)، ومرزوق ‏لئن "انتهى" -بلغة بن حميد- وهو كذلك من خلال اليومية الرابعة، فإنّه لم يمت كرمز. فموته المعلَن عنه هو ‏موت لإنسان عادي يُسمّى "مرزوق" لا رمز له، أمّا مرزوق الرمز لم يمُتْ ولن يموت ولا يموت، يقول ‏‏"منصور عبدالسّلام": "ومرزوق... مرزوق الضحكة الشفافة بالحزن.. العيون المتعبة.. القلب الوردي الذي ‏يلمع في الليل، مرزوق لا يموت"(8). هذا الوصف يحيلنا على معرفة الواصف للموصوف. وطريقة ‏الوصف أو أسلوبه ينمّ عن نوعية العلاقة، فألفاظ من هذا القبيل: الضحكة الشفّافة، العيون، القلب، هي ‏كلمات توحي بعلاقة وطيدة، متينة لا تنفصم عُراها ولا تشوبها شائبة، علاقة ذات وشائج عميقة، ولكن فيم ‏تتجلّى هذه العلاقة؟ أو ما هي مظاهرها في رواية "الأشجار... واغتيال مرزوق"؟

لئن كان "إلياس نخلة" وجهًا من وجوه مرزوق، فإنّ "منصور" يمثّل وجهًا آخر من وجوه "مرزوق"، نقول ‏‏"آخر" لأنّ هناك اختلافًا بين ما يمثّله "إلياس" من جهة وما يمثّله "منصور" من جهة أخرى، ولئن تباعد ‏الوجهان فإنهما يقتربان إلى حدّ التداخل والتمازج ليعبّرا عن القضية الأم، بل يمثلان رمز القضية الشاملة ‏الذي هو "مرزوق". ‏

ولئن مثّل "إلياس" جانب من جوانب الإنسانية الموسومة بالعمل اليدوي الخاضع للطاقة الجسدية، فإنّ ‏‏"منصور" يمثل جانبًا آخر للإنسانية وهو العمل الفكري. والشخصيتان لا تمثلان العمل كقضية مطروحة، ‏ولكن ما ينجرّ من شقاء وأتعاب وراء البحث عن هذا العمل. والعمل المبحوث عنه إنّما هو العمل الذي ‏يرتضيه صاحبه، بمعنى العمل المتّسم بحرية العامل. ومن هنا يتحوّل العمل إلى مطيّة بواسطتها يطرق ‏المؤلّف عبدالرحمن منيف قضية مهمة هي الحرّية.‏

وكما تشرّد "إلياس" وتعذّب، يتشرّد أيضًا "منصور" ويتعذّب وراء البحث عن لقمة العيش؛ فشأنه شأن ‏‏"إلياس" كلاهما خضع لمنطق الفشل والإحباط. فكما فشل "إلياس" في إيجاد عمل يستقرّ فيه و يروق له، ‏كذلك "منصور" يُسرّحُ من الجامعة ولا يجد عملًا، يقول: "طرقتُ أبوابًا كثيرة ولكن لم أجد أحدًا ‏يجيبني"(9). لقد فشل "منصور" حتّى في نشر ترجمة كتاب "كمونة باريس" لأسباب سياسية. ‏

لقد طلب "منصور" الرزق بطريقة تريحه وترضي ضميره فلم يُوفّق، أراد أن يدرّس التاريخ الحقيقي لا ‏‏"التاريخ المزيّف" فطرد من الجامعة. إحالة على واقع قهري يستحيل معه الحوار، واقع بهذه الدرجة من ‏البشاعة يستلب أي إحساس بجدارة فتح الحوار معه، فغول الواقع الشرس يلتهم أيّ تصوّر حالم للمستقبل، فلا ‏يبقى سوى الماضي تبحث في نفاياته عن لحظات أمن هاربة، توقفها لتستمدّ منها العزاء والرحمة. إننا ‏نلاحظ اغتيال "منصور" منذ تسريحه من الجامعة كما اغتيل "مرزوق". كان "منصور" يشتغل أستاذًا جامعيًا ‏فطُرد من العمل الذي كان مصدر رزقه، فبتسريحه من الجامعة ينضب معين الرزق لديه، بل يموت، ‏وبموت الرزق يموت الإنسان. لقد كان "منصور" يرتزق من عمله، لقد كان مرزوقًا به. وإذا ما نظرنا في ‏بنية كلا الاسمين "منصور"  و"مرزوق" من حيث الصيغة الصرفيّة لوجدنا كلاهما اسمَ مفعول لا اسم فاعل، ‏فكلاهما وقع عليه الفعل، وكلاهما اغتيل. أليس "منصور عبدالسلام" هو "مرزوق"؟ و"مرزوق" هو ‏‏"منصور عبدالسلام"؟

‏"مرزوق كل الناس" مقولة جريئة وخطيرة في آن، فإذا كان "مرزوق" هو كل الناس، فالأمر لا يُحدّ بإلياس ‏أو بالشجرة أو بالينبوع أو بمنصور فحسب. لكن أيّ نوع من الناس يقصد صاحب المقولة؟ يبدو أنّ صاحب ‏المقولة يتعامل مع مفهوم مخصوص للإنسان وإلّا فلِمَ يختم مقولته بتعريف تقريري بمثابة الاستنتاج أو ‏التلخيص لما سبق "مرزوق هو إلياس نخلة الذي لا يموت"؟

إنّ مفهوم الإنسان لدى صاحب المقولة هو ذاك الذي يمتاز بخاصيات معيّنة لا نجدها إلّا عند "إلياس نخلة" ‏أو أمثاله، بل عند "إلياس نخلة" الذي لا يموت. فهل أنّ الموت المقصود، هنا، هو الموت المادّي أم ‏المعنوي؟ إنّ "إلياس" يُعتبر ميّتًا بعد فقدانه للأشجار التي تمثّل مصدر رزقه/ حياته. ونقول أيضًا: إذا ما ‏رمنا التصاقًا بالنسق القصصي في النص المصدر أنَّ إلياس قد مات منذ انتهاء القسم الأوّل من الرواية، منذ ‏أن نزل من القطار، منذ أن ودّع صديقه منصور، والوداع علامة الذهاب بلا رجعة، هي في نهاية المطاف ‏علامة الموت.‏

بناء على ما تقدّم يبدو أنّ إلياس نخلة قد مات، ومرزوق لا يُشاكل هذه الشخصية التي تموت، وإنّما هو ‏‏"إلياس نخلة الذي لا يموت"، وبين الذي يموت والذي لا يموت مسافة لا تُحدّ. فمن هو هذا الذي لا يموت ‏حتّى نعرف من خلاله مفهوم الإنسان المتجسّد في "مرزوق"؟ إنّ "إلياس نخلة الذي لا يموت" هو تلك ‏الشخصية الرمز المعانقة للذاكرة دون انقطاع، هو ذلك البطل الإشكالي "الذي ينشد قيمًا أصيلة في مجتمع ‏متدهور القيم" بتعبير "جورج لوكاتش". هو تلك الشخصية المنبجسة من صميم الحياة تحمل نبضها وألقها، ‏تلتحم بشكل خلّاق بالشؤون البشرية، وتمارس تميّزها لأنها تلامس الأرض بكل أجزائها. ولذا، فإنها تنقذف ‏للعراء حارّة كدفقة الكون، نابضة، مشعّة، تمتصّ لون الحياة وبريقها. تلك هي الشخصية التي تحمل ملامح ‏‏"مرزوق".‏

فعبارة "كل الناس" لا تتصل بعامة الناس الذين هم داخل الرواية، وإنَّما بالوجوه التي لا تعدو أن تكون رمزًا ‏للإنسان العربي في حركة التاريخ، لأنّها شخصيات تكشف لنا عن وعي جنيني هش يكشف أسوار عالم أبكم ‏فترتدّ الأبصار خاسئة حاسرة تستجدي أطياف ماضٍ أكثر مرارة.‏

‏ إذن "كل الناس" هي من جهة شخصيات تمثّل تعرية شديدة اللهجة للواقع الإنساني عبر مقابلته بصورته ‏الفطرية النقية، لصيغة لوحة التضادّ بين النقاء الأصلي والتزييف الطارئ، مقابلة تضادّ لا تتفق مع ديمقراطية ‏‏"روسّو" التي تعلن "وُلد الإنسان حرًّا"، أو المفهوم الذي طرحه عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ‏ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟". ومن جهة أخرى هي شخصيات تعيش المعاناة والمكابدة من جرّاء الوسط التاريخي ‏الذي تحكمه قوانين التشيّؤ وعوامل المصادرة والاستلاب. فهذه الأنماط من الشخصيات هي "كل الناس" وهي ‏‏"مرزوق" الذي ما انفكّ يعاني من كتلة آدميّة سديمية تُسكنه حماقة الواقع وضروراته المستعصية على وعيه ‏الجنيني، فيواجه الواقع كلعنة قدريّة لبدائية فهمه. فيخضع لمنطق الفشل، ولكنّه يُكبر عليه كإنسان يجترّ مع ‏‏"سنتياغو" مرارة إخفاق المواجهة، لكنّ الهزيمة لا تحبطه، بل ينهض من جديد لمواجهة الحوت الذي يهاجم ‏شطآن البلدة.‏

ذلك هو "مرزوق"، هو الشخصية التي تتفرّد في الرواية بغناها الدرامي، بانغماسها الكلّي في الهم الإنساني. ‏فـ"مرزوق" يختلف عن الأبطال الذين ذُكروا في بداية هذا المبحث كنماذج لأبطال الرواية العربية (أحمد ‏عبدالجواد، مصطفى سعيد، زكريا المرسنلي، وغيرهم). "مرزوق" يمثّل الجوهر الأصيل للشعب، للحياة، ‏للعمل، للأصالة، للشموخ، إنّه الإنسان الذي تكمن الأسطورة الحقيقية في حياته.‏

إنّ "مرزوق" هو إنسان الفعل، وإنسان الفعل وحده قادر على الثبات في شريط الزمن الفار، لذلك مرزوق "لا ‏يموت". هو حيّ مدى الحياة، حيّ في الذاكرة الفردية والجماعية. هو شخصية رامزة، بل هو قطب الشخوص ‏بما فيها الشخوص الرمزية، مرزوق يساوي كل الشخوص التي يعرضها الكاتب في غربتها وانتمائها، في ‏خوفها وجرأتها، كاشفًا علائقها بالتاريخ والواقع ليمنح القارئ كشفًا لذاته ولعالمه بعد تجربة الشخوص ‏المماثلة. ‏

ذلك هو "مرزوق"، بحسب محاولتنا الاستقرائيّة لنصّ المقولة وعلاقته بالرواية، على الرّغم من أنّ الراوي ‏الشخصية (منصور عبدالسلام) قد وعدنا بالكتابة عن مرزوق "سوف لن تضيع يا مرزوق. إذا لم أستطع أن ‏أثأر لك، فسوف أكتب عنك"(10)، فإنّ ذلك لم يحصل، وتبقى الآن قصّة "مرزوق" هي قصة القارئ في ‏تعامله مع الرواية.‏

 

الهوامش ‏

‏1- عبدالرحمن منيف، "الأشجار... واغتيال مرزوق"، ط13، 2008، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ‏ص349.‏

‏2- المصدر السابق، ص112. ‏

‏3- المصدر السابق، ص102.‏

‏4- المصدر السابق، ص118.‏

‏5- المصدر السابق، 47.‏

‏6- المصدر السابق، ص301.‏

‏7- د.رضا بن حميد "الخيبة ووعي الخيبة في عالم منيف الروائي" (بحث جامعي)، ص219.‏

‏8- عبدالرحمن منيف، "الأشجار... واغتيال مرزوق"، ص321.‏

‏9- المصدر السابق، ص322. ‏

‏10- المصدر السابق، قسم اليوميات بتاريخ الثلاثاء 17 نيسان، ص349.‏