د. جمال مقابلة/ الجامعة الهاشميّة
في رواية "القطّ الذي علّمني الطيران" لهاشم غرايبة يقف القارئ على ثلاثة مستويات من السرد انطلاقًا من صاحب الصوت المتكّلم، فنحن أوّلاً أمام "راوية عليم" لا نعرف له اسمًا، ولا نكاد نجد له في الرواية تمثّلاً أو تعيّنا في أيّة شخصيّة من الشخصيّات، فهو يعبّر عن صنعة تقليديّة ظاهرة - في إطار تاريخ النوع الأدبيّ أو جنس الرواية الحديث - من نتاج المؤلّف الحقيقي/هاشم غرايبة، الذي يمثّل الصوت الثاني حين يطلّ علينا في منتصف الرواية تقريبًا باسمه الصريح، في صدر كلام يوضع بين معقوفتين "[أنا الراوي "هاشم غرايبة" كنت أقلّب أوراق كُنّاشٍ مُصفرّة كتبتها قبل ثلاثة وثلاثين عامًا [صدرت الرواية العام 2011، وتجري أحداثها بين عامي 1977 و1978]، فطارت من بينها زهرة ياسمين مثل فراشة بلون التبن لتحطّ على كفّي، وتصل روحي بخيط من شذى الياسمين مع زهو الشباب، وزمن الإلهام، ودفء الحلم، وقدسيّة الكرامة الشخصيّة .. فسطع حبر الكوبياء موقظًا الذكريات الغافية في كفّ الزمن.. .. أتذكّر أنّ "عماد" تعرّف على الحزب قبل عام ونصف من اعتقاله، خلال نشاط تأسيس اتّحاد طلبة الجامعة .. ... الأفكار كانت غائمة في ذهنه! لكن وهجها وهو يحاول الفهم هو ما يدفعه للإصرار على قول لا .. ... كتب بقلمه الكوبياء: ماذا يبقى منّي إذا سُلبت الحقّ بقول "لا"! ... لا مفتاح الحريّة .. لا شيء يهب الجرأة كنسيم الحريّة.]" (الرواية(ص 111 – 112). وأخيرًا الصوت الثالث هو صوت البطل "عماد الحوراني" الذي يمرّ بتجربة السجن وتدور كلّ أحداث الرواية عليه. وليس من الصعب على القارئ أن يلحظ التداخل بين هذه الأصوات الثلاثة، فقد أفصح هاشم غرايبة المؤلّف في النصّ، ابن بلدة حوّارة الواقعة شمال مدينة إربد، المثبت إفصاحه آنفًا، أنّه هو ذاته الراوي، وأنّه هو ذاته عماد المنتسب إلى بلدة حوّارة أو إلى منطقة حوران للدلالة على الأمكنة التي تدور فيها أحداث الرواية، فهو صاحب الكنّاش الذي يرد في موطن آخر من العمل على أنّه من مذكّرات عماد، وما زال الراوي العليم يصف لنا خلجات عماد وهواجسه وتطلعاته على الدوام.
فالرواية بهذه الأصوات الثلاثة تتنازعها كذلك تجنيسيًّا فنّيّات الأدب الروائيّ أوّلاً؛ من مثل البراعة في رسم الشخصيّات والأحداث، والحوار بين تلك الشخصيّات، والتناص مع روايات متعدّدة والتعالق معها، والتصريح بالوصف التجنيسي لها على الغلاف بأنها رواية، وغير ذلك من الإشارات. ومن ثمّ تقنيّات السيرة الذاتيّة ثانيًا؛ حيث يكاد صوت الراوي يسيطر على الأحداث بوصفه راويًا لأحداث سيرة ذاتيّة متسلسلة تاريخيًّا، ومنتظمة بصوت الأنا التي تعبّر عن البطل عماد في مواطن عديدة على الرغم من كثرة حديثها عنه بضمير الغائب؛ "كأنّ الرفيق الذي يزوره يستلّ فروع الياسمينة من عروقه! تمتم بما قاله أبوه عن الحكومة قبل عام: (... على هيك حزب)، وتظاهر رفيقه بأنه لم يسمع! آه يا قطّ، بودّي لو أستعير صوتك وأصرخ: أوف. أوف .. أوف حتى تنشقّ السماء" (ص184)، فالياسمينة هي تلك الشجيرة في منزل عماد، وهي التي ما فتئ يتنسّم عبيرها كلَّ حين وهو يتذكّرها في السجن، وها هو الراوي يفسح له في آخر الفقرة بأن يمسك بزمام الحكي أو السرد أو القول في الرواية/السيرة. وثالثًا وأخيرًا يبدو العمل وكأنّه كتابة مذكّرات؛ "الآن وقد دخل القفص تحضر ملهاة "النمور في اليوم العاشر" لزكريا تامر .. يتساءل بمرارة: هل أنا في اليوم الأوّل؟ - لماذا تحمّلت ثلاثة شهور من العناء في زنازين ....؟!" (ص8)، وفي نهاية الفصل الافتتاحي للرواية نجد كذلك "خرج حيدر وهو يضحك مردّدًا: مجانين .. مجانين .. ونسي أن يخبر عماد بموعد محاكمته التي تقرّرت في 26 / 4 / 1977"(ص24)، وحين يكون عماد في السجن يُزوّد بمنشورات الحزب الشيوعيّ وتقاريره، فيوثّق الراوي ذلك على شاكلة كتابة المذكّرات" [... إذن المساومة بشأن الضفة باتت خيارًا مستبعدًا من جانبي إسرائيل والأردن على حدّ سواء. (الخيار الأردنيّ) دُفن، وحلّ محلّه (الخيار المصريّ) .. أيلول 1977م] تبسّم بعد أن قرأ تقرير الحزب: بيش كيلو الخيار .. مع من سأتحدّث بمضمون هذا التقرير؟! أخرج قلادة الخرز التي نسجها له الختيار، وصار يعاينها بعيدًا عن أعين الزملاء في الغرفة! .. "– هل أهديها لك يا مها؟ هل تقبلين .." (ص122 – 123). إذن يجري التداخل بين هذه الثلاث من الفنّيّات والتقنيّات وأساليب الكتابة كما تداخلت من قبل المستويات الثلاثة في السرد، ممّا سيتولّد عنه كذلك ثلاثة مستويات من اللغة السرديّة هي؛ أوّلاً: اللغة أو اللهجة الدارجة في شمال الأردن التي اجتاحت فصول الرواية جميعها، على ألسنة الشخصيّات في الحوار، بما فيها من صدق التعبير وجماليّته من جهة، ومغامرة الوقوع في شرك المحلّيّة ومحدوديّة الانتشار بسبب صعوبة التلقي من جهة أخرى، ومن أمثلتها: "هيك الزلم ولا بلاش(ص 35) . - طيّب. طير من هون يا قطّ بدّي نام (ص 47). قال الختيار: يعني انت ع راسك ريشة يا نصّ نصيص!(ص 66). أبس الختيار بهدله .. ثم خرمش صوته (وحد الله يا زلمه) (ص99). رد رجل المباحث: قب! منّك وورا (ص158)". ثانيًا: لغة أدبيّة، تنتمي لعالم السرد في الرواية الحديثة، -يحاول بها المؤلّف أن يضمن حدًّا كافيًا من الخروج من المحلّيّة-، وهي لغة تسيطر على أغلب مقاطع العمل الأدبيّ لمنحه خصائص الرواية الفنيّة؛ الواقعيّة المعتمدة في أدب السجون، وقد تمثّلت في دقّة الراوي في رسم معالم السجن والحياة فيه وعلى الأخص ما ذكر من أسماء وألقاب وحِرَف وتصنيفات للمساجين وطبيعة حياتهم وكيفية تشكيل مجتمعهم داخل جدران السجن ( انظر: ص19 – 25)، وبرع الكاتب -بتعالقه مع نصّين روائيين عالميين ونصوص عربية أخرى عديدة-، في صناعة رواية تنفتح على روح نضالية حرّة، وفوق أيديولوجية، أشبه برومنسية وجودية لاحتمال التجربة القاسية، ولصياغة مسيرة حياة البطل عماد، والكشف عن رؤيته الرحبة للعالم، كما صاغ تفصيلاتها الراوية بدقّة، وقد استمرّ ذلك في الرواية على امتدادها. ثالثًا: لغة عالية المستوى تتمثّل في ثقافة المؤلّف هاشم غرايبة بوعيه الحاليّ الذي أسقطه على إحدى الشخصيّات وهي؛ سعيد القطّ الذي جعل منه مثقّفًا عارفًا بالثقافة اليونانيّة (ص83 - 84) وهو صاحب حرفة السباكة، وغير المتعلّم ابتداء، كما أسقطه على شخصيّة الشاب عماد، الذي ما زال شابًّا يافعًا، في بداية المرحلة الجامعيّة، ودون سنّ العشرين، وعلى شخصيات الرواية جميعها على حدّ سواء، وقد تبدّى علو المستوى فيها من خلال صياغات مشرقة لغويًّا وبلاغيًّا، ومن خلال دخول الكاتب(المؤلّف)/الراوي/ البطل في تناصّ مع رواية الأمير الصغير للروائيّ الفرنسيّ أنطوان دو سانت إكزوبيري على امتداد الرواية، والتحليق مع نورس الروائيّ جوناثان ليفينغستون سيغال (ص 172- 173)، واستذكار ريتشارد باخ (ص 172)، واستدعاء عرار وشعره (ص110)، وذكر لشخصيّة ميشع، واستشهاد بشعر للشاعر الجاهليّ الإسلاميّ أي المخضرم تميم بن أبيّ بن مُقبل (ص133)، وبيت شعر لبشارة الخوريّ "الأخطل الصغير" (ص 195)، وإشارات إلى كتب التاريخ والآثار حول "تلّ إربد" حيث السجن الذي تجري فيه أحداث الرواية، وعمق الحديث عن فكرة السرداب وغيبة الإمام المهديّ فيه (ص 168 - 169)، وأخيرًا ذِكْرُ عددٍ كبيرٍ من رموز الثقافة في الشرق والغرب في إحدى الرسائل التي يكتبها عماد لمحبوبته مها منوهًا على حبّه لأشياء كثيرة منها استعراض تلك الأسماء (ص 175). وهذا ما جعل الرواية تميل إلى الرومنسيّة في صياغتها التصوّر الورديّ لتجربة السجن التي تبدأ بشكل عناد صبيانيّ محكوم بصغر سنّ عماد وحماسته غير الواقعيّة، وتستمرّ لتصنع من هذا السجين بطلاً يؤثّر في كلّ مَنْ حوله مِنَ المسجونين الكبار في السن والمجرمين والفاسدين على اختلاف قضاياهم، ويحقّق علاقة حبّ مع مها وهي الفتاة التي تزور والدها المهندس المسجون في قضية اختلاس وفساد مالي، ويصير عماد أشبه بالقدوة والقائد هناك الذي يقتصّ من مدير السجن نفسه بالتسبب بنقله من مكان عمله. حتى ليكاد الراوي يؤسطر لنا هذه الشخصية التي لم تمكث في السجن أكثر من سنة ونصف، وتنتهي الرواية بهرب هذا البطل من هناك بسهولة ويسر.
وليس أدلّ على هذه الروح الرومنسيّة في الرواية من المقطع الآتي في نهايات الرواية بين القط وعماد "ابتسم عماد: خير يا طير..؟ - تحبّ تعرف مين القطّ يا رفيق؟ رفع عماد حاجبيه .. فقد كان يفكّر في مها، وليس به رغبة أن يسمع شيئًا عن سواها .. لكنّ القطّ أسند كوعيه إلى ركبتيه، ووضع قبضته تحت حنكه، وانطلق بكلام فصيح يتلوه كتلميذ يردّد محفوظة، فيما شعره المصبوغ يدلف ماء معتمًا حبّة إثر حبّة مثل زيتون اليتامى .. [ولدت كآلاف من يولدون بآلاف أيام هذا الوجود. لأنّ فقيرًا بذات مساء سعى نحو حضن فقيرة، وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية. كبرت كآلاف من يكبرون، حين يقتاتون خبز الشموس. ويُسقون ماء المطر. ويلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة. فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبت خطاهم وهذي الحياة ضنينة!] قال مجيبًا الأسئلة التي تومض في عيني الرفيق: هل تدري يا رفيق، أنّي يومًا ما .. كنت أحبّ الكلمات .. هبطت خصلات شعره المبلّلة على وجهه، وتابع: لمّا كنت صغيرًا وبريئًا كانت لي أمّ طيّبة ترعاني. وترى النور بعيني. وتراني أحلى أترابي. أحلى أخداني. فلقد كنت أحبّ الكلمات .. وأغنّيها. صبحي في المدرسة. وظهري بين المكتبات العامّة، ومساء مع بسطات الكتب، وأعود لأمّي بالألفاظ البرّاقة كالفخّار المدهون. أمّي كانت تتلذّذ بأقوالي. تتلقّاها أذناها شهدًا. يبتسم خدّاها، عيناها، مفرقها. ويغرّد فيها صوت لا أسمعه إلاّ في ذاك الحين: الله يصونك لي. ويمد حياتي حتّى أراك أستاذًا، أو قاضيًا، أو واليًا، أو صاحب نعمة. نفض شعره عن وجهه وقال بأسى: لكني صرت "حرامي"! هبط حاجبا عماد تعاطفًا ولم يقل شيئًا .. مسح القطّ دمعته بإبهامه وتابع مشيحًا عن عيني رفيقه المندهشتين: كانت أمّي خادمة تجمع كسرات الخبز، وفضل الثوب من بعض بيوت المترفين .. وأنا لا همّة لي إلاّ في هذا اللغو المأفون! مرضت أمّي، قعدت، عجزت، ماتت .. هل ماتت جوعًا؟ .. لا! هذا تبسيط ساذج يلتذّ به الشعراء الحمقى والوعاظّ الأوغاد. حتّى يخفوا بمبالغة ممقوتة وجه الصدق القاسي. أمّي ما ماتت جوعًا! أمّي عاشت جوعانة، ولذا مرضت صبحًا، عجزت ظهرًا، ماتت قبل الليل .. ثمّ تنهّد دامعًا: ما تركت لي إلا العرزال وشجرة التوت .. قاطعته صفّارة يونس تدعوه لتسلّم كيس العدّة .. فاضت عيناهما بالدمع .. مسّد عماد شعر القطّ الذي صار بلون الألمنيوم المعتم، وقال بحنان: هاي من صلاح عبد الصبور!* [*إشارة إلى "مأساة الحلاّج" مسرحيّة شعريّة لصلاح عبد الصبور] قال وهو يغصّ بدمعته: مزبوط يا رفيق .. لكن عبد الصبور غلطان .. هاي قصّتي مِشْ قصّة الحلاّج .. صدّقني يا رفيق .. الجوع ممكن يصنع شحّاد أو حرامي .. الجوع ما يصنع ثائر. شدّ عماد على يدي القط بودّ خالص: تعلّمت منك الكثير يا صاحبي. علّمتني الفرح، واليوم علّمتني .. رفع القطّ إصبعه مقاطعًا: السجن كلّه تعلّم منك يا عماد. أنت غيّرتنا .. طلّعت النبل اللي جواتنا .. ذكّرتني إنه لي جناحان. دمعت عينا عماد .. ضحك القطّ: قريبًا تفرج يا رفيق. لكن مشاكل السجن لا تفرج"(ص185 – 187).
أثبتّ هذا النصُّ على طوله- لأنَّه محمّل بالدلالات- على المستويات العديدة في الرواية، وعلى طابعها الذي أشرت إليه بامتياز، فقد جعل المؤلّف من القطّ/السبّاك فيلسوفًا وأديبًا عالي المستوى فكرًا ولغة، وقد أقرّ عماد بأنّه تعلّم منه الكثير، وعنوان الرواية يصرّح بذلك، ولكنّ القطّ بدوره يؤكّد لعماد أنّه هو المؤثّر في كلّ المساجين بما يؤسطر هذه الشخصيّة دون موجبات واقعيّة في العمل الأدبيّ.
إنّ علاقة القطّ بعماد إشكاليّة الطابع على صعيد البناء الفنّيّ في الرواية، فالقطّ أقدر من عماد على القول، وعلى رصد مظاهر المكان وناسه في إربد، وعلى استخلاص حكم الحياة وطبيعتها، بحكم السن والخبرة، لذلك جاء به المؤلّف ليكون النموذج للبطل في مغامرته الجنسيّة والوجوديّة والحياتيّة العامّة، ومن ثمّ جعله يقدّم كل ما لديه منحة في مديح عماد البطل صغير السن.
كما أنّ الراوي هو الآخر يقوم بدور رسم فضاء الرواية ورؤية العالم نيابة عن البطل، فيؤكّد هذا الراوي – علم أم لم يعلم – انسجام الأجهزة الأمنيّة وقوتها وقسوتها ومنطقيتها ونظافة إجراءاتها من خلال المساجين فهم يتوزعون بين مجرم حقيقيّ ونصاب ومختلس ومزوّر ومدير عام ووزير سابق وضابط فاسد، فكأن المؤلّف ومن بعده الراوي ومن ثمّ البطل، يؤكّدون ثلاثتهم على امتداح الدولة بنظامها القائم، فليس من ظلم يقع على هذا الشاب الذي لم يستنكر الحزب الممنوع الانتماء إليه قانونيًّا في هذه الدولة.
ولعلّ مسيرة عماد الوردية في السنة والنصف التي قضاها في السجن تؤكّد هذا النفس الرومنسي في الرواية، فهو على صغر سنّه لم تطله إساءة السجناء، ولم يتعرّض له رجال الأمن بالإهانات، بل على العكس من ذلك فقد نُقل مدير السجن بعد أن أساء إليه وإلى والده في إحدى الزيارات. ناهيك عن حَبْك اتصال بين رجل وامرأة في السجن بما يشبه الخيال لخلق حالة من التشويق للقارئ بحضور المرأة واقعيًّا في تجربة السجين. علاوة على نسج قصّة حبّ حقيقيّة بين عماد المسجون ومها الزائرة لأبيها، التي تغدو متيّمة بهذا البطل، فلا ترى فتى لأحلامها بين كل الطلقاء، فتصير عاشقة لهذا الفتى على سمع والدها السجين وبصره، وهو أحد المسجنونين بقضية فساد.
إنَّ الموازاة بين شخصية عماد والأمير الصغير في رواية الأمير الصغير للروائيّ الفرنسيّ "أنطوان دو سانت إكزوبيري"، تشكّل ملمحًا فنيًّا بنائيًّا محكمًا على صعيد الرواية، لكنّ هذا الملمح يعبّر بوضوح وجلاء عن مستوى التصوّر الرومنسي لطبيعة التجربة التي يخوضها البطل في رواية تعدّ من روايات أدب السجون. والدليل على ذلك أنّ الرواية تسير منذ البداية بنفس شفيف يبعد عمادًا عن الحزب وعن الفكرة التنظيميّة الشيوعيّة شيئًا فشيئًا، حتّى يصل به الأمر في نهاية المطاف إلى شتم الحزب لتدخّل الرفاق بينه وبين محبوبته مها.
أخيرًا تأتي نهاية الرواية مفاجئة وصادمة لسلسلة تطوّر الأحداث، فليس من مسوّغ بنائيّ أو عقلي أو منطقي لهرب البطل عماد والقطّ بهذه الطريقة، -إلاّ أن تكون تجربة السجن لعبة أو فانتازيا ما بين البطل والعالم من حوله، أو أن تكون الرواية مخلصة إخلاصًا مفرطًا لحسّها الرومنسي، أو ذاهبة بنا إلى خلق بعد رمزي للسجن والتجربة التي عايشها البطل للانتصار لبناء رواية ترصد بالتجريب التقني الروائي حالة التحوّل في حياة الإنسان الشاب الأيديولوجية والعاطفية، أو قل الإنسانية الوجودية في تجربة حبس ما، من باب الفن-، فقد كانت كلّ التطوّرات تدعو لأن يوقّع البطل على ورقة يتبرّأ فيها من الحزب الذي لم يعد يشكّل له الأفق المقبول أو المناسب، ويعود إلى الحريّة غير هارب ولا طريد، ويستأنف الحياة النضاليّة الجديدة في واقع المجتمع الذي بات له فيه رصيد كبير.
وختامًا فإنّ المفارقة في تحويل هذا المكان (السجن الذي دارت فيه الأحداث) مؤخّرًا إلى متحف وطني يحتفل فيه المؤلف بتوقيع الرواية وإشهارها، في ظلّ استمرار الظروف السياسيّة التي ما زالت غير مرحّبة بفكرة الأحزاب، لتحمل من داخل العمل نفسه دلالة على عافية في رؤية الراوي للعالم، ومن ثمّ رؤية كل من المؤلّف هاشم غرايبة وبطله عماد الحوراني للعالم كذلك. باستثناء سلوكه الأخير الذي اختتمت به الرواية.
وبعد؛ فلعلنا استمتعنا بعمل من أدب السجون يقع بين الرواية والسيرة الذاتيّة والمذكّرات، وأتحفنا كاتبه بصياغة تجربة تستحقّ القراءة والاهتمام، بلغة ثريّة بمستوياتها العديدة، وثقافة تظهر تجليّاتها على امتداد العمل من البدء حتّى الختام.