التنـاصُّ في روايات سليمان القوابعة

   ‏

الدكتور عبد الله الكساسبة*‏

 

‏ سليمان القوابعة هو واحدٌ من الروائيين الأردنيين المعروفين الذين برزوا في النصف ‏الثاني من القرن العشرين، حيث يتمتع بموهبة أدبية مميزة، لا سيّما في مجال الرواية، ‏ومما زاد في أهمية رواياته أنَّها حملت الهم الوطني والقومي سياسيًّا واجتماعيًّا، فمن ‏أعماله الروائية: جرح على الرمال، شجرة الأركان، حوض الموت، الرقص على ذرى ‏طوبقال،  ومنها روايتان مغربيتان في أحداثهما وشخوصهما ومكانهما: شجرة الأركان، ‏والرقص على ذرى طوبقال، إذ عبرت الروايتان عن  الهمِّ المغربي في فترة عصيبة مر ‏بها المجتمع المغربي أثناء الاستعمار الفرنسي. ‏

‏   حفلت معظم روايات القوابعة بقضايا هموم الوطن والأمة والقضايا السياسيّة: الوطنيّة ‏والقوميّة، فجاءت مسكونةً بعرض جوانب الاضطهاد السياسي الذي يعاني منه الإنسان ‏العربي، وبالأخص في الأردن وفلسطين والمغرب العربي، والمتمثلة في الاستبداد والظلم ‏والقمع والتعذيب والاستلاب. فكان التطلع إلى الحرية والاستقلال، ومقاومة الاستعمار ‏الفرنسي، والحكم العثماني التسلطي، والصهيونية، هو أمرٌ واجب على كلِّ فرد عربي ‏ومسلم، وكاتب روائي ملتزم.‏

‏     وقد نال جائزة الرواية العربية في المغرب لعام 1978م، واستطاع أن يوظف ‏التقنيات الحديثة في بناء رواياته؛  ومن هذه  التقنيات تقنية التناص بجميع أشكالها ‏وعناصرها، بكثافة عالية جدًا في روايتيه "حوض الموت، والرقص على ذرى طوبقال"، ‏إذ لم تُقحَم  إقحامًا بل جاءت في مواقعها.‏

التنـاص في روايات سليمان القوابعة

 

‏     التناص مصطلح أوروبي حديث، برز في أواسط الستينيات من القرن العشرين، ‏وكان يعني التعالق؛ أي الدخول في علاقة بين نصٍّ أدبي ونصوصٍ أخرى مختلفة. ‏‏"الزعبي، أحمد: التناص (مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية).‏

‏ ويعني عند رائدة هذا المصطلح (جوليا كرستيفا): «النقل لتعبيرات سابقة أو متزامنة، أو ‏هو «اقتطاع» أو «تحويل. وتضيف (كرستيفا): «إنَّ كلَّ نص يتشكل من تركيبة ‏فسيفسائية من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى»، ثم ‏توضح أن التناص يندرج في إشكالية الإنتاجية النصية التي تتبلور في عمل النص، وهو ‏نصٌ منتج بمعنى أن النص يتشكّل من خلال عملية إنتاج من نصوص مختلفة. ( ‏مرتاض عبدالملك، في نظرية الرواية ص107)‏

‏       وفي النقد العربي القديم يأخذ التناص معنى الاقتباس القرآني تارةً، وتارةً يأخذ ‏معنى التضمين؛ أي الأخذ عن النصوص الأخرى المختلفة التي تدخل في المخزون ‏الثقافي للأديب.‏

والتناص في أبسط صوره يعني: «أن يتضمن نصٌّ أدبي ما نصوصاً أو أفكاراً أخرى ‏سابقة عليه عن طريق الاقتباس، أو التضمين، أو التلميح، أو الإشارة، أو ما شابه ذلك ‏من المقروء الثقافي لدى الأديب، بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص ‏الأصلي، وتندغم فيه ليتشكل نصٌّ جديدٌ واحدٌ متكامل. ولا تبتعد تعريفات أعلام مفهوم ‏التناص أو روّاد هذا المصطلح كثيرًا عن هذا التعريف المبسط، وإن كان هؤلاء يتفاوتون ‏في رسم حدوده وتحديد موضوعاته ما بين متطرف ومعتدل" (الزعبىي، أحمد: التناص، ‏مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية، ص4"‏

ومن الجدير بالذكر فيما يتعلق بالتناص أنَّ مفهومه ليس جديدًا تمامًا في الدراسات ‏النقدية المعاصرة كما يرى بعض الباحثين في هذا المجال، وإنما هو موضوع له جذوره ‏القديمة في الدراسات النقدية، لكنّه بتسميات ومصطلحات أخرى، فالاقتباس والتضمين ‏والاستشهاد والقرينة والتشبيه والمجاز وما شابه ذلك في النقد العربي القديم، هي مسائل ‏تدخل ضمن هذا المفهوم (التناص) في صورته الحديثة.‏

وكذلك الحال عند النقاد الغربيين القدماء، فمصطلح المحاكاة والاستعارة، وتوظيف ‏الأسطورة والتضمين تدخل أيضًا ضمن هذا المفهوم في الدراسات الحديثة.‏

والفارق أن مفهوم التناص في الدراسات الحديثة قد تشعب واتّسع، وأُضيف إليه عناصر ‏جديدة وموضوعات تناصيّة أخرى كثيرة لا مجال لذكرها هنا.‏

وإذا أراد الكاتب توظيف التناص بإبداعاته يستحضرها من مخزونه الثقافي إلى نصّه ‏الأصلي، لوظيفة فنيّة أو فكريّة منسجمة مع السياق الروائي، سواء أكان التناص نصًّا ‏دينيًا أو تاريخيًّا أو أدبيًا أو غيره، ويمكن أن يكون هذا التناص مباشرًا أو غير مباشر ‏كالتلميح أو الإشارة أو الرمز.‏

‏   ولا تخلو روايات القوابعة من هذا المصطلح النقدي الحديث (التناص)، ولا سيّما في ‏روايتيه: "حوض الموت، والرقص على ذرى طوبقال". ومن نماذج التناص في روايات ‏القوابعة:‏

 

أ- التناصّ القرآني:‏

ويعني التناص الذي يأتي عبر ( الاقتباس) أو الأخذ عن آيات القرآن الكريم بشكل ‏واضح ومباشر، فيما يُطلق عليه بالتناص المباشر أو الظاهر؛ لأنّه يخضع لعوامل ‏الحفظ الذي ينشأ عنه بالضرورة اجترار النصوص المحفوظة. (مرتاض، عبد الملك: ‏تحليل الخطاب السردي).‏

استلهم القوابعة بعضَ النصوص القرآنية بين ثنايا نصوصِه الروائيّة، فوسم لغته الروائية ‏ببعضٍ منها، فشاعت أكثر هذه النصوص القرآنية في روايتيه: "حوض الموت والرقص ‏على ذرى طوبقال"، وبرز ذلك على امتداد السرد فيهما، مؤدية بذلك وظيفة بنيوية.         ‏

‏ ومن الأمثلة على التناصّ القرآني في رواية حوض الموت: ما ورد عن عقيد القوم وهو ‏يصفُ حوض الموت(الطفيلة) عندما غزاه ومعه أخلاط من أقوام شتى: "عقيد القوم نقل ‏وجهه من السرج إلى الحوض القاتم نظر المغشي عليه من الموت… واستنطق من ‏حوله…". (حوض الموت، ص: 8.) فهنا يصف هذا الحوض، بأنّه حوض بائس ‏يكتنفه غموض كغموض البحر، وحينها يسيطر اليأسُ والخوف على الغزاة، فيرجعون ‏خائبين.‏

‏  وهنا استحضر الكاتب النصَّ القرآني الوارد في الرواية من قوله تعالى: ( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي ‏قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ‎ ‎‏)‏‎(20) ‎‏. (سورة محمد، ‏آية:20.)‏

وورد في وصف الكاتبِ لأساليب التعذيب من قبل الأتراك لأهل حوض الموت: «والترك ‏على خيولهم في مداخل الأرياف والدروب يسوطون الناس سوط عذاب…». (الرواية، ‏ص: 11.) وقد استلهم الكاتب قوله تعالى الوارد في النص: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ ‏عَذَابٍ) (سورة الفجر، آية :13.)‏

وجاء في الرواية على لسان شيخ الجن وهو يصف البلدة قائلًا: «يا عابر السبيل… ‏تصبّر… تبصّر… أن لا تخف… هذه بوابة الفردوس خُلقت لمن خلط جرحه بجرح ‏الوطن، يقينًا، فهل تطيق معي صبراً؟… وأنَّ الساعةَ آتيةٌ أكاد أخفيها…فهل تندم؟». ‏‏(الرواية، ص: 27.) وقد استلهم الكاتب بعض النصوص القرآنية الواردة في النص من ‏سورة الكهف، قوله تعالى: (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) (72). (سورة ‏الكهف، آية: 72). وقوله تعالى: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ‎ (‎‏ ‏‏(سورة طه، آية: 15).‏

كما جاء في وصف أثر إحدى الغزوات على البلدة (حوض الموت) من شدة هولها ‏ووقعها على الناس، حتى أنَّ البلدة لم تنم مما أعقبته هذه الغزوة من مصائب على ‏الناس، لكنَّ تكاتف الناس مع بعضهم بعضًا جعلهم يصدون الغزاة والمهاجمين: «نهض ‏الخيالة، وشدّوا أطراف الكوفيات ثلاثة أيام حسومًا وقيل ثلاثة أيام وثلث…في وسط ‏ظلمات بحر لُجيّ مُدلهم لا يستبين الرجل رمحه… والجثث تناثرت في كل مكان بلا ‏رؤوس مثل أعجاز نخل خاويّة…» (الرواية، ص:25.)‏

فقد استحضر الكاتب قوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا ‏صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).( سورة الحاقة، آية: 7.) و( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ‏مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ )‏‎(40)‎‏ (سورة النور، آية: 40).‏

ـكما ورد على لسان علي بن القف عندما سأله بعض الجالسين عن تاريخ بناء مسجد ‏ابن الحنفية: «ليس هناك في البلدة سوى مسجد من حجر وطين… بُني على أثرٍ من ‏ابن الحنفية يوم نفذ من مكة أيام المحنة… وانتبذ مكانًا قصيّا، فاعتصم في بلاد ‏الجبال، قال ابن القف: «ابن الحنفية… استقر هنا… وكان يبدو لمن يراه نداءً خفيّا ‏حتى عظم الأمر، وعلى أرض صومعته بني المسجد».( الرواية،ص:33) وهنا ‏استحضر الكاتب قوله تعالى:( فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ). (سورة مريم، آية: 22)، ‏وقوله تعالى من السورة نفسها: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)(سورة  مريم، آية: 3).‏

‏   والأمثلة في الرواية كثيرة من التناص القرآني.( حوض الموت، انظر ص: 14، 33، ‏‏54، 62، 85، 89، 116، 117، 198، 205.)‏

وفي رواية الرقص على ذرى طوبقال أمثلة أخرى من التناص القرآني، ومنها على سبيل ‏المثال: فقد جاء في الرواية على لسان الراوي/ البطل عندما قام جندٌ من الفرنسيين ورموا ‏كتاب الله تعالى على الأرض، فغضب (مدين) غضبًا شديدًا وصرخ في وجه الجند ‏وتحداهم قائلاً: "صرخت بأعلى الصوت في وجه كبير العسكر: أقسم بالخنس الجواري ‏الكنس، والليل إذا عسعس…أنّني سأمثلُ في المركز كلّ يوم قبل الشمس كي أعمل وكي ‏ألقاك… أتحداك… فهل تأتي…؟؟!. (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 123) فاستلهم ‏الكاتب قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏‏(١٧))(سورة التكوير، آية: 15، 16، 17.) وورد على لسان القرين المتوهم وهو يخاطب ‏مدين: «ها، هاه، الله… وكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد». فاستحضر الكاتب ‏قوله تعالى: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏‎(‎‏ (سورة ‏ق، آية: 22).‏

ـومن الأمثلة الأخرى ما جاء على لسان البطل / الراوي وهو يخاطب نفسه/ مونولوج ‏داخلي عندما وجدوا والده ميتًا قي قادوس:« تّشّقُ الليل ألسنة دخان… والنجم والشجر ‏يسجدان … الوادي والريح يسجدان… الرياحي والقادوس يلتقيان…».(الرواية، ص: ‏‏203.) وقد استلهم الكاتب قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ )، و( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏‏* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ‏‎ *‎‏)(سورة الرحمن، آية: 6، 19.)‏

والأمثلة في الرواية من التناص القرآني كثيرة.( الرواية، انظر ص: 16، 39، 70، 98، ‏‏123، 150، 166، 194، 214.)‏

‏****‏

كما استلهم الكاتب بعضًا من قصص القرآن الكريم، فقد استحضر الكاتب قصة أهل ‏الكهف في رواية "الرقص على ذرى طوبقال"، فقد ورد على لسان الراوي: "… بين ‏الكثبان والتلال أناسٌ… وتقلبهم الشمسُ، بغضب رمضائها، ذات اليمين وذات الشمال… ‏يلتفتون إليها بجرأة فيقلبونها وهي راكدة في كبد السماء…».( الرواية، ص: 115.)‏

وفي هذا النص إشارة إلى معاناة الناس في الصحراء من قسوة الحياة فيها وشدة حرارتها، ‏ومن ضمنهم المناضلون ضد جنود الاحتلال، فأينما يتوجّه الناس في الصحراء تبقى ‏المعاناة نفسها.‏

وقد استحضر الكاتب هنا قصة أهل الكهف: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ‏وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ ‏رُعْبًا) .( سورة الكهف، آية 18.)‏

 

ب- التناصّ التراثي:‏

‏     وظف القوابعة الكثير من الموروثات الشعبيّة في رواياته، وبالأخص روايتيه: ‏‏"الرقص على ذرى طوبقال وجرح على الرمال" كالأدب الشعبي: الحكايات الشعبية ‏والأمثال والأغاني والمعتقدات الشعبية. وقد أعطى رواياته نكهةً شعبيّةً مُتكئاً على ‏مخزونه الثقافي، ليكشف لنا الانتماء إلى الأرض التي أقلت أهلها والسماء التي أظلتهم. ‏وقد جاء ذلك بلغة مرسومة بصورة شفافة.‏

‏    فمن الأدب الشعبي ما جاء في رواية "الرقص على ذرى طوبقال" على لسان البطل ‏الراوي، وهو يتخيل عشيقته (ميري) في السكن، وهي تهمس في أذنيه لتودعه في جوف ‏الليل، يقولُ لها: «لقد دنا الليلُ من فجره… فهاتِ ملحة الوداع». (الرقص على ذرى ‏طوبقال، ص: 74.) وهنا استحضر الكاتب هذه العبارة من كتاب الإمتاع والمؤانسة التي ‏جاءت في آخر حكاية الليلة الحادية والثلاثين. ( أبو حيان  التوحيدي" محمد بن علي ‏بن العباس": الإمتاع والمؤانسة، ج3)‏

‏    وورد على لسانه وهو يصغي إلى (ميري) وهي تتحدث عن الحضارة والتحضر، ‏وعن زوجها، فيمل منها ويسخر من حديثها ويطلب إليها أن تعطيه شيئًا من الراحة: ‏‏«زمت شهرزاد شفتيها بإلحاح… وسكتت عن الكلام المباح».( الرواية، ص: 92.) وهنا ‏استحضر الكاتب الجملة المتكررة في آخر كلِّ حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة؛ ‏‏«وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح».‏

‏     وفي رواية "حوض الموت" استطاع الكاتب أن يوظف حكاية "تغريبة بني هلال" ‏ولو بإشارة عابرة من بعيد لنصّه الروائيّ، فقد طلب عوض بن خلف من جدعان بن ‏عاتب أن يحدثه عن  «تغريبة بني جبال»، (حوض الموت، ص: 164.) وهنا يربط ‏الكاتب هذه الحكاية بـ «تغريبة بني هلال» إلى شمال أفريقيا.‏

‏     ومن أشكال التناص الأخرى لدى الكاتب في رواياته توظيفه للأحداث التاريخيّة ‏ورموزها والأعلام والشعر، ولو بإيماءةٍ من بعيد. واستطاع أن يجعلَ من شخوصه ‏متحدثين عن أثر الوشاية والجاسوسية في تدمير البلاد وسقوطها، في حين أن الاتحاد ‏قوة للجميع.‏

‏     فعلى سبيل المثال ما جاء في رواية "الرقص على ذرى طوبقال" من حكاية المعتمد ‏بن عباد: «وشيخٌ بعمامة جلس على كرسيٍّ يتحدث في مدار حلقة… مؤلمة جدًا ‏عذابات الوشاية… نعم… ابن تاشفين وقبل خمسة قرون هرّب المعتمد بن عباد من ‏إشبيلية إلى المغرب…جردوه من ملكه، أبقاه مطعون الخاطر في سجن (آغمات) بمراكش ‏مُقيدًا بسلاسل وكرات حديد، يعيش على فتات من عرق بناته وزوجته الرميكية… يغزلن ‏الصوف بأجر…آه…آه… ومات ابنُ عباد الفارس صبرًا؛ بسبب وشاية مخبر، أو ‏بصّاص… يا سادة… !». (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 61.)‏

‏    فقد استحضر الكاتب هذه الحادثة التاريخيّة وربطها بحكاية العملاء والوشاة ‏والمخبرين والبصّاصين لصالح المحتل الأجنبي، ولاسيّما الرياحي بن ميلود-أبو مدين- ‏وأعوانه.‏

وشبيه بهذه الحكايات التاريخيّة، حكايات بو سعيد الأعمى للأطفال: "بو سعيد الأعمى ‏كان يحكي لطفولتنا عن ألف ليلة وشهرزاد… يتبعها ليلة عن غزو الرومان وأخرى عن ‏التتار، وقد ذبحوا بغداد بسرٍّ من الوزير ابن العلقمي…" وفي لحظة حزن يُحدّثنا عن ‏احتلال غرناطة وخيبة أبي عبدالله الصغير حين بكى.(المصدر نفسه،ص:75.)‏

‏    وكذلك جاء الكاتب بقصة (أبرهة الحبشي) عندما غزا الكعبة، فقد كان يعتمد على ‏جاسوسه ( أبو رغال)، الذي دلّهم على مكة، لكن الجاسوس مات في (المغمس) بين ‏الكعبة والطائف ورجمه الناس. يقول الراوي البطل على لسان رجل طاعن في السن: « ‏أه… يا حضار… أسمعتم بسيف بن ذي يزن يوم اهتزّ للوطن… امتشق السيف… ‏انطلق مع السرى في حومة الوغى ينوي تحرير تربة اليمن…التقى خصمه في بداية ‏النزال…نعم، نعم، التقى البطلان كأنّهما جبلان… فاستمر الضرب والطعان إلى أن ‏وصل الدم حدَّ الركب… ابن ذي يزن وقومه إذ توحدوا يا سادة يا كرام، أزاحوا الظلم ‏والبؤس عن بلادهم فخف عنهم الوجع…». (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 100.)‏

‏     لقد استحضر الكاتب هذه الأحداث التاريخية من الماضي على لسان شخوصه ‏ليأخذَ منها المستمعون الدروسَ والعبرَ من الماضي إلى الحاضر، ويربط ذلك بحكايات ‏الوشاية وأثرها في سقوط بعض الدول واستمرار الاحتلال أحيانًا، ويقارن ذلك مع حكاية ‏‏(سيف بن ذي يزن)، كيف اتحد معه قومه وحرروا بلادهم، فبالعزم والتصميم والاتحاد ‏تمكنوا من مقاومة الغزاة وطردهم. ‏

‏    كما تحدث الكاتب عن رموز تاريخيّة موروثة على لسان البطل الراوي: "فالوهم ما ‏زال يسيطر على الجنرال (جاكوب) في سيطرته على رجال المقاومة، فكان يكابر أنَّه ما ‏زال مسيطراً عليهم". وهنا استحضر الكاتب أحدَ الرموز التاريخية القديمة وهو (يوشع):‏

‏«ربما صدّق… أنَّ (يوشع) حاول أن يسبتَ فأوقف الشمس… ذبح أريحا، وداس ‏رمادها…» (المصدر نفسه، ص:154.)‏

‏    ولم تخلُ رواية "الرقص على ذرى طوبقال" من شطر بيت من الشعر أو مقطع، ‏وذلك لما يحمل الشعرُ من دلالاتٍ وإيحاءات نفسيّة تتناسب وبنيةَ الرواية، سواء أكان ‏الشعرُ قديمًا أم حديثًا. فمن الشعر القديم ما جاء على لسان (بو عرام) وهو يخاطب ‏مدين: « … من… يا ساهر البرق، مساحة الهم تكبر…أيقظ ابن حسون… أيقظ راقد ‏السمر…». (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 107.) وهنا استلهم الكاتب بيتَ أبي ‏العلاء المعري ( أحمد بن عبد الله بن سليمان) المشهور:‏

‏- "يا ساهرَ البرق أيقظ راقدَ السّمُر      لعلَّ بالجزع أعوانًا على السهر"ِ.( المعري، أبو ‏العلاء  ديوان سقط الزند).‏

وجاء كذلك في الرواية: "… جادك الغيث إذا الغيث همى ‏ يا زمان الوصل…" !!( ‏الرقص، على ذرى طوبقال، : 181.)‏

وقد استلهم الكاتب هذا البيت من مطلع موشحة الشاعر لسان الدين بن الخطيب ‏المشهورة، الذي عارض فيها موشحةَ ابن سهل الإشبيلي، وفيها يمزج المدح بالغزل ‏ووصف الطبيعة: ‏

‏-‏ ‏"جادك الغيث إذا الغيثُ همى ‏ يا زمانَ الوصلِ بالأندلس".‏

‏    استلهم الكاتب بعضَ النصوص القرآنيّة والتراثيّة، إلى جانب بعض الأحداث ‏التاريخية، فكانت عنصرًا أساسيًّا في بناء رواياته، فقد جلبت تلك النصوص معها بعض ‏المعاني، وخلقت صلةً بينها وبين العمل الجديد مما شكل تعزيزًا للغة الروائية.‏

‏    ومن الواضح أنَّ جميع هذه العناصر التناصية لم تُقحم على الروايات بل جاءت في ‏مواقعها، فأسهمت في البناء الفني والتحمت مع الأحاديث وانسجمت معها بحرارة.‏

‏                                                 ‏

كاتب وناقد أردني‏