رواية" ‏‎1984 ‎‏ " رائعة الكاتب الإنجليزي ‏ جورج أورويل كيف قرأ المستقبل واستشرفه؟ ‏

وفيق صفوت مختار

كاتب وناقد مصري

 

مزج «  جورج أورويل » بين الحسّ السياسي والمُعالجة الجماليَّة، وقد نجح في ذلك تمامًا، خاصَّة ‏في روايتيه « مزرعة الحيوان »، و«‏‎1984 ‎‏ ». وقد كان « أورويل » روائيًّا وناقدًا وصحافيًّا ‏وكاتب مقال متميِّز، كُلّ ذلك في روحٍ تهكميّةٍ ساخرةٍ، وبأسلوبٍ سلسٍ دقيقٍ مُحدَّدٍ، فالمعنى هو ‏الذي يُحدِّد الكلمات التي يختارها، وتفكيره الواضح أدى إلى نجاح كتاباته، وقد ساعده ذلك الأسلوب ‏أن يجعل من الكتابة السياسيَّة فنًّا من الفنون.‏

 



 

ولد « إيريك آرثر بلير » ‏Eric Arthur Blair‏ وهو الاسم الحقيقي لـ « جورج أورويل » ‏George Orwell‏ الاسم المستعار له الذي اشتُهر به،  في‎25 ‎‏  يونيو ‏‎1903‎م  بمدينة « ‏موتيهاري » في ولاية «بيهار » الهنديّة لأسرةٍ من الطبقة المتوسطة. وتوفي في صباح يوم ‏الحادي والعشرين من يناير عام‎1950 ‎م بسبب انفجار أحد الشرايين الموصلة لرئتيه عن عُمْر ‏يناهز السَّادسة والأربعين.‏

‏ ‏

من أشهر أعماله الأدبيّة رواية «‏‎1984 ‎‏ »، التي كانت تُعدُّ من الروايات الثوريّة والخطرة ‏سياسيًّا، ممَّا أدى إلى منع تداولها في عددٍ من الدول التي كانت محكومة بحكوماتٍ شموليّةٍ ‏كروسيا، وحتى غيرها من الدول الأخرى. وبالرغم من ذلك لقيت الرواية نجاحًا هائلًا حتى قبل ‏نشرها، ففي بريطانيا وحدها بلغ إجمالي مبيعات نسخ الكتب المحجوزة قبل النشر (‏‎11‎‏) ألف ‏نسخة. وقد تمَّ ترجمتها إلى (‏‎62‎‏) لغة. وقد اختارت مجلة « تايم » الرواية كواحدةٍ من أفضل ‏مئة رواية مكتوبة بالإنجليزيَّة منذ عام‎1923 ‎م وحتى الآن، كما حدث مع  روايته « مزرعة ‏الحيوان ». ‏

 

الرواية تدور في إطارٍ تخيُّلي ولكنَّه مستقبلي، يماثل فيه  «أورويل » بين أشكال الأنظمة ‏الاستبداديّة كافة، سواء: الشيوعيّة أو النازيّة والفاشيّة وبين عالمه المُتخيَّل، ذلك القائم على نظام ‏الحزب الواحد الذي يتحكَّم في حياة النَّاس وضمائرهم. ‏

 

فسَّر البعض الرواية على أنَّها تتحدَّث عمَّا يحدث في الاتحاد السوفيتي الشيوعي، وأنَّ « ‏أورويل » يُشير إلى « جوزيف ستالين » (‏‎1953-1878‎م) عندما يتحدَّث عن « الأخ الأكبر ‏‏»، لكن الأرجح أنَّه ببصيرةٍ وعبقريةٍ مدهشتين إنَّما يتحدَّث عن المستقبل، ويتكلم عن خوفه من ‏الأنظمة الشموليّة عمومًا، التي ستستخدم التكنولوجيا والإعلام لطمس الحقائق وتغييرها، ولتوجيه ‏النَّاس بحسب رغبتهم عبر عملية  « غسيل مخ » مكثّفة، وهو الحادث في يومنا هذا، وحتى في ‏أكثر البلاد التي يمكن أن نصفها بالديمقراطية. وقد قال الكاتب الأمريكي « نعوم تشومسكي »‏‎ ‎Noam Chomsky‏: « نعم، إنَّ نبوءات أورويل قد تحقَّقت، وإنَّ ما حذرنا منه قد وقع بالفعل، ‏على الأقل في جوهره ».‏

 

والرواية ليست مُجرَّد هجوم على النظم الشموليّة لأنَّ مدلولها أعمق وأشمل من هذا بكثير، فهي ‏تنطوي على تحذير للديمقراطيات الغربيَّة بأنَّها ليست في مأمنٍ من اندفاع العالم الحديث نحو تلك ‏الأنظمة، بحيث يمكن القول بأنَّ هذه الرواية لونٌ من ألوان المدن الفاضلة المعكوسة، أو « ‏اليوتوبيات التحذيريّة »، في مُقابل « اليوتوبيات المثالية » التي يحلم مؤلِّفوها بأن تصل إليها ‏الإنسانيَّة يومًا ما.‏

 

ويمكننا القول إنَّ « أورويل » في روايته هذه إنَّما كان يتنبأ بمصير العالم الذي ستحكمه قوى ‏كبري تتقاسم مساحته وسكانه، ولا تُحقق أحلامهم، أو تلبي طموحاتهم، بل تحوِّلهم إلى مُجرَّد أرقام ‏في جمهوريات « الأخ الأكبر »، الذي يُراقب كُلّ شيء، ويعرف كُلّ شيء، فحكمه هو الحكم ‏الشمولي بعينه. لقد وصف الكاتب بشكلٍ دقيقٍ تحوُّل القيم البشريَّة إلى أشياء هامشيةٍ، ومن ثمَّ ‏سطوة الأحزاب السلطويّة والشموليّة على النَّاس والشعوب ومقدراتهم، يصيرون في النهاية بلا ‏مشاعر ولا عواطف، يفتقدون الآمال والأحلام، ويعملون كالآلات الخرقاء خوفًا من هذا « الأخ ‏الأكبر » الذي يُراقبهم على مدار السَّاعة!!‏

 

تدور أحداث الرواية في المستقبل، في مدينة « لندن » عام‎1984 ‎‏. بطل الرواية هو« ونستون ‏سميث » الذي يبلغ من العمر‎39 ‎‏ عامًا، وهو عضوٌ صغيرٌ في الحزب الحاكم في لندن التابعة ‏لدولة « أوقيانيا ». يعمل موظفًا في « وزارة الحقيقة » حيث يُغيِّر الحقائق التاريخيَّة كي تتناسب ‏مع توجّهات الحزب، يُراقبه رجال الشرطة، ويُراقبه الجيران أيضًا، رغم أنَّه ليس مجرِّمًا وليس ‏مُلاحقًا، ولكن الرقابة نوع من السلوكيات اللاإرادية التي يقوم بها الجيران ضدّ جيرانهم !!‏

 

الحزبُ الحاكم يُسيطر على كُلِّ شيء في « أوقيانيا »، حتى على النَّاس والتاريخ واللُّغة. ‏ويحاول الحزب في الوقت الحالي فرضَ لغة جديدة على النَّاس، يُسميها: « الحديث الجديد »، ‏بهدف مقاومة التمرُّد السياسيّ، بحذف كُلّ الكلمات المُتعلقة به في اللُّغة. ويُمنع مُجرَّد التفكير في ‏التمرُّد، فتلك تُعدُّ من أسوأ الجرائم وأخطرها... التي يمكن أن يرتكبها الفرد.‏

 

كان « ونستون سميث » يعرف جيّدًا بأنَّ ثمَّة شيئًا خاطئًا في العالم حوله. يعلم يقينًا بأنَّ وقتًا ‏قد مرّ عليه من قبل لم يكن فيه الطعام بهذا المذاق السيئ، ولم تكن الملابس دائمًا خشنة، ‏رصاصيّة، ولم تكن الوظائف كئيبة مملة، ولم يكن هناك هذا الخوف المُسيطر، والشك الدائم من ‏كُلّ شخص وأي شخص. لكن كيف عرف «ونستون » بأنَّ ثمَّة اختلافًا عمَّا كان في الماضي، ‏وهو لا يتذكَّر شيئًا عنه؟ كيف سمح لنفسه بأن يشك في « الأخ الأكبر »، الذي يُراقب الجميع ‏دائمًا؟، وكيف يشك في الحزب.. الذي هو دائمًا على صواب؟. ‏

 

لماذا يحاول وبشكلٍ غريزيّ أن يتفادى شاشة أجهزة « التليسكرين » المنتشرة في كُلِّ مكان، ‏التي اعتاد الجميع عليها؟ هذه هي الأسئلة التي تشغل عقل « ونستون » بشكلٍ دائمٍ ومزعجٍ. ‏يعرف أنَّه مختلف بشكلٍ أو بآخرٍ عن الجميع، لكنَّه لا يعرف لماذا يختمره هذا الشعور، ولا يعرف ‏كيف سيصل لإجابةٍ على هذا السؤال، ولا على كُلّ الأسئلة الأخرى.‏

 

إنَّ العالم الذي يعرفه « ونستون » مليء بالكُره والغضب والخوف، عالم أشدّ ما يحتاج إلى ‏الجمال، وإلى إجاباتٍ شافيّةٍ. ودائمًا ما يتساءل عن الماضي، كيف كان؟ وهل الحقائق التي ‏يخرج بها « الأخ الأكبر » من حينٍ لآخرٍ هي الحقيقة فعلًا، أم أنَّها مُجرَّد أكاذيب؟. إنَّ ‏الماضي/ التاريخ يتمَّ إعادة كتابته بشكلٍ مستمرٍ عن طريق « الحزب »، بل إنَّ وظيفة « ونستون ‏‏» هي أن يُساعد في حَبْك تغيير الحقائق لتبدو واقعية، ولتناسب متطلبات الوقت الحاضر بحسب ‏رؤية « الحزب »، و« الأخ الأكبر ». إنَّه يُحبّ وظيفته ويكرهها في الوقت نفسه، لكنَّه لا ‏يستطيع عمل شيء مُقابل هذا التناقض الذي يعيش فيه.‏

 

لم يستطع « ونستون » أن يبقى على رتابة حياته أكثر من ذلك، ولقد بدأ اليوم إجراءًا صغيرًا؛ ‏وذلك لا ينفي أنَّه إجراء ثوريّ. لقد اشترى مفكرة ورقيّة من بائعٍ بإحدى المكتبات، ثُمَّ جلس في ‏منزله بزاويةٍ تجعله بعيدًا عن شاشة « التليسكرين » التي ترصد تحرُّكات الجميع. وبدأ في كتابة ‏يومياته، على الرغم من أنَّ ذلك يُعتبر جريمة في شريعة « الأخ الأكبر »، بل وعقوبتها الموت.‏

 

تقوم « وزارة الحقيقة » بواسطة كادرها الكبير بتغيير البيانات والمعلومات الموثقة على مدار ‏السَّاعة، لتتماشى مع استراتيجية الحزب وأهدافه والحكومة بقيادة « الأخ الأكبر »! فهناك ‏موظفون يقومون بحذف كُلّ تلك الوعود المُحرجة من الأرشيفات الصحافية، واستبدالها بتنبؤاتٍ ‏مذهلة !!‏

 

وفي « وزارة الحقيقة » حيث يعمل « ونستون » يلحظ وجود زميلة جميلة ذات شعر داكن ‏تراقبه، فيعتقد أنَّها مرشدة مدسوسة عليه لتكتب التقارير حول أفكاره. كذلك ينتابه القلق الشديد ‏لسيطرة الحزب الحاكم على التاريخ، حيث يدّعي رجال الحزب أنَّ « أوقيانيا » كانت متحالفة ‏دومًا مع « إيستاشيا » في حربها ضدّ « أوراشيا »، لكن « ونستون » يتذكَّر أنَّ ذلك مُخالف ‏للحقيقة. ‏

 

يزعم الحزب أيضًا بأنَّ « مانويل جولدستين » زعيم الأخوة المزعومة أخطر رجل على وجه ‏الأرض، لكن ذلك لا يبدو مقبولًا بالنسبة إليه. يقضي « ونستون » أمسياته في أحياء لندن ‏الفقيرة، حيث تعيش البروليتاريا والطبقة الكادحة حياةً تخلو من مراقبة الحزب المستمرة.‏

 

في أحد الأيام يتلقى رسالة من زميلته ذات الشعر الداكن، تقول: « إنِّي أُحبَّك ». وتخبره أنَّ ‏اسمها «جوليا »، فيبدءا علاقةً سريّة دائمة التوجس من مراقبة الحزب، وفي النهاية يستأجران ‏غرفة فوق المكتبة التي اشترى منها « ونستون »  المفكرة. تدوم العلاقة بعض الوقت، و« ‏ونستون » يُدرك أنَّه لا محالة من اكتشاف أمر هذه العلاقة من قِبل الحزب، بينما تبدو « جوليا ‏‏» أكثر تفاؤلًا، وبنموِّ العلاقة بينهما تزداد كراهية «ونستون» للحزب. وفي النهاية يتلقى الرسالة ‏التي انتظرها دومًا، فقد أبرق له «أوبرايان »  بأنَّه يودُّ مقابلته في أمرٍ مهم.‏

يُسافر « ونستون »، و« جوليا » إلى شقة « أوبرايان » الفاخرة، فهو عضو في اللجنة ‏المُصغرة للحزب يعيش حياةَ الرفاهيّة التي لا يمكن أن يتصورها « ونستون ». يخبرهما « ‏أوبرايان » أنَّه أيضًا يكره الحزب، وإنَّه يعمل ضدّه لعضويته في « الأخوة ». يُجنّد « ونستون ‏‏»، و« جوليا »  مع « الأخوة »، ويعطيهم كتابًا لـ « جولدستين »، وهو بيان « الأخوة »، يقرأ ‏‏« ونستون » الكتاب الذي هو عبارة عن خليطٍ من النظريات الاجتماعيَّة الشائعة، وفي غرفتهما ‏يداهمهم "البوليس" فجأة ويقبض عليهما، لقد كان مستر « شارنجتون » صاحب المكتبة -الذي ‏ائتمناه على سرَّهما- عضوًا في « البوليس الفكري » الذي يراقب أفكار النَّاس !!‏

 

بعد عزل « ونستون » عن « جوليا » واقتياده إلى مكانٍ يُسمّى « وزارة الحُبّ »، يكتشف أنَّ ‏‏«أوبرايان » كان أيضًا جاسوسًا لصالح الحزب، ادعى أنَّه عضو بـ « الأخوة » لاصطياده ‏متلبسًا بعصيان الحزب. يمضي « أوبرايان » شهورًا يُعذب « ونستون » عن طريق «غسل ‏الدماغ » بينما يقاوم الأخير، وفي النهاية يُرسل « ونستون » إلى الغرفة رقم « ‏‎101‎‏ » الرهيبة، ‏وهي المكان الأخير لكُلِّ مَنْ يتمرَّد على الحزب. ‏

 

يُخبر « ونستون » بأنَّه هنا سوف يصبح بإمكانه مواجهة مخاوفه. ومن خلال الرواية تُداهمه ‏كوابيس عن الفئران، وهنا يربط « أوبرايان » قفصًا مليئًا بالفئران برأس « ونستون » لتلتهم ‏وجهه، فيسارع  متوسلًا « أوبرايان » كي يفعل ذلك مع « جوليا » وليس معه.‏

 

‏ كان هدف « أوبرايان » هو أن يُجبر « ونستون » على التخلي عن « جوليا ». استسلم « ‏ونستون » أخيرًا لعملية « غسيل الدماغ »، وتعلَّم أن يُحبّ « الأخ الأكبر » فقط، وألَّا تكون له ‏أي مصالح فردية، وألَّا يُفكِّر في شيءٍ لم يسمح الحزب بالتفكير فيه، وألَّا يُحبّ إنسانا آخر قط.  ‏يُطلق سراح« ونستون » مكسور الوجدان مهزومًا، ولكن الحزب الحاكم اعتبره  « مواطنًا مثاليًا ‏‏»، وأنَّه لم يعد خطرًا على المجتمع !!‏

 

التقى « ونستون » بـ « جوليا » فيما بعد، لكنَّه لم يشعر بأية أحاسيس تجاهها، فقد قبل ‏الحزب تمامًا، ووقع في غرام « الأخ الأكبر » !!‏

 

لقد تطرق « آرثر كولستر » لأعمال « جورج أورويل » قائلًا: « الأمانة الفكرية لا هوادةَ فيها ‏وهي التي جعلته يبدو وكأنَّه ليس إنسانًا في بعض الأحيان ». وقال « بن واتنسبجر استيتد »: « ‏كتابة أورويل تفضح النفاق الفكري أينما وُجد ». ووفقًا للمؤرِّخ « بريندون بيرس » الذي يقول: « ‏أورويل كان قديسًا يُجيد الأخلاق منذ أيامه الأوَّلى ». وقد قال عنه « رايموند وليامز » مسؤول ‏بـ « البي بي سي »: « إنَّ أورويل بلا شك إمَّا إنَّه قد تمَّ تهيئته ليكون قديسًا، أو يُحرق على ‏الوتد» !‏