الطيرانُ من الأسطورة إلى التكنولوجيا

محمد محمود فايد

باحث مصري في الثقافة الشعبيّة والفنون

 

لم تكنِ الوحوشُ والحيواناتُ المفترسة،‎ ‎العدوَّ الأكبر للإنسان، بل كانت الجاذبيّة الأرضيّة هي ذلك ‏القاتلُ الخفيُّ الغريب. ولأنَّ الطبيعة لم تزوّد الإنسان بأجنحةٍ تمكّنه من الطيران، فقد استحوذت عليه، ‏منذ أقدم العصور، فكرةُ الطيران؛ الأمر الذي دفعه لمراقبة الطيور وقدرتها على التحليق في السماء. ‏وفي مرحلة من مراحل التطور الحضاريّ، تمكّن من القيام بعمليات التآزر النفس حركي السريع ‏والمناسب بين اليدين والعينين خلال محاولاته الطيران، بعد أن ثبّت ريشَ الطيور على جسمه وذراعيه ‏والرفرفة بهما كأجنحة. ‏

‏  ووفقًا لمكتشفات د. "هافير كابريردارك" في الحضارة القديمة لبيرو، حاول إنسان "النياندرتال" ‏الطيران باستخدام طائر "الرتيلاء" بعد تدجينه. حيث يفترض، أنّه ربما مهدت أراضي بيرو ونظّمت ‏شوارعها بشكلٍ يشبه المطارات الآن! وهو افتراضٌ لو صحّ لتغيرت معالم التاريخ؛ إذ يُقدّر عمرُ هذه ‏الحضارة من 150 إلى 200 ألف عام. من ناحيةٍ أخرى، يشير بحثٌ تاريخيٌّ إلى احتمال استخدام ‏الطائرات الشراعيّة في مصر القديمة قبل 3000 عام، على أقل تقدير، حيث وُجدت صورٌ ونقوشٌ ‏عديدة لمخلوقات مجنّحة على جدران بعض المعابد والآثار الفرعونيّة. ‏

قصصٌ شرقيّة وغربيّة ‏

تكشفُ الأساطيرُ عن تجذّر رغبة الإنسان في الطيران، وسعيه إلى تحقيقها بعدة أشكال تخيليّة، فمن ‏الأسطورة التي جاءتنا من مكتبة "آشور بانيبال"، وحلّق فيها "إيتانا" بالنسر في السماء وصولًا لكبير ‏الآلهة، إلى "بيغاسوس" الحصان المجنّح عند الإغريق، إلى السندباد الذي طار من خلال الرخ، ‏وعلاء الدين الذي حلّق بالبساط السحري، إلى بعض الصالحين الذين أمكنهم الطيران، أو حملتهم ‏طيورٌ ضخمة.‏

وفي الحكايات الشعبيّة، يُحكى أنَّ الآلهة اعتمدت على الخيول السماويّة والسحريّة التي طارت ‏بعربات وساعدت الأبطال وأنقذتهم من الأخطار. فكان لبساط الريح، الفضل في تفجير الخيال ‏الفنيّ، لنجد الفَرَس الأبنوس الذي يطير بعد ملئه بالهواء، وإدارته بلولبين، أحدهما للصعود والآخر ‏للهبوط، حيث اعتبر الطيران في الليالي، سمتها الأبرز، وقصة تحلم بالمستقبل وتتطلع إلى الحداثة؛ ‏الأمر الذي أدى لتأثيرها غربًا، فأدخل "أنتوني هاملتون"، و"ماري – كاترين ديلونوي"، موتيفات ‏الطيران في قَصصهم بوسائل مختلفة، وتبناها "الأخوين جريم" ومعاصريهما، مثل: "وليم هوف" في ‏قصته "موك الصغير". ‏

وظهر حلم الطيران بالبساط السحري في بعض الحكايات الروسيّة، مثل: "الأميرة الضفدعة"، حيث ‏سُمّي "ساموليت"؛ أي ذاتيّ الطيران، في مقاربة مع الكلمة الفارسيّة "ساموفار" التي أُطلقت على ‏وعاء "غلي الماء"، حيث أُطلقت كلمة "ساموليت" على الطائرة، بعد أن استندت اللغة إلى تراثها ‏الخيالي للتعبير عن الطائرة كاختراع حديث، دون أن تحتاج اللغة لابتكار كلمة جديدة. وهكذا فتحت ‏الليالي الباب للاستغراق في الحرية الفكريّة والخيال الفنيّ، فرفض المفكرون العلوم التقليدية بل ‏وطرحوا أفكارًا جديدة بديلة من خلال رمزية التحليق والطيران إلى حرية الجسد والفكر في تجاوز كل ‏الحدود المفروضة على الإنسان. وأوحى ذلك للأدباء بإبداع أغرب الروايات والمسرحيات التي تتكرر ‏فيها بشكلٍ رئيس، موتيفات الطيران والانتقال عبر الزمان والمكان، والوصول إلى أبعد الأماكن ‏والجزر، وتحقيق المستحيل. ‏

وفي العام 1784، قُدّمت مسرحية "هبوط المنطاد" التي استلهمها "فولتير" من "حكاية معروف ‏الإسكافي"، مضافًا إليها، موتيفة المنطاد خلال رحلته الأولى لعبور بحر "المانش" في "مونت ‏غولفير". ‏

من ناحيةٍ أخرى، استمرت الافتراضات العلميّة حول إمكانية طيران الإنسان في القَصص الخياليّة، ‏ومُزجت مع النظريات العلميّة والتجريبيّة. فأبدع عالم الرياضيات والفيزياء "جون ويلكنز" (1614- ‏‏1672) في قصته عن الرحلة إلى القمر، فضلًا عن اهتمامه بتكنولوجيا الطيران وتقديمه تفاصيل ‏دقيقة لما قد يستخدمه الإنسان ليطير، مستعينًا بأجنحة الوطواط، وبحثه التاريخي والفنيّ والفلسفيّ، ‏عبر العصور، في كل ما يخدم الخيال العلميّ، وجمعه لمواد ثريّة، وحكايات عجيبة عن الأشياء ‏الطائرة، حيث كان بعضها محض خيال أسطوريّ، لكنَّ عددًا منها كان اختراعات بشريّة تحاكي ‏الطبيعة وتقترب منها، حيث كانت أهم ما حاز اهتمامه لأنَّها تصبُّ في إمكانية الطيران، فضلًا عن ‏نصحه بالتدريب الطويل كلاعبي السيرك الذين يمشون على الحبال برشاقة، وكالسبّاحين ذوي اللياقة ‏البدنية العالية. وتأكيده أنَّ التزام الإنسان بذلك، يُسهم في نجاح تجارب الطيران. ‏

بعد مرور حوالي 300 عام، أُعجب "بورخيس" كثيرًا بالمنهج التجريبيّ عند "ويلكنز"، وأشاد به في ‏واحدة من أشهر مقالاته، التي اعتبرت الخيال الفنيّ لمبدع الليالي، والخيال العلمي ل"ويلكنز" وإصراره ‏على اختراق آفاق جديدة، بمثابة لبنة أساسية بُنيت عليها الكثيرُ من الأبحاث والإبداعات، والكتابات ‏المهمّة الخاصة بالمحاولات والطرق المحتملة للطيران.‏

الاختراعات الرياديّة

عرفت الحضارةُ العربيّة، عالَميَّ الفضاء والطيران، وفق أُسسٍ علميّة مدروسة ومقننة على يد العالم ‏الموسوعيّ "عباس بن فرناس" (807-887م) أول من صنع القبة السماويّة، وآلات: "الميقاتة" ‏لمعرفة الأوقات، و"المنقالة" لحساب الزمن، و"ذات الحلق" لرصد حركة الكواكب والأفلاك والنجوم، ‏فضلًا عن آلات هندسيّة أخرى دقيقة. أمّا في الطيران، فكان أول إنسان يخترق الجوَّ، واعتبره ‏المنصفون أول رائد طيران، حيث خرجت تجربته إلى الوجود عام 267ه/ 880م، وذلك، بعد تبحّره ‏في العلوم الطبيعيّة والرياضيات والكيمياء، ودراسته لخواص  الأجسام وثقلها ومقاومة الهواء لها، ‏وتأثير ضغط الهواء فيها إذا ما حلّقت في الجو. فقام بكساء جسمه بالريش، والحرير الطبيعي لمتانته ‏وقوته وتناسبه مع ثقل جسمه، ومدّ له جناحين من الحرير أيضًا، طار بهما فوق مدينة قرطبة ‏لمسافة بعيدة ثم سقط، فتأذى ظهرُه، لأنّه لم يعمل له ذنبًا. ومن الواضح أنّه لم يقم بتجربته العلميّة ‏الفذة بوحي من الخيال، بل على أُسس فلكيّة وفيزيائيّة. فخلاصة نظريته، مؤداها: إنَّ الجسم وما ‏يحمله، لا بدَّ أن يكونَ خفيفًا للتغلب على الجاذبيّة الأرضيّة، فعندما يلقي الإنسان بنفسه مندفعًا ‏للأمام من علٍ، سوف يحمله الهواء على متنه. ‏

يؤكّد الطيارُ الشراعي د. قتيبة الشهابي في كتابه "الطيران وروّاده في التاريخ"، أنَّ ابن فرناس اتّبع في ‏محاولته المنهج التجريبيّ، وخطط لها مسبقًا وفقًا لمعطيات العلم، وفي ضوء التوجهات الحضاريّة ‏في تلك المرحلة التاريخيّة، حيث عاش بعدها أكثر من سبع سنوات، قام خلالها بتقييم محاولته، ‏وشرح نظريته في الطيران لروّاد منتديات الخلافة، ورجال الحكم. ونقل خبراته إلى أجيال أخرى من ‏الطلبة الأوربيين الذين زخرت بهم الأندلس. وفي العصور الوسطى، بُنيت على تجربته، المزيدُ من ‏الأبحاث التي كان لها أكبرُ الأثر في مقاومة الإنسان للجاذبيّة الأرضيّة والتكيف معها، بل وتحقيق ‏الحلم الذي طالما راوده منذ آلاف السنين.‏

وفي العام 1010م، قام الراهبُ الإنجليزي "إيلمر مالمسبري" بأول محاولة أوروبيّة للطيران بالاعتماد ‏على البحث العلميّ، بعد أن صنع جناحين من الريش، ربطهما بذراعيه وساقيه، وطار بهما لمسافةٍ ‏محدودة. تتبع "إيلمر" المحاولة التجريبيّة الأجرأ في تاريخ الطيران ل"عباس بن فرناس" باعتبارها ‏المصدر العلميّ الأكبر الذي استقى منه الباحثون فكرتهم عن الطيران. المؤسف، أنَّ كتاب ‏‏"الموسوعات العلميّة" لم يذكر ابن فرناس رغم أهمية إنجازاته العلمية في تاريخ الطيران، فلم يتحدث ‏سوى عن "الأخوين رايت"؛ حيث كان أوّل رائدِ فضاءٍ في التاريخ، وإليه يعود الفضلُ في ظهور ‏علوم الفضاء وتقدّمها، مُفسحًا ومنيرًا الطريق لمن جاءوا بعده في مجال اختراع آلات الطيران ‏وتطويرها. ‏

ومع التقدم العلميّ، واستمرار العلماء في محاولاتهم لاختراع وسائل للطيران بعد أن أصبح شغلهم ‏الشاغل، تمكنوا من اختراع وتجريب أول منطاد في باريس عام 1783م، بعد عامين فقط من نشر ‏الفرنسيّ "نيكولا إدمي راتيف" لقصته المستلهمة من الليالي العربية؛ "الرجل الطائر واكتشاف الأراضي ‏الجنوبيّة"؛ حيث تحكي عن رحلةٍ بالمنطاد، وضمت أفكارًا علميّة جادّة، ورسومات توضيحية، سعى ‏المؤلف إلى كتابة تفاصيلها. وعمل عن قرب مع صديقه الرسام "لويس بينت" على تصميم ‏الرسومات وتنفيذها، فجاءت غاية في الإتقان. كما ظهرت في إحداها "بزة" الطيران التي ارتداها ‏‏"فيكتورين" بتفاصيلها الدقيقة من دروعٍ واقية على الساقين، ولجامٍ تحت الذقن مُتّصلٍ بمظلة صغيرة ‏فوق الرأس، وأُضيف إليها ما يشبه القبة المطريّة التي تُفتح في حالة الطيران. ‏

تبع القفز بالمظلات، مرحلة المناطيد في أوائل القرن 20، على الرغم من أنَّ محاولات استخدام ‏المظلات كانت قد بدأت منذ القرن 15، فكانت ثمة محاولات للقفز من أبراجٍ عاليّة باستخدام ‏مِظلّات تشبه الطائرات الورقيّة في هياكلها، لكنَّ بعضها لم يلق نجاحًا يُذكر، ثم استلهم "بينت" ‏وصف "راتيف" للمِظلّة، إذ أوصى المخترعين بمحاكاة نموذج الوطواط في الطيران، لا أجنحة ‏الطيور. ‏

وكان اختراع الطائرة على يد "الأخوين يلبور" (1867- 1912م) و "أرفيل رايت" (1877- ‏‏1923م) وتجربتهما الناجحة عام 1903 التي فتحت عنان السماء للإنسان. إلا إنَّ إحياء فكرة ‏الإنسان الطائر والتنقل جوًّا بدون طائرة، عادت للإلحاح مجددًا. فظهرت وسائل فرديّة جديدة، ‏وتحوّل الحلم الذي طالما راود البشرية، من خيالٍ أسطوريّ إلى حقيقة علميّة، عبر ابتكار بعض ‏الطيارين والمغامرين للطائرات الشراعيّة، وصناعة مظلات الهبوط من الحرير. وحتى الآن، يقومُ ‏الكثيرُ من هواة الطيران الشراعيّ المجنّح بتطبيق نظرية "عباس بن فرناس"، مع إجراء تعديلٍ طفيفٍ ‏بتركيب الذيل للآلة الحديثة. ‏

الجناح النفّاث

عام 2010، نجح المغامرُ السويسريُّ "إيف روسي" في الطيران بواسطة جناحٍ مثبّت على ظهره ضمَّ ‏‏4 محركات نفّاثة صغيرة من مدينة "كاليه" الفرنسية، بعد تنفيذه لقفزةٍ من طائرة على ارتفاع 2400م، ‏والهبوط في مدينة "دوفر" الإنجليزية. وبذلك، أصبح أوّلَ شخصٍ يطيرُ بمفرده فوق بحر "المانش" ‏باستخدام جناحٍ نفّاث. استغرقت الرحلة التاريخية 10 دقائق، قطع خلالها مسافة بلغت 70 كم ‏بسرعة وصلت إلى 200 كم/ س، وعلى ارتفاع حوالي 3000م. وذلك، بعد قيامه بعدة محاولات ‏سابقة قفز فيها من طائرةٍ فوق جبال الألب، باستخدام نموذجٍ تجريبيّ لجناحٍ يفتح ويعمل بالدفع ‏النفّاث، يبلغ امتدادُه سبعةَ أقدام ونصف، حيث فقد عدة نماذج منه، وتحطم أحدها جزئيًّا عام ‏‏2004، بعد حادثٍ كاد يودي بحياته، خلالَ معرض طيران. تلا ذلك حادثان عاميّ 2005، ‏و2007. ومع وجود بعض التحديات، اضطُر للقيام بتصنيع نموذجٍ جديد.‏

‏ يبلغ " إيف روسي" 51 عامًا، وكان طيارًا مقاتلا بالقوات الجويّة السويسريّة، وساعدته خبرته في ‏الطيران على إعادة إحياء فكرة الطيران البشريّ، باستخدام أربعةِ محركاتٍ نفّاثة صغيرة ثبّتها أسفل ‏جناحٍ صغيرٍ قابلٍ للتثبيت على الكتفين والحوض. ‏

يمكن لابتكار "روسي"، الطيران بسرعة متوسطها 200كم/س، وسرعة إقلاع بلغت 180 كم/ س، ‏وسرعة هبوط 300 كم/س قبل فتح المِظلّة. أمّا التحكّم في الجناح، فيتم عبر تحريك الجسد يمينًا أو ‏يسارا. ‏

البساط الطائر

في العام 2014، قام الفرنسيُّ لاعبُ التزحلق على الماء، "فرانك زاباتا"، بابتكار أوّلِ بساط طائر. ‏وفي العام 2017، تمكّن من صناعةِ رقعةٍ معدنيّةٍ مزوّدة بمحرك نفّاث، و"تنك" بنزين، وحذاء ‏لتثبيت الأقدام، بحيث يتحكم في توجيه البساط وسرعته وارتفاعه من خلال ريموت كنترول. تصل ‏سرعة البساط الطائر أو جهاز ‏Fly Boord‏ إلى أكثر من مئة وخمسين كم/ س، ويستطيع التحليق ‏به على ارتفاع ثلاثة آلاف متر. وقد صُنعت بعض النماذج التي تم تطويرها وتدشينها، كسلاحٍ ‏جديد، في بعض الجيوش شرقًا وغربًا. فضلًا عن إعداد نسخ جومائيّة، واستخدامها في العروض ‏الترفيهيّة البحريّة، ورياضات ومسابقات الغطس، والتزحلق على الماء، والطيران في السماء والانتقال ‏عبر الأمكنة، والمشي بها فوق الماء والهواء!