إسماعيل بوزيد
كاتب وباحث متخصص في الفلسفة والفكر المعاصر.
تعدُّ إشكالية العلاقة المركبة بين الإسلام والحداثة من أبرز الإشكاليات الفلسفيّة التي لم تحظ بالقدر اللازم من الاهتمام مقارنة بإشكاليات أخرى، نظرًا لكونها ما تزال بكرًا؛ أي لم تظهر إلا في الوقت الراهن، وخاصَّة حينما حاول بعض مفكري المجتمعات العربية الإسلاميّة نقل الحداثة التي كان يَعيشها الغرب إلى الثقافة العربية الإسلاميّة، الأمر الذي أثار مسألة كيفية التوفيق بين الدين الإسلامي بوصفه تشريعًا إلهيًا يَتسم بالثبات، ولا دخل للإنسان فيه، والحداثة باعتبارها نتاجًا لجُملة من الثورات، والأحداث التاريخيَّة والعلميَّة والفكريَّة والثقافيَّة، التي خَبِرها الفكر الغربي ابتداءً بعصر النهضة، مُرورًا بعصر الأنوار، وصولاً إلى الحداثة بوصفها تجربةً حقيقيَّةً عاشها الغرب دون غيره.
وممَّا لا ريب فيه أنَّ اهتمام الفلاسفة والمفكرين والباحثين في المجتمعات العربية الإسلاميّة والمجتمعات الغربية على حدٍّ سواء بدراسة العلاقة الحاصلة بين مفهومي الإسلام والحداثة له ما يُسوّغه، ويتمثل أساسًا في أنَّ تلك العلاقة يَكتنفها الغموض، نظرًا لوجود خطابات مُتعدّدة تُقرُّ في بعض الأحيان بالتضاد والمواجهة بين مفهومي الإسلام والحداثة، وفي أحيانٍ أخرى بالتوافق والتماثل بينهما، ولهذا سنحاول في هذا المقال دراسة هذين المفهومين، حتى ينتفي الغموض الذي يكتنفهما، ومن ثم البحث عن كيفية التوفيق بينهما، مُعتمدين في ذلك على الحوار باعتباره مدخلًا أساسيًا لتحقيق ذلك، ومُبتعدين في المقابل عن الصراع، لأنَّه من شأنه أن يُنسف هذا التوفيق. ولكن، قبل الخوض في تحليل هذه الإشكالية تحليلًا نقديًّا، لابدَّ أولًا من صياغة بعض الإشكالات التي يُثيرها هذا الموضوع، وهي إشكالات من قبيل: ما العلاقة الحاصلة بين الإسلام والحداثة؟ هل هي علاقة تضاد أم توافق؟ وهل يمكن التوفيق بينهما؟ وإذا كان ذلك ممكنًا، فكيف يُمكن تحقيقه؟
تُثيرُ العلاقة المُركبة بين الإسلام والحداثة بما هي علاقة بين العقيدة والفكر؛ أي بين الإلهي والإنساني، قضايا جمَّة، من قبيل قضية العيش المشترك بين الثقافات والحضارات المتعدّدة والمتنوّعة والمختلفة، ومن ثم تجاوز الصراعات التي نشبت بين الثقافات والحضارات ، والتي انكشفت في العالم المعيش ابتداءً من القرن العشرين. ولكنَّ، يلزم التنبيه هاهنا إلى أنَّنا نُحاول البحث عن إمكانيَّة التوفيق بين الإسلام والحداثة؛ أي بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي، وليس بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي، لأنَّ لفظ الإسلام أعم من لفظ العرب، ويَمتدّ ليشمل كل المجتمعات غير العربيَّة التي تتبنى الدين الإسلامي؛ فهناك بعض المجتمعات إسلاميَّة وليست عربيَّة. ولا غرو إن قلنا هاهنا، بأنَّ العلاقة المُركبة بين الإسلام والحداثة، نابعة أساساً من كيفية تصوّرنا للتابو Taboo الذي دُعّمَ في غير ما مرّة من قِبَلِ الأصوليين الدينيين "Religious fundamentalists"، وعلماء الاجتماع العلمانيين "Secular social scientists"، ممَّا يعني هذا القول أنَّنا إزاء تصوّرين للتابو، هما: أولاً، تصوُّر الأصوليين الدّينيين للتابو، الذي يتكوَّن من حكمٍ سلبي مُعاد للحداثة بشتى أشكالها، بما في ذلك العلوم الاجتماعيَّة الحديثة باعتبارها نمطًا من الجحود والجهل. ثانيًا، تصوُّر علماء الاجتماع العلمانيين للتابو، الذي يَتشكَّل من موقفٍ مُعارضٍ للعقيدة الدّينيَّة "Religious faith"، ويؤكد على ضرورة استبعادها من مجال الحياة الدّنيويَّة الفرديَّة والاجتماعيَّة، لأنَّها ليست لها صلة بالحياة الاجتماعيَّة، فضلاً عن كونها مُعارضة لدراسة وفهم الحياة الاجتماعيَّة .
ومن الواضح أنَّ هذه الأحكام المسبقة المُشيدة على آراء خاطئة، تُشكل عائقًا حقيقيًّا يَحُول دون تحقيق التوفيق بين الإسلام والحداثة، ولذلك ينبغي نقدُها وتقويضها، ومن ثم تهييء الأرضيَّة الملائمة للتوفيق بينهما. وبحسب وجهة نظر علي زايدي "Ali Zaidi"، فإنَّ العقيدة الدّينيَّة، وخاصَّة العقيدة الإسلاميَّة لا تُعارض الحداثة، ولا ترفض بذلك الانخراط القوي والفعَّال في المجتمع الحديث والعلمي، لأنَّ هذا الانخراط من شأنه أن يُبعدَ المجتمعات الإسلاميَّة عن شرُور الحركات الأصوليَّة والسلفيَّة، والمتمثلة أساسًا في الاختناق الروحي والتضييق على النفس التي جُبلت على حبّ الخيرات والابتعاد عن الشرور. يُوجه علي زايدي نقدًا لاذعًا للنزعات الأصوليَّة والسلفيَّة التي ترفض وتُعادي الحداثة، وتتشبث بالحقائق المطلقة والثابتة والمتعاليَّة، التي لا تقبل المناقشة أو النقد أو حتى التساؤل .
يُعدُّ موضوع العلاقة المركبة بين الإسلام والحداثة شائكًا ومبهمًا، لأنَّه يُحدّد إطار الخطاب الفكري الإسلامي "Islamic intellectual discourse"؛ فهذا الخطاب يصير أكثر عُمقًا حينما يتمُّ تحليل تلك العلاقة ضمن سياقٍ عِلمي ومَعرفي، يتمثل في العلوم الإنسانيَّة، حيث يتم التركيز على النقد الموضوعي الدقيق للوجود الإنساني، وكيف يرتبط ذلك بالواقع. ولا غرو إن قلنا هاهنا، بأنَّ العلوم الإنسانيَّة تتنكر للتفسير الميتافيزيقي والديني المقدَّم لواقع الكون الكبير، لأنَّ هذين التفسيرين لا يُشيَّدان على النقد الموضوعي الدقيق، الذي يصبو إلى كشف حقيقة الأشياء، ومن ثم درء الأوهام التي تحوم حولها. إنَّ العلوم الإنسانيَّة تمثل هاهنا مَدخلًا أساسيًّا يمكن من خلاله التوفيق بين الإسلام والحداثة، لأنَّها تتيح بفضل آلياتها التحليليَّة والتفكيكيَّة والنقديَّة، إمكانيَّة البحث عن الإرث المشترك بين مُختلف الثقافات، وذلك من أجل التوفيق بينهم، ومن ثم تجاوز الصراعات العقيمة والسامَّة المميتة.
يبدو أنَّ جَوهر الخلاف بين الفكر الاجتماعيّ الإسلاميّ والفكر الاجتماعيّ الغربيّ، يَكْمُن في مسألة دَمج الحقائق المتعاليَّة والمطلقة في إطار العلوم الإنسانيَّة؛ فإذا كان الفكرُ الاجتماعيُّ الإسلاميُّ يُقرُّ بإمكانيَّة دمج الحقائق المتعاليَّة والمطلقة، التي لا تقبل النقاش أو النقد، أو حتى السؤال في مجال العلوم الإنسانيَّة، فإنَّ الفكر الاجتماعي الغربي يَرفض ذلك جُملةً وتفصيلًا، لأنَّ العلوم الإنسانيَّة هي مجال للبحث وإعمال النظر بكل الآليات العقليَّة التي ترمي إلى النقد والتجديد، وليس إلى الخضوع والتقليد . وفي هذا الصدد يُقدّم علي زايدي مُحاولة مُهمَّة ومُتميَّزة، يُحلّل من خلالها براديغمات المعرفة المختلفة، ومن ثم يَصُوغُ توليفًا جديدًا بين العلوم الإنسانيَّة الحديثة والفكر الاجتماعيّ الإسلاميّ، وذلك من خلال تقديم عرضًا دقيقًا وواضحًا للتأويليات الحواريَّة "Dialogical hermeneutics"، مع التركيز بشكلٍ كبيرٍ على التأويل النصي وتفسير التقاليد الثقافيَّة "Cultural traditions" .
يُقرُّ علي زايدي بأنَّ التأويل الحواري يكتسي أهميَّة كبيرة، لأنَّه يَكْشِفُ النقاب عن الأوهام الكامنة في الفكر الاجتماعي الإسلاميّ، من قبيل وهم الهُّويَّة، وهم الحقيقة المتعاليَّة والمطلقة ووهم الأصالة، ومن ثم يُفكّكها ويُقوّضها. ممَّا يلزم عن هذا القول أنَّ التخلي عن المَنْظُور التأويلي للعلوم الإنسانيَّة، أدَّى إلى تقويض مختلف التصوّرات الثقافيَّة التقليديَّة. ولذلك، يُحلّل علي زايدي التأويليات الحواريَّة "Dialogical hermeneutics" التي بلورها "غادامير"، ومن ثم يُقارنها بغيرها من المقاربات التأويليَّة الأخرى، من قبيل نظريَّة الحوار التي شيَّدها "ميخائل باختين" "Mikhaïl Bakhtine"، ومن ثم يستنتج أنَّ الفعل الحواري يتحوَّل مع "غادامير" إلى حدثٍ أنطولوجي . ولكن، بما أنَّ الاشتغال في العلوم الإنسانيَّة لم يَعُد مُنصبًّا على التأويليات الحواريَّة فحسب، وإنَّما امتد ليشمل التصوّرات النقديَّة، فإنَّ علي زايدي يكشف عن نوعيَّة النقد الذي يتوافق والفعل الحواري، والمتمثل أساسًا في النقد الموضوعي الذي يصبو إلى البناء لا الهدم، مُبتعدًا بذلك عن كل الأيديولوجيات، الآراء، الأحكام المسبقة والمعتقدات الذاتيَّة. غير أنَّ علي زايدي يُدافع هاهنا عن التأويل الحواري، ويُوضّحُ في المقابل التناقضات المختلفة الكامنة في المحاولات النقديَّة التفسيريَّة الأخرى التي تتضمَّن الحوار والتقييم النقدي، من قبيل النظريَّة النقديَّة "Critical theory" التي شيَّدها يورغن هابرماس "Jürgen Habermas"، والتفكيك "Deconstruction" كما نظَّر له وطبَّقه محمد أركون "Mohammed Arkoun"، والخطاب الفوكوي "Foucalidian discourse" كما تناولته منى أباظة "Mona Abaza" .
هكذا، يتبدى إذاً أنَّ علي زايدي يُركز على التأويل الحواري، الذي يصبو إلى الكشف عن نقطة التقاء بين النماذج التأويليَّة المختلفة للمعرفة في سياق العلوم الإنسانيَّة، والتي تتمثل أساسًا في البحث عن الحقيقة؛ فجلُّ النماذج التأويليَّة ـ على الرغم من اختلافها ــ تسعى إلى تحصيل الحقيقة ودرء الأوهام التي تكتنفها. ولذلك، يلزم تجاوز التضاد الحاصل بين التصوّرات التأويليَّة التأسيسيَّة المعادية للأصوليَّة بوصفها تجليًّا من تجليات الحداثة، والتصوّرات الدّينيَّة باعتبارها جوهرًا أساسيًّا في الفكر الإسلامي، لأنَّ هذا التجاوز من شأنه أن يُتيح إمكانيَّة التوفيق بين الفكر الإسلامي والحداثة .
من الواضح أنَّ العلاقة الحاصلة بين الإسلام والحداثة لَمْ تأخذ صورةً واحدةً فحسب، وإنَّما أخذت صورتين أساسيَّتين، هما: أولاً، المواجهة التي كانت قائمة بينهما في بداية القرن التاسع عشر؛ أي في الفترة التي شكَّلت فيها الحداثة صدمةً للمجتمعات العربيّة الإسلاميَّة، وكانت تُسمَّى بصدمة الحداثة. ثانيًا، التوفيق الذي تحقّق بينهما في بداية القرن العشرين، بفضل جهود الفلاسفة والمفكرين المشتغلين في مجال العلوم الإنسانيَّة . بيد أنَّ التحدّي الحقيقي الذي يُواجه الفكر الإسلاميّ، وخاصَّة في الوقت الرَّاهن، يتمثل أساسًا في عدم قدرته على الاندماج مع الفكر ما بعد الحداثي "Postmodern thought"، وهذا مَردُّه إلى عدم قدرة الفكر الإسلامي على مجاراة التغيّرات الاجتماعيَّة، والثورات الفكريَّة التي تَحدث في المجتمعات الغربيَّة .
يرى علي زايدي أنَّ التصور الذي قدَّمه للتوفيق بين الإسلام والحداثة ليس معناه بتاتًا أسلمة الحداثة، لأنَّ هذا التصوّر مُتعارضًا ومُتضادًا وأسلمة الحداثة. وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي بُذلت من قِبِل أنصار أسلمة الحداثة، فإنَّهم لم يتمكَّنوا بتاتًا من تحقيق هدفهم، والمتمثل أساسًا في إضفاء لباس إسلامي على فكر وعلوم وثقافة لم تنشأ في وسط إسلامي، وليست حصيلة تطوّر ذاتي للمجتمع الإسلاميّ، وإنَّما نشأت في مجتمع غربي له خصوصيَّته. وعلاوةً على ذلك، يَختلف هذا التصوّر عن التصوّر القائل بتحديث الإسلام، الذي يعني إخضاع الإسلام للتحديث بالكيفيَّة التي تجعله يُواكب التطوّرات الحضاريَّة التي تحدث في العالم، وبمعنى حصري أدق، جعل الإسلام مُتوافق والحداثة، لأنَّ التوفيق الذي يصبو علي زايدي إلى تحقيقه يتأسّس على جُملة من الآليات، من قبيل التأويل، الحوار، النقد والتفكيك.
بيْد أنَّه يكاد يمتنع تحقيق التوفيق بين الإسلام والحداثة إذا لم نَتحرَّر من ميتافيزيقا الذات، وتمركز الذات حول نفسها؛ أي مركزيَّة الذات "Egocentrism"، أو ما كان أركون يُسمّيه أيديولوجيا المواجهة؛ فالذات تتمركز في دائرة الـ "نحن"، التي تتمثل في المجتمع الإسلامي لمجابهة دائرة الـ "هم"، المتمثلة في المجتمع الغربي. وقد شهد الفكر الاجتماعيّ الإسلاميّ في الفترة المعاصرة بُروز خطاب المجابهة على يد باحثين ومُفكرين، من قبيل طه عبد الرحمن الذي أقرَّ بضرورة التصدي للحداثة الغربيَّة، لأنَّها ورَّثت أهل الغرب ضعفًا رُوحيًّا فاحشًا على قدر هذه القوَّة الماديَّة الساحقة ، وذلك من أجل تأسيس حداثة إسلاميَّة، ومن ثم التخلي عن كل الآفات الخلقيَّة لحضارة القول، وفتح الطريق لتشييد حضارة جديدة، يُمكن أن نُسمّيها باسم حضارة الفعل . وبسبب هذه المجابهة يَمتنع التوفيق بين الإسلام والحداثة، الشيء الذي يجعل من تجاوز وضعيَّة تمركز الذات حول نفسها، ومن ثم الانفتاح على الآخر، شرطًا أساسيًّا لتحقيق التوفيق بينهما. وهذا التجاوز يكاد لا يتحقق إلا من خلال التأويل، الذي بموجبه يصير الموجود مُتاحًا لغيره، بل وغيره كذلك متاحًا له أيضًا، لأنَّ التأويل يقظة الإنسان على ذاته وغيره .
حاصل القول، إنَّ المدخل الأساس لتحقيق التوفيق بين الإسلام والحداثة، يتمثل أساسًا في الاعتماد على المقاربة التأويليَّة، التي تعمل على دراسة الفكر الاجتماعيّ الإسلاميّ والفكر الاجتماعيّ الغربيّ، وذلك من أجل درء الخلاف الحاصل بينهما، ومن ثم تهيئة الأرضيَّة الملائمة لتحقيق الحوار بين الثقافات، وخاصَّة بين الثقافتين الإسلاميَّة والغربيَّة. وبموجب هذا الحوار، يمكن فهم الآخر بشكلٍ أفضل، بعيدًا عن الصراع الناتج عن اختلاف المعتقدات والأيديولوجيات السامَّة المميتة، ومن دُونه يكاد يمتنع فهم الآخر، لأنَّه حينما يَغيب الحوار، يَحْضُر الصراع بين من ينتمي إلى الثقافة الإسلاميَّة ومن ينتمي إلى الثقافة الغربيَّة. ولا غرو إن قلنا هاهنا بإنَّ الحوار بين الثقافتين الإسلاميَّة والغربيَّة هو مدخلًا أساسيًّا لتحقيق التوفيق بين الإسلام والحداثة؛ أي بين المعتقدات الميتافيزيقيَّة المتعاليَّة "Transcendental metaphysical beliefs" والعلوم الإنسانيَّة الحديثة، لأنَّه يُتيح إمكانيَّة تبادل الأفكار والآراء، ومن خلال هذا التبادل ينتفي الاختلاف الحاصل بينهما، ومن ثم يحصل التوليف بينهما.