قراءةٌ في كتاب "ألكسندر كويريه: العلم، الفلسفة والسياسة"

د. عبد الصمد زهور- المغرب

تمهيد

صدر عام (2021) للدكتور محمد موهوب كتاب "ألكسندر كويريه: العلم، الفلسفة والسياسة"، وهو أستاذُ التعليم العالي، خريجُ جامعة "السوربون"، سبق أن ترجم في إطار تقليدٍ فرنسيّ تحتفي فيه فرنسا سنويًّا بثقافة أجنبيّة، رواية "باب الساحة" لسحر خليفة، و"رذاذ اللغة" شعر لعز الدين المناصرة احتفاءً بالثقافة الفلسطينيّة، كما ترجم كتاب "واحدية لغة الآخر" لجاك دريدا، وواكب هذه الفعل الترجميّ من خلال بحث علاقة الفلسفة بالترجمة ضمن كتابه "ترجمان الفلسفة" الذي تضمن تصديرًا بلسان ألكسندر كويريه Alexandre Koyré نفسه، مداره أنّه لترجمة أفلاطون Platon وأرسطو Aristote مثلًا، لا تكفي معرفة اللغة اليونانيّة، بل يجبُ- ضرورةً- إلى جانب ذلك معرفة الفلسفة، بحيث تنهدم ثنائيّة مترجم فيلسوف من تلقاء ذاتها، ويصير كل مترجم فيلسوف على الحقيقة، علمًا أنّه أفصح عن كون الجزء الثاني من هذا الكتاب الأخير سيصدر قريبًا تحت عنوان "استئناف البدء: ترجمة المنهجيّة التاريخيّة".

أمَّا بخصوص المؤلَف عنه فهو الفيلسوف ألكسندر كويريه صاحب المؤلف الشهير "دراسات غاليلية"، ومؤلفات أخرى لا تقلُّ عن هذا المؤلف أهميّةً، ومنها: كتاب "من العالم المغلق إلى الكون اللامتناهي"، كتاب "دراسات في تاريخ الفكر الفلسفي"، كتاب "دراسات في تاريخ الفكر العلمي"، ثم كتاب "دراسات نيوتونية" الذي صدر بعد وفاته بسنة، أي سنة 1965.

صدر الكتاب، موضوع قراءتنا التحليليّة، عن المطبعة والوراقة الوطنية، بمدينة مراكش المغربيّة، وبدعم من مختبر الفلسفة ومجتمع المعرفة، التابع لجامعة القاضي عياض، وجّهه المؤلف كإهداءٍ إلى روح "جون توسان دوسانتي" Jean- Toussaint Desanti وسالم يفوت: الإبستمولوجي المغربي. جاء الكتاب موزّعًا على حوالي 130 صفحة، تتضمن قولًا حول نظرة كويريه للتاريخ، ثم حول نظرته للفلسفة، ثم نظرته للعلم، وأخيرًا نظرته للترجمة، وقد ألحق الكاتب بهذه الفصول الأربعة، ترجمة لمختارات من أعمال كويريه والأعمال التي حاورته مترجمة.

أولًا: ألكسندر كويريه والتاريخ

أول ما نبّه إليه المؤلف في هذا الفصل، هو أنَّ كتابات كويريه، تستوجب من قارئها الوقوف على علاقة الفلسفة بالتاريخ، أو علاقة الفيلسوف بالمؤرخ، بحكم أنّها في مجملها قراءات نقدية، وحوار مع لحظات مجيدة في تاريخ الفكر الإنساني، الفلسفي والعلمي، وقد عبر إيفون بلافال، أحد أبرز المتخصّصين في فلسفة ليبتنز Gottfried Leibniz، عن هذه الخصوصيّة التي تميّز كويريه بقوله: "بموت كويري فقدنا معلمًا لفنِّ القراءة" .

نظر كويريه إلى الأعمال الفلسفيّة والعلميّة، شأنه شأن هيدغر Martin Heidegger، على أساس أنّها تولد منفصلة عن أصاحبها، فليس هنالك ما يمكن أن يرجى من التمعن في السيرة الذاتية للفلاسفة والعلماء، ومعنى ذلك أنَّ التاريخ لا يرتعد أمام جبروت الاكتشافات، الذي هو ليس بشيء، بل كل الأشياء، أو ماهيتها التي تبرز من خلال تعاقبها بعد تزامنها، بحيث تعبّر في نهاية المطاف، وهذا ما يقف عليه كويريه، عن "وحدة الفكر الإنساني"؛ وأنَّ التاريخ يبني ذاته بمنطقٍ سلس، وهنا يكون الفكر الإنساني إنسانيًّا على الحقيقيّة، فلا أحد يستمد معرفته بمنطق يتجاوز سلطة التاريخ، وهو ما يدعو إلى التسلح بالأسئلة النقديّة في حضرة أطروحات القطيعة والتميّز التي سكنت مفاهيم، من قبيل: الحداثة، الأنوار، الثورة، وحتى نهاية التاريخ، والتي توهم ذاتها على نحو معكوس، بإمكانية الوقوف على البداية، وتمفصلات التاريخ، مثل الوقوف على النهايات المحتملة، والمعجزات الفائقة.

تتركز رؤيا كويريه للعلاقة بالتاريخ، ولنقل أيضًا رؤية المؤلف، في العبارة المكثّفة الثانية: "وكما لا معنى، داخل هذا التصوّر للتاريخ، لمفهوم السابق، السابق بالفضل... كذلك لا معنى للتفاضل بين حقيقة وحقيقة: بين حقيقة أدبرت وحقيقة أقبلت... ما يهم المؤرخ/ الفيلسوف هو المسعى... استمرارية البذل، استمرارية الجهد... يتحدث كويريه عن استمرارية الثورة" ، بهذا المعنى تكون الاكتشافات الخاطئة والمحاولات التي تُسمّى فاشلة، وغيرها، كلها مساهمة في هذه الاستمراريّة التي هي ماهية التاريخ بهذا المعنى، التاريخ الإنساني، بما في الإنساني من معنى، لا يسمح بإقامة تصوّر مغلوط حول الذات والهُوية.

ثانيًّا: كويريه والفلسفة

يحاول المؤلف في هذا الفصل أن يقبض على تصوّر كويريه للفلسفة، بحيث تتجسد لديه، وهو المتعدد الاهتمامات، توسطًا بين الصرامة الرياضيّة وحيويّة قضايا الحياة وتدبير شؤون الناس، وقد كان هذا مدخلًا ربط من خلاله المؤلف تمييز كويريه بين تاريخ وتاريخ، تاريخ القطيعة وتاريخ الاستمراريّة، بتمييز جديد في الفلسفة بين فلسفة وفلسفة، أو لنقل بين وهم الفلسفة (الجدل والسفسطة) والفلسفة على الحقيقة، هذه الأخيرة التي تقدّم نفسها كانتصارٍ للعدالة والحرية والخير الأسمى، أي كانتصارٍ للحياة وحماية لها من أشكال الموت التي يمكن أن تحذق بها.

في هذا الصدد يعود المؤلف لشكل مقاربة كويريه لبداية الفلسفة، وهي البداية التي تماهت فيها مع السياسة، كما هو دال على ذلك كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، فالفلسفة بنت المدينة، والمدينة في علاقتها بأفرادها الذين بهم تكون المدينة مدنيّة، وهم بها يكونون ما يكونون، ولما كان الأمر كذلك كان رهان الفلسفة منذ البداية هو رهان العدالة، وهو الرهان الذي يوقفنا على مسائل: الحرية، الديمقراطيّة، الشجاعة، التديّن أو لنقل باختصار يوقفنا على مسألة "بناء الحياة، نموذج الإنسانيّة" الذي ينبغي أن تكون الفلسفة راعية للتفكير في طرق تنزيله على مستوى المدينة.

ثالثًا: كويريه والعلم

يُبرز المؤلف في هذا الفصل العلاقة الجدليّة بين سيرورة الفكر عبر التاريخ، وطبيعة سيرورة الزمن الخطّيّة، ويحذر من الالتباس الذي يمكن أن ينشأ عن التصوّر الملتبس لماهية التاريخ التي أشار إليها في الفصل الأول، وقد عبر عن هذه الجدليّة قائلًا: "الاختلاف في العلم، الاختلاف في التأريخ للعلم، هو اختلاف، لا حول المعطيات العلميّة، حول انتاجات العلم، بقدر ما هو اختلاف في سياسة العلم، في العلم بالسياسة"،  معنى ذلك أنَّ ما نعتقد أنّه مكتسبات الآن، هو مكتسب الحاضر، والحاضر لا يُقال عن الآن، بل تجاوزه جيئة وذهابًا عبر التاريخ ليحتلّ سُمكًا زمانيًّا، تصير بمقتضاه المنهجيّة العلميّة للقرن السابع عشر وما بعده، المنهجيّة الحديثة، غير قابلة لأن تستقلَّ بذاتها عن مجرى مع فلاسفة العلم في القرن الثالث عشر، وهؤلاء من غير الممكن النظر إلى أعمالهم بمعزل عن سؤال المنهج في صيغته الأرسطيّة وقبلها الأفلاطونيّة، صيغة الاستقراء وقبله الاستنباط، ولنقل صيغة جدل الفيزياء والرياضيات، بشكل يسمح بالقول بأنَّ لا شيء يكون ضروريًّا بشكل نهائي، ومتيقن منه، فالمعنى الحقيقي للعلم، هو استمرارية الجهد، وهكذا ينبغي أن يُفهم تاريخُ العلم ذاته.

رابعًا: كويريه والترجمة

لا يخرج المؤلف في هذا الفصل عن الروح العامة التي أطّرته في مختلف المحافل التي ناقش فيها علاقة الفلسفة بالترجمة، وهي الروح التي تتضمن تصوّرًا يقوم على اعتبار فعل الترجمة فعلًا فلسفيًّا بامتياز، وهو تصوّر قعّد له، من بين من قعّد، كويريه، عندما اعتبر أنَّ امتلاك ناصية اللغة، اللغة كحِرفة، غير كاف من أجل ترجمة أعمال فلسفيّة، من قبيل أعمال أفلاطون وأرسطو، بل ينبغي إلى جانب ذلك معرفة الفلسفة، أي القدرة على النفاذ عبر الموطن اللغوي، إلى الموطن العقلي، ويصير المترجم هنا، على الحقيقة، مؤلفًا وفيلسوفًا، ولعلَّ الشواهد الدالة على ذلك في تاريخ الفكر الفسلفيّ والإنسانيّ عديدة، ألم يكن أبن رشد، وهو مجرد شارح، على ضخامة الكلمة، أصيلًا في شرحه، بل صار هو الأصل الذي تتم العودة إليه نكايةً في الأـصل، الأول، الغامض؟

وقف المؤلفُ في هذا السياق على أثر الممارسات الفعليّة للترجمة التي قام بها كويريه على نظرته عمومًا للترجمة، فمن المعروف أنّه ترجم من أو إلى الكثير من اللغات: الروسية، اليونانية، اللاتينية، الألمانية، الإنجليزية، الإيطالية، الإسبانية والفرنسية، وتعامل في هذا الصدد مع نصوص مستغلَقة حتى في لغتها الأصليّة؛ كما هو الشأن مع هيغل Friedrich Hegel، بشكل جعل تصوّره للفكر، في تقدير مؤلف الكتاب، هو تصوّره للترجمة، فإن كانت الترجمة غامضة بسبب مغالبة اللغة، فذلك نتيجة لغموض الفكر في سياق مغالبته للواقع، وقد صوّر المؤلف هذا الجهد (الغموض) المرافق لفعل الترجمة، فعل التفلسف، بقوله: "الغموض هو مناسبة للخروج من سذاجة الاعتقاد في معطى مباشر وشفاف إلى رحبة الغنى المواكب لجهود القبض على أطياف تجلي هذا الواقع المعقد" ، على هذا الأساس يقف المؤلف على تمييز كويريه بين غموض وغموض "بين الغموض المؤسس والغموض الطارئ، الغموض المرتبط بلباس الزمن، حجاب الزمن، والمرتبط جنايةً بالترجمة" ، فهذا الخلطُ هو الذي يسعى كويريه إلى الخروج من قبضته والإنصاف منه.

على سبيلِ الختم

يخلصُ المؤلف إلى أنَّ الثابت في كلِّ هذه التحوّلات التي يعرفها التاريخ، تاريخ العلم أو تاريخ الفلسفة، إنّما هو السعي، وأنَّ الحقيقة، على الحقيقة، إنَّما هي كناية على هذه السعي، الذي يظهر، من خلال ما سبق، في تصوّر المؤلف وكويريه للتاريخ، وتصورهما للفلسفة، وبالتالي تصورهما للعلم وللترجمة، إنّنا أمام ثابت واحد، هو الذي يفرّق بين الفيلسوف والعدمي، وعلى ذلك لا ينفلت كويريه وأعماله نفسها من التناول بمنطق هذا السعي، بحيث يقول المؤلف معبّرًا عن ذلك: "انطلق كويريه من حاضره. هذا الحاضر علميًّا هو الثورات التالية: أزمة الأسس الرياضيّة، نسبية إنشتاين، وكوانطا هايزنبرغ؛ سياسيًّا: حربان عالميتان مدمرتان... راح يكتسب.. يستعيد التاريخ.. ويستكتبه من أجلنا" .

قدّم وترجم المؤلفُ بعد الكلمة الختاميّة مختارات من نصوص ألكسندر كويريه، ومن نصوص أخرى حاورته (فوكو، كونغاليهم، ستيلمان دارك، إميل شتراوس)، حول إشكالات الفلسفة والعلم والتاريخ والترجمة، ويمكن القول إنَّ هذه النصوص على اختلافها، هي الكتاب عينه  وقد كُتب بطريقة أخرى، مدارها تثمين السعي، بما هو التفلسف الحق، الذي يحترم شرطيته التاريخيّة، دون أن يكفّ عمَّا في طبيعته من جهدٍ متجدّدٍ باستمرار.