عرابةُ الشعر وزرقاء اليمامة للثقافة العربيّة؛ ثنائيّة التراث والحداثة عند سلمى الخضراء الجيوسي.

د. تيسير أبو عودة
أكاديمي وباحث أردني
ماذا يمكن لنا أن نقولَ أكثر مما قيل عن أهمية الكاتبة والشاعرة والمترجمة سلمى الخضراء الجيوسي ومكانتها.. التي ولدت قبل عقدين من النكبة الفلسطينيّة في العام 1948، وعاشت زمنين متناقضين شكلاً وروحًا، زمن ما قبل النكبة الفلسطينية (2023-1926)، وزمن ما بعد النكبة، فظلّت "الأكاديميّة" في نظرها الطريق وليست الطريقة؟
تؤمن الجيوسي على طريقة الباحثة الألمانية "حنا آرندت"، بأنَّ تربيتها الفلسفية والأدبية المعمّقة والمتجذّرة في التراث والحداثة، لها آبار ارتوازيّة متعدّدة ومتجدّدة، ونابضة بالحركة والحياة والإبداع خارج أسوار الأكاديميّة، وهي التي قالت "ربتني المكتبة وليست المدارس".
تخرجت بعد حرب حزيران عام 1970 في جامعة لندن- كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بتخصص الأدب العربي، الأموي تحديدًا؛ لأنَّها كانت مأخوذه به وبسياقه الاجتماعي والسياسي.
درّست في جامعات: تكساس ويوتا وميتشيغان ولندن، والخرطوم والجزائر، وغيرها. شرّقت وغرّبت، بقيت وفيّةً للتراث العربي الإسلامي وحداثاته المتجدّدة، فلم تنجرف وراء بريق الحداثة، ولم تحبس فكرها في متحف التراث.
أدركت أنَّ مفهومَ الثقافة العربيّة معقدٌ جدًّا، لا يمكن اختزاله في السياسة و"عقدة عطيل" التي رسّخها شكسبير عن العربي المسلم، وغيره من أساطين الأدب الأوروبي مثل دانتي في "الكوميديا الإلهية"، والواقع التراجيدي للسياسة العربية، لما يسميه غرامشي بـ"الكتلة التاريخيّة"، بل هنالك أهمية مركزيّة للتراث والأدب والشعر والترجمة في مقاومة عبثية الواقع وانحطاط الثقافة، واجتراح خطاب حضاري مغاير للصورة الاستشراقيّة الكلاسيكيّة التي كشف عورتها إدوارد سعيد، والمصري أنور عبدالملك، وطلال أسد، و"انجليكيا نويفرت"، وغيرهم.
يصفها الشاعر الفلسطيني زكريا محمد بـ"الحرّاثة في الأرض بيديها العاريتين"، لكنَّني أراها عرابةَ الشعر وزرقاء اليمامة للثقافة العربيّة، ورسولة الأدب بين الشرق والغرب، وهي التي ترى وتبصر استمرارية الأدب الإنسانيّ، والتراث وصيرورته المتجدّدة، برغم تورّطها في مشروع الحداثة، وعلاقتها العضويّة ب"مجلة شعر" التي حارب فيها يوسف الخال وأدونيس وجبرا إبراهيم جبرا وخالدة سعيد، وغيرهم، سنوات طوال لتأسيس صوت عربي حداثي وعالمي، والشيء ذاته ينسحب على مجلة الآداب.
لكن نزعتها النقدية دفعتها لنقد "شعر"، خصوصًا وأنَّ المجلة تورطت في تحيزات عدوانية ومتطرفة، بصورة فيها كثير من الشخصنة، بل وسقطت في فخ "الميوعة العاطفية، والتسطيح النقدي"، كما كانت ترى.
يذكرنا زكريا محمد بأنَّ الجيوسي، حثّت الخطى باتجاه الشعر والشعراء الجدد في السبعينات والثمانينات، ممن كتبوا بنفسٍ حداثيٍّ جديد، لا يتكئ على فلسطين بصورة مباشرة، ولا يتبع نموذج الحداثة الذي فرضته "شعر"، فآمنت بأصوات الشعريّة الجديدة، أمثال: غسان زقطان، وزكريا محمد، وأمجد ناصر، ممن كتبوا في ثيمات ومواضيع جديدة، سواء تعلقت بمفهوم اللغة نفسها، أو بالسقوط في بئر التأويل، أو "الأركيولوجية" أو حتى "الفيلولوجيا" التي يمسك بناصيتها زكريا محمد.
يُعدُّ مفهوم الحداثة على مستوى الدولة والثقافة والأدب إشكاليًّا، لا يحصر في إطار فلسفي أو معرفي واحد، وفيه كثير من اللبس والخلط والتعمية؛ لأنَّ الحداثة ولدت بنيويًّا وتاريخيًّا من رحم الغرب المركزي، خصوصًا بعد القرنين الـ16 والـ17، وبدايات عصر التنوير الذي دشّن روحه ومعماره "ثوماس هوبز، وجون لوك، وفولتير، وجان جاك روسو، وآدم سميث، وكانط..."، وغيرهم.
لكن الحداثة، أو الحداثات، مشروعٌ غير مكتمل، تشوبه تناقضات كبرى كما بيّن "هابرماس" و"ماكس فيبرودوركايهم"، وآخرون، إذ برزت حداثات قيد الإنشاء: اقتصادية، وأدبية، وقانونية، وعلمية تكنولوجية، وبيئية، وروحية، وعلمانية، وحداثة التقدم.
لا ننسى أنَّ ما يسميه "كارل شميت" بالمجالات المركزيّة التي شكّلت روح الحداثة ومعمارها، بما فيها الليبرالية، والتقدم، والديمقراطية، والعقلانية، والمساواة، والحرية الشخصية، والعلمانية، والسيادة الفردية، والرفاه الاجتماعي، والمجتمع المدني، تتموضع في سياق عصر النهضة والتنوير، والسياق الحديث المتجدّد لأوروبا ما بعد الاستعمارية في علاقتها مع ذاتها ودول الهامش، كما يسميها سمير أمين و"إمانويل فالرشتاين."
بعد النكبة في عام 1948 وبدايات الخمسينات، أصبحت بيروت المدينة الكوزموبولوتانية، جامعة الشعراء والفنانين والمثقفين المنفيين من كتّابٍ فلسطينيين جاءوها بعد النكبة، وآخرين من جنسيات عربية، فروا إليها من فاشية وأرثوذكسية النظام البعثي، وخطاب القومية ...
آنذاك، ظهرت "شعر" محملة بمفاهيم ثورية عن الحداثة الشعرية، والتجديد، والمعاصرة، بل وإعادة تعريف مفهوم الشعر خارج حدود طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، وخارج حدود التفعيلة والوزن والقافية، وشروط الخليل بن أحمد الفراهيدي، بل وخارج تعريف ابن خلدون للشعر، الذي يقول عنه "هو الكلام البليغ، المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة بالوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به". مشترطًا حضور الملكة الطبيعية لمن ينظم الشعر ويكتبه، ويعرف البلاغة العربية، على طريقة الجاحظ والتوحيدي، وغيرهم.
يقول ابن خلدون "اعلم أنَّ لسان العرب وكلامهم على فنين في الشعر المنظوم، وهو الكلام الموزون المقفّى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد، وهو القافية. وفي النثر، وهو الكلام غير الموزون وكل واحد من الفنين، يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأمّا الشعر، فمنه المدح والهجاء والرثاء، وأمّا النثر، فمنه السجع الذي يؤتى به قطعًا ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، تسمى سجعًا، ومنه المرسل وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقًا ولا يُقطّع أجزاء بل يرسل إرسالاً من غير تقييد بقافية ولا غيرها". (مقدمة بن خلدون، 504-505).
تنسجم نظرة ابن خلدون للشعر والنثر مع نظرة الجاحظ في كتابيه "الحيوان" و"البيان والتبيين"، فصنعة الشعر لها ضروبها، وسماتها البنيوية من قافية وروي ووزن ومذهب تعرفه العرب، وتقرّه في تراثها الشفوي والمكتوب، ويرى أنَّ تقاطع النثر بالنظم في كلام العرب جبلة، بل وصورة طبيعية للبلاغة العربية شكلاً ومضمونًا.
من هنا يمكن عقلنة النزعة الحداثية لدى مدرسة "شعر"، برغم تطرف بعض روّادها أمثال أدونيس ويوسف الخال، إذ يرى كلٌّ منهما أنَّ الشعر مكتف بذاته، ومنفصل عن الواقع السياسي والمخيال السوسيولوجي للعصر.
لكن حرب قصيدة النثر التي تحوّل الفاعلون فيها إلى ميلشيات، بعضها يدافع عن تحرير القصيدة العربية من قيودها التراثية، وآخرون يدافعون عن شكل القصيدة وروحها الكلاسيكيّة في منتصف الخمسينيات، وآخرون يفضلون تسمية "الشعر الحر" لثورته على شعر الشطرين، ولم تتوقف هذه الحرب حتى اليوم، برغم الانقسام المدهش بين هذه الميليشيات الشعريّة، كما يصفها محمود درويش.
تحفّظت الجيوسي على مفهوم "شعر التفعيلة" لهشاشته؛ ولأنَّ الدوائر الشعرية المركزية هي من فرضته، ومع هذا رأت أنَّ الشعر الحر قد يتحرّر من قالب "الشطرين"، لكنَّه بالضرورة متساوق مع الوزن، فهو بهذه الطريقة متصل بالقصيدة الكلاسيكية من حيث الوزن، ومنفصل عنها روحيًّا وبنيويًّا. لكنَّها بذلك، تخالف جيلاً كاملاً من أنصار الشعر الحداثي، بانتصارها للشعر الكلاسيكي كوحدة شعرية وبويطيقية جمالية قاومت تيار الزمن، حسب مفهوم "جوته" للشعر العالمي.
لهذا ظلت تتساءل، ونتساءل معها بمنطق التراث الحداثي "لماذا بقي الشعر الكلاسيكي بشطريه العنيدين حيًّا وحيويًّا ومحافظًا على جماله كل هذه القرون.. كبدوي الجبل ومحمد مهدي الجواهري، ولا يعلى عليه؟ لماذا لم يحل الإرهاق فيه، فيتغير؟" (مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
وأظنُّ أنَّها ترجمت عبارة إنجليزية متعارف عليها في الدوائر الإنجليزية حرفيًّا، وهي "literary exhaustion"، وأظنّها تقصد: لماذا لم تُصب القصيدةُ الكلاسيكيةُ بلعنة الزوال؟ لو أردنا ترجمة روح الفكرة التي تقصدها.
لا ترى الجيوسي أنَّ هنالك مشكلة، من حيث المبدأ في التشبث بالأساليب الشعرية الكلاسيكية؛ لأنَّ الخلق والتجديد الحداثيين ليسا فقط في الأسلوب؛ بل في قدرة المخيال الشعري على ابتكار الصور الجديدة، والاستعارات الولّادة، والتخييل العبقري لروح القصيدة.
لكن أدونيس مثلاً، يرى بأنَّ حداثة الشعر، ليست حكرًا على الشكل، برغم أهميته من وزن وروي وقافية وبحور، ولكن فيها هنا انشقاق حضاري وثقافي عن التراث، يتضمنه التجديد الشعري والأدبي؛ ولأنَّ الثورة اللغوية حضارية وثقافية، وكأنَّه يرى بأنَّ طبيعة الحداثة الشعرية لا تترجم دون حدوث قطيعة حضارية وثقافية مع التراث.
ربما يتقاطع المفكر عبد الله العروي مع أدونيس في هذا الجانب، فالعروي يرى أنَّ فهم التراث وهضمه بصورة ناضجة، يتكئ على شرط الدخول في معترك الحداثة، ومن ثم العودة للتراث. لهذا، يبدو الفرق بينهما شكليًّا لا أكثر، فالأول ينظر للتراث كمرحلة تاريخية يجب تجاوزها، والثاني يراه بعين الحداثة، وكلاهما يقرُّ بالقطيعة معه.
لهذا السبب؛ كانت نازك الملائكة تتوجس خيفةً من انفلات عقال الشعر بهذه الطريقة، وللسبب ذاته، انتقدت الجيوسي الفوضى الشعرية التي تورطت فيها "شعر" باسم الحداثة الشعرية والانعتاق من روح الشعر الكلاسيكي العربي.
لا ننسى أنَّ الجيوسي، ظلّت مشتبكةً مع الحركة الثقافيّة في بيروت في بدايات عصر الريادة الأدبيّة، والتي تجلّت في أمسيات خميس "مجلة شعر" التي كانت تهرب بعض الشيء من السياسة وتتوسل بمفهومين مركزيين هما: "الحداثة والحرية".
وقد تجلّت آنذاك، جاذبيّةٌ ثقافيّةٌ لا نظير لها لمفهوم الحداثة في زمن ما بعد النهضة العربية التي بدأت على يد محمد عبدة، وجمال الدين الأفغاني، وطه حسين وغيرهم؛ لذا تركّزت رؤية "شعر" وأيدولوجيتها حسب منظور الجيوسي في ثنائية الحرية والحداثة، وبقيت حبيستها.
ربما لا يتسع المقام هنا للخوض في سياق الحرية والحداثة من وجهة نظر وائل حلاق، وجوزيف مسعد، ولكن كلاهما يرى أنَّ مصطلح الحرية والحداثة إشكاليٌّ ومتناقضٌ بنيويًّا، ويصعب إسقاطه على الواقع العربي شكلاً ومضمونًا، ولكن ردة الفعل الحضارية والجمالية لدى بعض الكتّاب والمثقفين العرب تشبه التقليد المتعثّر، وليس الاستبصار والخلق الإبداعيّ الأصيل، فصارت تشبه الصدى أكثر من المحاكاة الأصيلة التي تحدث عنها "أرسطو"، فتصبح الذات الحداثية متمركزة حول نفسها، ومنبتّة عن التراث والجذور العربية الإسلامية، بالطريقة نفسها التي يتصوّرها يوسف الخال.
تروي الجيوسي حادثةً جرت معها خلال أمسية الخميس لمجلة شعر، فأثناء سفر يوسف الخال لباريس، وقيام أدونيس بتنظيم أمسية شعرية، طرحت الشاعرة اللبنانية لور غرّيب سؤالاً إشكاليًّا يضعنا في مواجهة مع ثنائية التراث والحداثة، وهو السؤال ذاته الذي استقرَّ في وجدان الجيوسي لسنواتٍ طويلة، وكان مركزيًّا في تعريف الشعر المترجم، ومنحه هُويته الجديدة وماهيته الحداثية.
تقول: سألت غرّيب: "تحت أي عنوان ستنشر مجلة شعر قصائدها وهي المكتوبة بالفرنسية؟"، فأجابت الجيوسي "سيكون شعرًا عربيًّا بالفرنسية"، لكن غرّيب صعّرت خدّها لجواب الجيوسي وقالت غاضبة: "إنَّه ليس شعرًا عربيًّا، بل لبنانيًّا"، ويبدو أنَّ خطاب الشاعر سعيد عقل لاحقًا كان أكثر تطرفًا من هذا الخطاب. لكن الجيوسي أصرت على رأيها، وغادرت الأمسية، وسط صمت الجميع بمن فيهم أدونيس الذي كان يتندر دومًا على حبّها لمدينة دمشق ولهُويتها العربية الإسلاميّة.
تقول الجيوسي في قصيدتها "في حب دمشق":
"نحن نهوى رملها المحموم والريح العتية
وبلاياها، ونهوى يتمنا فيها
ونرضاها مماتْ
وإليها سوف نمضي
كلما ضعنا مع الغربة نمضي
كلما ذلّ على أهدابنا كبر الحياة".
شكّلت هذه الحادثة، نقطةً مركزيّة للجيوسي في استبصارها الفكريّ العميق لمفهوم التراث والحداثة والهُوية والانتماء الروحي لمدينة دمشق، فلم تكن هُويتها العربية، مجرد انتماء هُوياتي تاريخي ووجودي وجغرافي، بل هُوية روحية وجمالية وأدبية وتاريخية وحضارية، لا يمكن فصلها أو الاستهزاء بها، لكنَّها هُوية قيد الإنشاء والنقد والتجديد، وكأنَّ التراث في وجدانها "كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء".
تقول الجيوسي في السياق نفسه أنَّه مع غريّب في خميس مجلة شعر "خدشت شعوري، وحرّكت بقوة انتمائي العربي الذي رافق عمري كله. تحدثت أكثر من مرة خارج الخميس مع أدونيس ويوسف الخال حول السياسة، وكنّا نتجادل بقوّة أحيانا، ولا سيّما حول إصرارهما على التهديم الشامل، وإصراري على البناء، وأنَّ ثمة ما لا يهدم، فأنا نشأت على احترام كبير للتراث العربي، ولم أطق تلك الشهية العجيبة لتهديمه وإنكاره، على الرغم من اهتمامي المماثل لاهتمامنا بالتجديد والوصول إلى المعاصرة، وكنت أريدها أن تكون معاصرة معافاة. لم نختلف على المعوقات التي تعترض الحياة العربية، ولكن الاختلاف كان يتركز على كيفية الخلاص. لم نكن نعرف أنَّ البلاء العربي أعمق وأقوى من كلِّ هدمٍ وبناء، وها هو تكشّف الآن، أعان الله أولادنا وأحفادنا". (مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
كانت الجيوسي تدرك أنَّ أدونيس شاعرٌ كبيرٌ، لكنَّها تختلف معه في الرؤيا وفي استبصار معمار التراث والحداثة، بل إنَّها ترى أنَّه توسل طريقًا مسدودًا في تشربه الأيدولوجي للحداثة وقطيعته مع التراث. وربما لهذا السبب ذاته، كانت ردة فعله على الثوب الدمشقي من "الأغباني" الذي كانت تلبسه الجيوسي، والمطرز على قماش شفاف، في أمسية جورج صيدح، حين بدا غريبًا وصادمًا؛ إذ أمسك بطرفه قائلا: "سلمى، ما هذا؟" بنبرة بدت ساخرة.
كان تعليق أدونيس الساخر، رمزية رافضة للتراث العربي، بالطريقة نفسها التي كان يسخر فيها من اعتزازها بعروبة دمشق ومركزيتها التاريخية في التراث العربي الإسلامي. ولعلَّ نزعة "شعر" الطاغية لاكتساب هُوية عالمية، ورفضها للنموذج السياسي العربي آنذاك بشقيه البعثيّ والناصريّ، قد دفعتها للبحث عن انتماء "كوزموبوليتاني" وعالمي، يمنحها لبوسًا حداثيًّا مفارقًا للتراث العربي، ورافضًا له.
ولمن لا يعلم، فقد نكث أدونيس بوعده للشاعر والكاتب وليد سيف في نشر قصيدة له في مجلة مواقف، للسبب الأيدولوجي السابق في نظرته للتراث والحداثة.
بدت حركة "مجلة شعر" أرثوذكسية ودوجمائية في تسليمها بمركزية الحداثة، بل ونقد التراث بالاتكاء على هذه المركزية، وكأنَّنا نتحدث عن حداثة غربية واحدة، لهذا يتساءل الناقد "روبين كريسويل" في كتابه "مدينة البدايات: الحداثة الشعرية في بيروت" (2019)، مستغربًا ومشكّكًا في الثقة اليقينية، لدى نقّاد وكتّاب "شعر" في تشابكهم مع مفهوم الحداثة، وماهيتها، بل وشعرائها المركزيين. (روبين كريسويل، 2019، 7).
أمَّا الحداثة التي انبرت لها الجيوسي، فهي أقرب لمشروع محمد أركون المتشابك مع جوهر الأدب العربي، بوصفه أنسنة فلسفية وجمالية واجتماعية وسياسية وحضارية، خصوصًا لجيل التوحيدي ومسكويه وابن سينا، بعد القطيعة المعرفية التي حدثت في القرن الـ11 في سياق الحضارة العربية الإسلاميّة.
تتلخص الأنسنة في ملة واعتقاد أركون، باعتبارها "جينيولوجيا" أخلاقية ومعرفية وسياسية واقتصادية راسخة، تتجلّى عبرها قيم العدالة والمساواة واحترام الإنسان وإرثه وعقلانيته وكرامته وهُويته.
سعت الجيوسي لكتابة موسوعة عن نبي الإسلام محمد- عليه الصلاة والسلام- من منطلق إيمانها بأهمية الحوار الثقافي الحضاري بين الشرق والغرب، ولأنَّها تدرك ما فعلته أقلام المستشرقين من أدلجة ومحو لعمق الإناسة أو النزعة الإنسانويّة في التراث العربي الإسلامي خارج إطار الآخر والاستشراق، وخارج نزعة التهيب والخوف والإسلاموفوبيا التي شبّت في الخطاب الغربي بصورة واضحة، بعد انفجار سرديات أدب الإرهاب وما بعد أحداث سيبتمبر 2001.
ربما لم يُكتب لهذا المشروع أن يرى النور لأسباب استشراقية متشنجة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن الجيوسي ظلت تفتح الأبواب الثقافية بلا توقف، وتحاول دون كللٍ تكريس خطاب أدبي عالمي جديد للأدب العربي في الساحة العالمية، ونجحت في رفد المكتبة العربية العالمية بكتب التراث العربي في بريطانيا وأميركا وأوروبا، مترجمة بلغة رصينة، وبنبرة موسوعية، تعيد للتراث العربي الإسلامي بعضَ ألقه وروحه التي تحاكي كلَّ الأزمنة قديمًا وحديثًا.
ولكن على خلاف أركون الذي يؤمن ببرجوازية الأدب على طريقة الأنسنة الغربية والنهضة الأوروبية؛ فإنَّها تؤمن بعالمية وكونية الأدب الهامشي وغير المكرّس، حتى أنَّها تصدت لمشروع كبير عن "موسوعة القصة العربية الكلاسيكية" نشرته جامعة كولومبيا العام 2010، خصوصًا أنَّ خطاب الشعر العربي ظلَّ مسيطرًا على المخيال الغربي بل والعربي، وصارت مقولات الشعر، مركزية في الأدب العربي المكرس قبل انفجار سرديات الرواية على يد الطيب صالح ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف. ألم تقل العرب فلان "أشعر"الناس ولم تقل مثلا: "فلان أنثر الناس". فجاء انتصار الجيوسي للنثر العربي، محاكيًا لانتصار أبي حيان التوحيدي لعمق الأدب والأنسنة، ونحن ما نزال نتعلم من طروحاته ومقولته المركزية: "أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنَّه النثر، ونثر كأنَّه النظم".
حرّرت الجيوسي هذا العمل الكبير بهمة فريق كامل، تصل الليل بالنهار، ولا تعرف للراحة سبيلاً، فكانت اختياراتها في الترجمة مقتطفات من أعمال ابن طفيل "حي بن يقظان"، والجاحظ "كتاب الحيوان"، وابن المقفع "كليلة ودمنة"، ورسائل إخوان الصفا، والمقامات، والمعري "رسالة الغفران" ومغامرات سيف بن ذي يزن، وقصر خسرو، وعدل عمر بن عبدالعزيز وغيرهم.
وهنا لا بدَّ لنا من استبصار مشروعها الإنسانوي الممتد في استدعاء التراث العربي القديم وترجمته، خصوصًا القصة العربية الكلاسيكية، والتي جاءت على صورة الحكاية أو الخبر، ثم امتدت في المقامة التي بدت أكثر إطنابًا وحريةً ومساحة، برغم إكراهات السجع والمحسنات البديعية التي يستحيل ترجمتها.
ماذا تريد الجيوسي من كل هذا الفعل الثقافي الجمعي الذي يتفوق على جهود كثير من الجامعات العربية قاطبةً؟
وبالاتكاء على مفهوم النهضة Renaissance الذي أكّد إحياء التراث الإغريقي والروماني والفلسفي، في باكورة القرنين الـ16 والـ17 في أوروبا عبر الأنسنة، أي التربية الشعرية والفلسفية والتعليمية، والتدرب على إحياء التراث بتحديثه وإحياء روحه، وترجمته بروح العصر الحداثية، وحدث مع مسرحيات الملك أدويب ل"سوفيكليس"، والإلياذة ل"هومر"، والإنيادة ل"فرجل"، وبويطيقية الشعر أو فن الشعر لأرسطو، وجمهورية أفلاطون، وغيرها من أمهات الأدب والفلسفة الغربية المكرّسة، جاء مشروعها لترجمة الأدب العربي الكلاسيكي مُجِدّدا روح التراث العربي بنكهة حداثية خلاقة وأصيلة. أليست الحداثة استدعاء خلّاقًا للتراث؟ أليس حفرًا معمّقًا في وجوه التراث المضمرة في زمكان العصور المتجدّدة؟ كلُّ هذه أسئلة مضمرة ومركزية في مشروعها الأدبي والفكري.
تبدو همّة الجيوسي في استدعاء التراث وتطويعه في الأدب العالمي والإنسانوي، فكرة مثالية لمن يدرك صعوبة الولوج إلى عالم النشر والانتشار، والاعتراف في الدوائر المعرفية والأدبية العالمية، خصوصًا وأنَّها لا تتبع مؤسسة ثقافية أو حكومية، وليست محسوبة على مؤسسة بعينها، بل هي رسولة الفكر العربي العالمي بين الشرق والغرب، وعرابة ترجمة التراث العربي الإسلامي. لهذا؛ كانت تطمح إلى ترجمة الأدب العربي لأكثر من عشر لغات عالمية، إيمانًا منها بأنَّه بقضّه وقضيضه، ليس مجرد نافذة على هذا العالم، بل هو امتدادٌ عضويٌّ ومركزيٌّ للأدب العالمي، وجزءٌ أصيلٌ للحداثة الغربية والعالم، وترجمتها لحي بن يقظان وابن المقفع ومقامات بديع الزمان الهمذاني، دليلٌ على هذا، وهنا لا ننسى أن ابن رشد لم يكن مجرد شارح للفلسفة اليونانية، بل هو المفسّر والفيلسوف والفقيه والحكيم بلغة علماء الكلام.
استقرَّ في مخيلتها ووعيها، أنَّ الترجمة الأدبية ليست مجرد نقل وتأويل، بل استبصارٌ فلسفيٌّ وجماليٌّ لزمنٍ محتشدٍ بمركزيّة قيم الإنسان وتناقضاته ونزعاته الوجدانية، وقلقه الحضاري، ووعيه ولا وعيه وأحلامه، وأساطيره وأوهامه وهزائمه وآماله. وظلّت مؤمنةً بأهمية وجود ثقافة عربية نخبوية مركزية على طريقة "جرامشي"، للرد بالمثل على كلِّ سرديات المحو التاريخي والحضاري، ضد الثقافة العربية الإسلامية.
وفي مقدمة موسوعة القصة العربية الكلاسكية، تقدم على اقتباس قول لافت للكاتب الأرجنتيني "بورخيس" "استقرت الأسطورة في باكورة الأدب"، وتعلّق على أهمية استدعاء الأسطورة في الأدب العالمي قائلة إنَّ "القلق الأسطوري من التجربة، كان بمنزلة نظرة الإنسان المبكرة إلى الكون، وذلك نتيجة مواجهة الإنسان لأسرار هذا الكون، والرغبة الملحّة التي انبجست في قلب الإنسان لفهم معضلاته المبهمة. كما أنَّ الأسطورة كانت بمنزلة الإجابة عن رغبة الإنسان الغريزية في قهر معوّقات الحياة، والشر المحدق به، والعجز والهشاشة البشرية التي يكتشفها في ذاته. ولهذا استولى الاهتمام المعمق بالسحر والحلول الخارقة للطبيعة على عقل وقلب الإنسان. لقد أصبحت هذه النزعة ظاهرة كونية في الأدب. كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام تتشابك مع الأساطير والخرافات، ولكن مشروع الإسلام جاء كعقيدة مركزية قطعت الطريق على هذه الصيرورة الأسطورية في تلك المرحلة المبكرة من استبصار مفاهيم إنسانيّة للكون، متجاوزة بذلك الإطار المفاهيمي الأسطوري للكون في مجابهته لألغاز الكون، من خلال تقديم تفسير نهائي للحياة البشرية والكون". (الجيوسي، ترجمتي، 2010، 5).
أدركت الجيوسي أنَّ الأدب العربي ممتدٌ قبل الإسلام وبعده، برغم التحوّلات الكبرى التي مرَّ بها الأدب العربي الكلاسيكي في العصر العباسي والأموي. ويبدو أنَّ مفهوم الأسطورة لديها يتقاطع كثيرًا مع رؤية الناقد "نورثروب فراي" الذي يرى في الأسطورة مفهومًا إنسانويًا حداثيًّا؛ لأنَّ الأسطورة لديه، من أشكال المحاكاة الطبيعية لتصوّرات الإنسان عبر عنصر المقاربة والهُوية والتقمّص السيميائي للإنسان. فدورة الحياة والموت، والكون، وأسرار البشرية والعالم، التي تجلّت في العهد القديم، ونصوص "هومر وأفلاطون وأرسطو"، تبدو إسقاطًا بشريًّا لفهم ماهية العلم والعقل والفضيلة والأخلاق والقانون، والمدينة العادلة التي رسّخ جذورها أفلاطون في جمهوريته (نورثروب فراي، 1961، 599).
فترجمة الجيوسي لبن يقظان مثلاً، تأويل وترجمة للفكر الإنسانوي العربي في سياقه الفلسفي الوجودي، وتعاطيه مع سؤال الخلق والأسطورة، والوجود، والمعنى بمفهومه الأفلاطوني. والأمر ذاته ينسحب على حكايات "كليلة ودمنة" التي ترجمها ابن المقفع، فبعدها الأسطوري، تراثي-حداثي، وإطارها الفلسفي إنسانوي، لا يفلت من قبضة السؤال القديم الحديث: أيهما أكثر حداثةً الأسطورة أم التراث؟ وهل يمكن لحضارة ما، أن تكتب تاريخها الأدبي والحضاري بمنأى عن عمق الأسطورة الإنسانوي؟ ولو نظرنا لعمق الأسطورة الإنسانوي في "ملحمة جلجامش" وأسئلتها الماثلة أمامنا، لأعدنا طرح السؤال نفسه: كيف للأسطورة أن تفهم الفن والتراث والوجود بأعين الاستعارة؟
بقيت هذه الأسئلة مفتوحةً على التأويل في مشروعها ورغبتها الموسوعيّة في ترجمة الأدب العربي الكلاسيكي والمعاصر وإحيائه، في سياق الدوائر الأوروبية المركزية.
لا شكّ أنَّ الكتابة والفكر العربي الحديثين، بقيا حبيسا ثنائية التراث والحداثة، فريقٌ يحاول التوفيق بين تيار التراث والحداثة، وفريقٌ يحاول قطع علاقته بالتراث، وفريقٌ آخر يحاول تأسيس تيار حداثي يحتقر التراث، وآخر يسعى لتقديس التراث واحتقار الحداثة، والتحذير من السقوط في فخّها، تمامًا كما نجد في طروحات وائل حلاق ونزعته الكارهة للحداثة الغربية.
خرج علينا الجاحظ في كتابيه "الحيوان" و"البيان والتبيين"، وكذلك ابن المقفع في كتابه "الأدب الكبير والأدب الصغير" بمركزيّة البلاغة في الأدب العربي؛ ليس لأنَّها مجرد ترف لغوي، يتبارى الكُتّاب والشعراء على تجويده وتهذيبه وصقله، كصناعة إبداعيّة يعرف بها الشاعر من الشويعر، ويميز بها الكاتب من الكويتب؛ ولكن لأنَّها البلاغة سر بقاء الأدب العربي وتعريفه وتجديده وبث الحياة فيه عبر الأزمنة، لهذا كانت نصًّا مركزيًّا في القرآن الكريم، ولعلنا نلحظ أنَّ ابن خلدون، قد توسل كثيرًا بمفهوم الملكة الأدبية لدى الشاعر والناثر، والذي يفهم أساليب العرب وضروب الصنعة البلاغية عندهم.
تعالوا نرى كيف وصف الكندي البلاغة، فحسب منظوره: ركنها اللفظ، وهو على ثلاثة أنواع: نوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع تعرفه وتتكلم به، ونوع تعرفه ولا تتكلم به، وهو أحدها. ولا أخفيكم أنَّني تذكرت نقد الجيوسي ومعارضتها لرؤية أدونيس في اختزاله للحداثة الشعرية والتراث العربي، والذي يؤمن بالقطيعة مع التراث، بل إنَّه اختزل الحداثة في نسختها الغربية، واكتفى بتحويلها إلى جوهر ثقافي وحضاري، ليخرج العرب من كهفهم القديم وماضيهم الثابت ونزعتهم الماضوية الجامدة في كتابه "الثابت المتحوّل"، فظلَّ المتحوّل في فكره ثابتًا؛ لأنَّ مسطرته، فكرة مسبقة عن الحداثة الغربية، لم تسلم من سيكولوجية المثقف المهزوم، والمنبت عن تراثه.
لهذا السبب؛ لن يرحم التاريخ أدونيس في انتصاره لحداثة سائلة، روحها وعقلها وشكلها غربي، لكن جسدها عربي، وسيذكر التاريخ أنَّ الجيوسي ظلّت مفكرة ومترجمة نحّاتة للتراث العربي، لا تسقط في جبه كحاطب الليل، بل تغوص في أعماقه على طريقة القابض على جمر التراث وروحه، تعيد ترجمته، وتنقده، وتبثُّ فيه روح الحداثة والمعاصرة، دون انتقاص من روح الحداثة كما يسميها طه عبدالرحمن، ودون تسطيح للتراث، لإرضاء الدوائر الغربية المركزية ودور النشر، فظلّت صورتها العربية العالمية، ملهمة لجيلين، جيل البدايات بعد النكبة، وجيل ما بعد النكسة؛ لأنَّ الحداثة كما تراها ليست مقبرة لجسد اللغة وشكلها وإكراهات الغرب، بل استبصار متجدّد وحيوي لروح التراث، تعيد خلقه وتبث فيه الحياة من جديد، وتتوسل بالشك والنقد لفهم التراث والحداثة معًا، بعيدًا عن الوقوع في فخِّ الثنائيات المضادة أو الثابتة.
والمتمعن في كتاب الناقد الإنجليزي الساخر "جوناثان سويفت" "حرب الكتب: معركة الحداثة والتراث"، يدرك قولًا واحدًا، أنَّ كلَّ تراثٍ فيه حداثة متجدّدة، وكل حداثة تنطوي على تراث خلّاق، وكما يقول محمود درويش "سمعتُ هنودًا قدامى ينادونني: لا تثق بالحصان ولا بالحداثة.. إنَّ الهُوية بنت الولادة، لكنَّها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض. أنا المتعدد في داخلي خارجي المتجدّد.. لكنَّني أنتمي لسؤال الضحية".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع العربية:
الشكر، ديما. "مع الناقدة والشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي"، مركز دراسات الوحدة العربية، 2014.
المراجع الأجنبية:
Creswell, Robyn. City of Beginnings: Poetic Modernism in Beirut. (Princeton: Princeton University Press, 2019).
Jayyusi, Salma Khadra. Classical Arabic Stories an anthology (New York, Columbia University Press, 2010).
Frye, Northrop. Myth, Fiction, and Displacement. (The MIT Press, 1961, pp. 587-606, Vol. 90, No. 3)..