د.شهلا العجيلي
أكاديمية وباحثة أردنية
تُعدّ العمارة إحدى المكوّنات الثقافيّة للبنية الاجتماعيّة، وهي تشير في كلّ من شقّيها الوظيفيّ والجماليّ إلى الهُويّة الثقافيّة للمكان الذي تشغله منتجاتها، ويعكسه مبدعوها، لاسيّما أولئك الذين يحملون التراث والمعاصرة في رؤيتهم وتكوينهم الذاتيّ، فالعمارة كما يقول المعماري الفرنسي "جان نوفيل:" مغامرة التعبير الروحيّ عن الهُويّة. وقد اصطاد رجال الأعمال والمستثمرين تلك المغامرة ليموّلوا أفخر المنتجعات في العالم، معتمدين على العمارة البيئيّة التي تستولد بشفافيّة روح الأجداد، وأفكارهم وخبراتهم، وتضيء ليالي السامرين والمنتجعين بمصابيحهم وأدواتهم، تلك التي تبدو قادمةً من زمن الألفة والحكايات الأولى، لكنّها في الحقيقة مصنّعة بمهارة وفق أحدث الأساليب المعاصرة، التي تجعل الجماليّ قادراً على إخفاء الجهود المضنية لإنتاجه، فيبدو كلّ شيء كأنّه قادم من التاريخ، ومستداماً ونظيفاً ومفعماً بطاقة الشمس والهواء، ويناسب روح الحضارة أو الثقافة التي يمثّلها، سواء أكان ذلك في منتجعات "سانتوريني" في اليونان، أو في البحر الميت في الأردن، أو في "ليوا" في الربع الخالي أو في العلا في السعودية.
• العمارة بين الوجد والسوداويّة
لاشكّ في أنّ المعماريين الثقاة وفرقهم العاملة من مشرفين ومنفّذين فكّروا بما يسمى (شيفرات الزلازل)، التي تتبع لسياسات التأهّب للكوارث، فتحفظ حياة الناس وقت الكارثة، أو تقلّل من آثارها، وبالمناسبة هذه الشيفرات ليسن وليدة هذا الزمان، وإلاّ لما وصلت إلينا الأوابد الدينيّة والمدنيّة والعسكريّة، وقد ظلّت كثير منها سليمة كما عمّرها أهلها. يمتلك صفوة المعماريّين رؤية صوفيّة إزاء فكرة العمارة في علاقتها مع كلّ من الزمان والمكان، ويعيشون حالات متطرّفة من الوجد؛ فالأصل في مهمّة العمارة "أن تحيي فينا ما قد نكونه في أحسن أحوالنا"، و"أن تتحوّل العمائر عبر الزمن من مسارح تضجّ بالحياة إلى شواهد عليها" كما يقول "آلان دو بوتون" في (عمارة السعادة). قد يعيش أولئك المعماريّون أيضاً اكتئابهم الخاصّ، فحساسيّتهم الجماليّة تجاه نصّهم العمرانيّ تجعلهم معذّبين دائماً بالقبح من حولهم، ولعلّ أعظم تجلّيات القبح تكون في الحروب والكوارث والدمار، وغالباً ما يكون للفساد سببٌ في إنتاج القبيح، يقول" لودفيغ فتغنشتاين": "تظنّون أنّ الفلسفة صعبة! لكنّي أقول لكم إنّها لاشيء إن قورنت بصعوبة أن يكون المرء معماريّاً جيّداً".
لعلّ هذا ما برهن عليه المعماريّ المصريّ الشهير حسن فتحي، الذي دوّن في كتابه (عمارة الفقراء) تجربته في سيرورة العمارة من الفكرة إلى المغامرة، بكل ما فيها من تحدّيات، ونجاحات، وإخفاقات، وتعرية للبيروقراطيّة، والفساد، والجهل، والعلاقات المشبوهة بين تجّار التراث والسلطة السياسيّة، لتحويل التراث المعماريّ الوطنيّ إلى سلعة أرباحها شخصيّة جدّاً، فمشكلة العمارة، كما يقول "بوتون"، هي أنّها لا تضع قوانين بل تطرح مقترحات.
• رحلةٌ نحو طريق مسدود
ولد حسن فتحي في 23 آذار عام 1900 في مدينة الإسكندرية، فاعتادت عيناه تكوينها "الكوزموبوليتانيّ"، وخصوصيّة طرز العمران فيها، وتخرج في (المهندس خانة) في جامعة فؤاد الأوّل، التي صارت فيما بعد جامعة القاهرة. مكّنته المعرفة الأكاديميّة من امتلاك العين الناقدة، فأبدع طرزه المعماريّ الفريد الذي استمد مصادره من العمارة الريفية النوبيّة، وهي تعتمد بشكل رئيس على طوب اللبن، ومن دور القاهرة الفاطميّة وقصورها، ومن عمائرها المملوكيّة فالعثمانيّة، فالأوربيّة. أسّس مشروعاً رائداً فيما يسمّى بتنمية الآفاق البعيدة، وهو مشروع بناء قرية القرنة في أسوان لتحسين حياة ثلاثة آلاف ومئتي أسرة، والذي عرف بمشروع عمارة الفقراء.
كانت القرنة مبنيّة على موقع أثري غنيّ، وكان سكانها يستولون على تلك اللقى ويتاجرون بها، فصدر قرار بنقلهم إلى قرية جديدة أبعد قليلاً عن الموقع، تولى حسن فتحي تصميمها، وسمّيت بالقرنة الجديدة، عمل فيها على دمج كلّ من التراث والمعاصرة ومعطيات البيئة الطبيعيّة والثقافيّة، فاستلهم تقنيات العمارة في الصعيد، وأساليبها الجماليّة والوظيفيّة فاعتمد الطين المعالج في البناء، بشكل رئيس عوضاً عن الإسمنت المسلّح، ودعّمه بتقنيّة العقود والقباب بدلاً من الأعمدة، فقلّص نسبة المواد المستوردة تماماً، ممّا قلّل تكاليف البناء بشكل مذهل، فضلاً عن مراعاته عوامل المناخ و البيئة في التصميم، ممّا مكّنه من التحكم بدرجات الحرارة عبر تحديد اتجاه المنازل، وموقعها بالنسبة للشمس وحركة الرياح، واستعمال الملاقف، وتحديد مدى ارتفاعاتها، وقد ساعدته في ذلك تأمّلاته في البيوت والكتاتيب القديمة، ومعتكفات المتصوّفة، والمقابر التاريخيّة.
كانت القرنة الجديدة، كما خطّط لها حسن فتحي، مجتمعاً حيويّاً متكاملاً، فيها الأسواق والمدارس والمسارح والساحات وأماكن للعبادة والترفيه والاستراحة، ومركز للخدمات الطبيّة، كما تضمنت العديد من المباني الخدميّة مثل مرافق غسيل الملابس والمخابز والآبار، يقول حسن فتحي في كتابه: " هناك 800 مليون نسمة من فقراء العالم الثالث محكوم عليهم بالموت المبكّر بسبب سوء السكن، هؤلاء هم زبائني".
لم يكن هذا العمل الملهم يهدف إلى تأمين منازل كريمة ورخيصة التكلفة للمواطنين فحسب، بل هدف إلى تنمية بشريّة مستدامة، إذ قام بتدريب السكان المحليين على إنعاش كلّ من حرفهم وتجارتهم التقليديّة، لصنع مواد البناء والإكساء الخاصة بهم وترويجها، وتعليمهم أساليب البناء المقترحة لتكون مورد عيشهم، بدلاً من تجارة الآثار الممنوعة والمحفوفة بالصراعات والمخاطر.
• الوعيُّ المستلَبُ، وغيابُ تقدير الذات
يقول حسن فتحي في كتابه: "إنّ الله قد خلق في كلِّ بيئةٍ المواد التي تقاوم مشكلاتها، ويكمن ذكاء المعماري في التعامل مع المواد المطروحة بين يديه، لأنّها المواد التى تقاوم قسوة طبيعة المكان..."؛ لذا اشتغل على البدائل المتوافرة من طوب وخشب وخوص بدل الخرسانة والحديد والإسمنت. كانت الرؤية المعماريّة السائدة منذ أواخر القرن التاسع عشر تتبع ما أنتجته الحداثة الأوربيّة من طرز معمارية بالاتساق مع حركة الفكر، والثقافة، والفن بعامّة، لكن فتحي خرج على معطيات النسق المسيطر ليعبّر عن الشخصيّة المحليّة بتراكماتها الفرعونيّة فالعربيّة فالإسلاميّة، والتي تناسبها تلك المواد المحليّة، فحقّق بذلك الرؤية التي أشار إليها علم الجمال الكلاسيكيّ بأنّ الجميل هو الملائم، ويذكر أنّه في سبيل ذلك بحث في المدن والقرى المصريّة النائيّة عن ورثة ذلك الأسلوب المعماريّ، وتواصل مع البنائين القدامى الذين يعملون بالطرق القديمة ويتقنون القباب التي اعتمدوها في عمارة الجوامع والكنائس. وقد تحدّث عن تبجّح الحرفيّين الجدد ورفضهم لتنفيذ الأساليب القديمة في صناعة العقود والأبواب، إذ يرغبون باتباع الأسلوب الأوربيّ السائد فيزدرون الأصول نتيجة وعيهم المستلب، وحسهم التجاريّ الفاسد.
فشل مشروع حسن فتحي في وقته، ورفض سكان القرنة الانتقال للسكن في القرية الجديدة، وذلك لانتفاعهم من البقاء قرب الآثار من جهة، وعدم استيعابهم رؤية فتحي غير المألوفة من جهة أخرى. كما أنّ فتحي خاض صراعاً مع المسؤولين الكبار في الدولة، والمتحكّمين برؤوس الأموال، من أجل مشروعه الوطنيّ، فهاجر لسنوات عن مصر، وحين عاد وجد مشروعه في المرحلة التي تركه فيها، ليأتي بعد عقود مهندسون ومتعهّدون محنّكون، يستثمرون في منجز فتحي الرائد لصالح شركاتهم.
قسّم حسن فتحي كتابه إلى أربعة أقسام، وفاقاً لثقافته الموسيقيّة السيمفونيّة، وبذلك يكون قد سبق إدوارد سعيد في طباقيّته الأوركستراليّة، فجعل الحركة الأولى في بنية الكتاب (لحن الاستهلال) متسقة مع بنية مشروع حياته بين الحلم والواقع، والثانية (لحن الترنيمة) في تكنيك البحث الذي أنتج ثنائيّات متوالدة من الذات والآخر، فالمستعمِر والمستعمَر، إذ يبسط الصراع بين النمطين الأوربيّ والشرقيّ في العمارة، وتجربته مع أهل القرنة في ذلك من حيث وعيهم المستلب، فهم يعتقدون أنّ بيت الخرسانة ينقلهم إلى طبقة اجتماعيّة أفضل. ويتطرّق في (لحن الترديد) إلى ثلاثيّة المعماريّ والفلاّح والموظّف البيروقراطيّ، ويعلن في (لحن الختام) عن مشاعره الخاصّة، ورغبته الأصيلة في البحث عن انتصار يغيّر فيه عقليّة الإنسان المصريّ البسيط، ومن ثمّ حياته إلى الأفضل.