شعراءُ خلّدهم التاريخُ وقتلتهم أشعارُهم؛ الهجاءُ والغزلُ ومخاصمةُ الولاة أهمُّ أسباب قتل الشعراء.

سناء الجمل
كاتبة وباحثة مصرية
الشعرُ صورةٌ من صور البيان والبلاغة، والشعر العربي سِجلٌ حافل بأحوال العرب الاجتماعية والسياسية عبر العصور، وتصوير شامل لما كان عليه المجتمع في العهود السابقة، ولقد كان الشعر -في الماضي- الوسيلة الإعلامية الأولى التي تؤثِّر في الناس، وكان الحكّام والسلاطين يستثمرون الشعراء في مدحهم وتحسين صورتهم، والدفاع عن مواقفهم وسياساتهم، وكانت تُقام الأسواق والمنتديات التي يجتمع فيها الشعراء، ويتبارون في تقديم ما لديهم من قصائد وأشعار، مثل سوق عكاظ في الجاهلية، الذي بلغت شهرته الآفاق.
غير أنَّ هناك من الشعراء من شذَّ عن الطريق، وأمعن في هجاء بعض الأفراد، سواء كانوا أشخاصًا عاديين، أو أمراء، أو سلاطين، وقام بمناصرة فرقٍ وتياراتٍ معادية لبعض الخلفاء وأصحاب النفوذ؛ حتى قاده شعره ولسانه إلى الموت؛ فصار صريعاً لشعره، وقتله لسانه!!
ومنهم المتنبي؛ وهو أحدُ أعظم الشعراء وأكثرهم تأثيرًا في اللغة العربية، فملك زمام بلاغتها، وبسط نفوذه على صياغاتها وجمالياتها، بموهبة شعرية غير عادية، عاش حياةً مملوءةً بالجدل قادها طموحه السياسي وقصائده الاستفزازيّة، حتى مقتله عام 965.
هو أبو الحبيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن مرة بن عبد الجبار وشهرته المتنبي، من مواليد مدينة الكوفة بالعراق عام 915م. وكان شاعرًا بالعصر العباسي (750-1258 م). نظم قصائده في مختلف مجالات الشعر، واهتمَّ كثيرًا بشعر الهجاء والمديح، وكانت أيامه الذهبية في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، فقد نظم له أبلغ قصائد المديح.
بدأ المتنبي كتابة الشعر عندما كان في التاسعة من عمره، وظلَّ يتفوّق على شعراء زمانه، ليصبح أحد أهم الشعراء، حتى أنَّه لُقّب بشاعر العرب، ووُصف بأنَّه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، ولكن بنهاية حياته فترت العلاقة بينه وبين سيف الدولة الحمداني وحزن لذلك حزنًا شديدًا، فرحل للعديد من البلاد، وبتلك الأثناء كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني، وكان قاطع طرق عُرف عنه قطع الطريق ونهب القرى وسلبها، وقد هجاه المتنبي بقصيدة شديدة اللهجة جارحة الألفاظ وتحتوي على الكثير من الطعن في الشرف قائلاً:
"ما أنصف القوم ضبة وأمَّه الطرطبة!
وما عليك من القتل إنَّما هي ضربة
وما عليك من الغدر إنَّما هي سُبّة!!"
ثم يقول:
"ما كنتَ إلا ذبابًا نفتك عنا مِذبة
وإن بعدنا قليلاً حملت رمحًا وحربة
إن أوحشتك المعالى فإنَّها دارُ غربة
أو آنستك المخازي فإنَّها لك نِسبة"
فلما كان المتنبي عائدًا إلى الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه محمد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة بن يزيد العيني الذي هجاه المتنبي، وكان في جماعة أيضًا. ولأول وهلة حاول المتنبي الفرار فناده غلامه قائلاً: ألستَ القائل:
- الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم.
حينها التفت المتنبي إلى خادمه قائلاً: ويحك لقد قتلتني يا فتى. وكرَّ راجعاً ليخوض معركة مع خصومه فتقاتل الفريقان، وقُتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالنعمانية. ومن يومها عُرف المتنبي بالشاعر الذي قتله بيت شعر.
فالشعراءُ الذين قتلهم شعرهم: إمَّا هجَّاءٌ أمعن في مخاصمة بعض الولاة أو الحكام أو الشعراء، وانطلق في النيل من شرفه والتشهير به وإظهار نقائصه، وإمَّا عاشقٌ أمعن في التغزل بالنساء؛ حتى جاء حتفه على يد ولي المرأة أو أخيها أو زوجها أو ابنها.
• الغزلُ ونهاية شاعرين:
أولهما هو الشاعر "هُدْبة بن خَشْرَم"، من بني عامر، من بادية الحجاز، وكان شاعراً متقدماً فصيحاً، وراوية للحطيئة، وقد بدأ الشعر يرسم نهايته، هو وشاعر آخر من شعراء عصره، وهو "زياد بن زيد"، وهما من شعراء العهد الأموي، حيث كانا مع رَهْط من قومهم قاصدين الحج، وكان مع هدبة أخته فاطمة، فتغزل بها زياد قائلاً:
"عوجي علينا واربعي يا فاطما ما دون أن يرى البعير قائما
كـأنَّ فـي المـثـناة منه عائماً إنَّـــك والله لأن تُـــبــاغــمــا
خَـوداً كـأن البـوصَ والمـآكِـمـا مــنـهـا نَـقـاً مُـخـالَطٌ صـرائِمـا".

وأطال زياد في قصيدته، فغضب هدبة، وردَّ عليه بأن تغزل في أخته، وكانت تسمى أم حازم، فقال:
"لقد أراني والغلام الحازما نزجي المطي ضمرًا سواهما
متى تظنُّ القلص الرواسما والجلة الناجية العياهما
يبلغن أم حازم وحازما إذا هبطن مستحيرًا قاتما".
فسبّه زياد، وردَّ عليه هدبة، وطال بينهما ذلك؛ حتى صاح بهما القوم، فسكتا، كل منهما على ما في نفسه، ولكن هدبة كان أشدَّ حنَقاً على زياد، ورأى أنَّه قد غلبه وضامه، فقد تغزّل في أخته فاطمة، وهي حاضرة سامعة، بينما تغزّل هدبة في أم حازم، وهي غائبة لا تسمع غزله فيها.
ومن هذا اليوم صارت عداوة بين هدبة وزياد، ظهرت بوادرها في المعارضات الشعرية بينهما، ولم يشف هدبة ما قاله من الشعر، وتحيَّن الفرصةَ لقتل زياد حتى قتله، فأمسك سعيد بن العاص والي المدينة به، وأرسله الى معاوية بن أبي سفيان، فأقرَّ أمامه بقتل زياد، وحُبس بالمدينة ثلاث سنوات، حتى يبلغ "المِسْوَر" ولد زياد الحلم، ويُخيّر بين أخذ الدية أو القصاص.
وبعد أن بلغ الغلام أراد سعيد بن العاص بذل محاولة أخيرة مع عبد الرحمن أخي زياد بأن يقبل دية أخيه ويعفو عن هدبة، ولكن عبد الرحمن أصرَّ على قتله، وقال للوالي: إنَّه قال بيتاً من الشعر؛ لو لم يقله لقبلت الدية، أو صفحت بغير دية! والله، لو أردت شيئاً من ذلك؛ لمنعني قوله:
- "لنجدعن بأيدينا أنوفكم ويذهب القتل فيما بيننا هدرا ".
فدفع الوالي بهدبه ليقتل، فبدت في عينه حسرة، وما ندم بشر على قول؛ كما ندم هدبة على قوله هذا البيت الذي قاده إلى الموت! والتفت هدبة إلى قوم زياد وهو مقيد بالحديد قائلاً:
"فإن تقتلوني في الحديد فإنَّني قتلت أخاكم مطلقا لم يقيد"
فقال عبد الرحمن: والله لا نقتله إلا مطلقاً من وثاقه، ثم قال: "قد علمت نفسى وأنت تعلمه لأقتلن اليوم من لا أرحمه".
ودفع السيف إلى "المسور بن زياد" فضرب هدبة ضربتين مات فيهما.
• طَرَفَة بن العبد:
شاعرٌ جاهليٌّ مشهور، هو طرفة بن العبد الذي قُتل وهو في السادسة والعشرين من عمره، ومع حداثة سنه؛ إلا أنَّه استطاع أن يشمخ بقامته أمام كبار شعراء عصره، وتميّز عليهم بحكمة كانت وليدة ظروفه الخاصة، وظهرت في بعض أشعاره، ومنها قوله حسب بعض المصادر:
"إذا قلَّ مال المرء قل بهاؤه وضاقت عليه أرضه وسماؤه
ولم يـمـض في وجه من الأرض واسعٍ مـن النـاس إلا ضـاق عـنـه فـضاؤه
وأصــبــح مــردوداً عــليــه مـقـالُه وكــان بــه قــد يَـقـتـدي خـطـبـاؤه

فإن غاب لم يشفق عليه صديقه وإن آب لم يفرح به أصفياؤه".
( وهناك من ينسب هذه الأبيات إلى الشاعر يحيى بن أكثم وهو الأرجح)

وقد بدأت نهاية هذا الشاعر الشاب عندما رحل من اليمامة إلى الحيرة، وادّعى جوار ملكها عمرو بن هند، وعندما أساء إليه الملك يوماً، ولم يكرِم وفادته، كما كان يفعل من قبل؛ هجاه، وهجا أخاه قابوساً، ولكن الهجاء لم يصل إلى أسماع عمرو بن هند إلا عن طريق رجل يسمى عبد عمرو بن بشر الذي هجاه طرفة أيضاً، وقد قال طرفة يهجو بن هند:
"فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثًا حول قبتنا تخور
من الزمرات أسبل قادماها وضرّتها مركّنة درور
يشاركنا لنا رخلان فيها وتعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إنَّ قابوسَ بن هند ليخلط ملكه... كثيرُ!"
في هذه الأبيات يرى طرفة عمرو بن هند ملكاً لا يصلح للمُلك، وخير منه نعجة تخور، وإن كانت قليلة الصوف؛ فربما كان لبنها كثيراً يكفي رضيعها وحالبها، وهي لا تنفر من الكباش، فقد اعتادت أن يقع عليها الذكور!.
فغضب عمرٌو، وأضمر في نفسه الانتقام من طرفة، ثم أرسله إلى عامله على البحرين برسالة، وأمره فيها بقتله، فقتله.