في شرعية قصيدة النثر

د. راشد عيسى
أكاديمي وشاعر أردني؛ عضو هيئة تحرير مجلة أفكار.
يخضع الشعر كغيره من الفنون إلى سنن التطوّر والتجريب بصفته شريكًا بارزًا في مسيرة الحضارة الإنسانية. ولما استمر شعر الشطرين (الخليلي) سائدًا منذ ما قبل الإسلام فمن البدهي أن ينهض شعراء يجتهدون في تجديد أزيائه واتجاهاته.
فبعد أن نشرت الفرنسية "سوزان برنار" كتابها عن قصيدة النثر الجديدة قام شعراء عرب من الشام ومصر بتحري شكلانية هذه القصيدة وتجريب الكتابة فيها ولا سيّما شعراء مجلة (شعر) في لبنان؛ كأدونيس والماغوط وأنسي الحاج، وذلك في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، فواجهوا تحديات التجريب وامتحان الذائقة العربية التي اعتادت شعر البحور، وكان لا بُدَّ أن تواجه صدمة الحداثة الشكلية في قصيدة النثر. فاسْتُحسنت نصوص الماغوط وظلّت نصوص سواه ما بين مرفوضة وشبه مرفوضة.
غير أنَّ هذا النصَّ الجديد ظلّ يتنامى عبر شيوعه واستسهال كتابته فصار متاحًا لنفر كبير من غير الموهوبين الذين لم يستطيعوا حتى الآن تثبيت شرعيته الفنية لدى الخاصة من الجمهور ولدى العامة أيضًا.
ولعلَّ سبب هذا التأخر المستمر في نيل قصيدة النثر استحقاقها من الاعتراف الأكيد بها هو خلوّها من الموسيقى الشعرية التي تأسس عليها الشعر العربي التليد، أو قل تأسس عليها الشعر في كل البيئات العالمية. ذلك لأنَّ موسيقى الشعر تنغيمٌ فطريٌّ بدائي مصاحب للبنية اللغوية التعبيرية على غرار حداء الإبل. ولأنَّ الموسيقى أنغامٌ انفعاليّةٌ تساند في إبراز العاطفة ومصداقية البوح وتساعد في تحقيق وقْع القصيدة على سامعها أو قارئها من خلال التقسيمات الإيقاعية التي تحقّق القافية ذات السجع الصوتي الجامع للبنية.
أمام غياب العنصر الموسيقي بدت (قصيدة النثر) نصًّا نثريًّا في شكلانيته، لكنَّه كما يتراءى لكاتبه مشحون بالتوابل البلاغية الأخرى التي تعوّض غياب الموسيقى فتبقيه في دائرة الشعر. فتعددت التسميات من نثيرة شعرية إلى شعر منثور أو نثر مشعور. واستمرت في الشيوع والتجريب وما زالت، بحجة أنَّها تنطوي على إيقاع داخليّ وعلى عناصر فنية أخرى كالتوازي والتوالي والتكثيف والصور الشعرية وحريّة الانثيال وانفتاح الدلالة.
والغريب أنَّهم يعلمون أنَّ ما يزعمونه من عناصر شعرية موجودة في قصيدة النثر هي عناصر موجودة أيضًا في الشعر الموزون سواء شعر الشطرين أو شعر التفعيلة.
لقد دخلت قصيدة النثر في التجريب الذي يحاوله العارفون بالشعرية والجاهلون بها. وها هي منتشرة في العالم كله بصورة سيادية عالية يكتبها الموهوب وغير الموهوب تحت باب حرية التجريب.
لا نكاد عربيًّا نقف على عشرة أسماء بارزة في كتابتها: كالماغوط، وأدونيس، ونوري الجراح، وسليم بركات، وأمجد ناصر، ومحمد بنيس، وأحمد الشهاوي، ورفعت سلام، وقلة أخرى.
وأتوقع أنَّ سبب تأخر أو تباطؤ الذائقة العربية بالاعتراف بشرعية قصيدة النثر هو نزارة النماذج الرفيعة منها التي تنطوي على لمع فنية تسدّ مسدّ خسارة الموسيقى. وبالرغم من ذلك فقد باتت منتشرة مجتهدة في إقناع الذائقة بأنَّها جديرة بالسيرورة والحضور.
لقد أربكت قصيدة النثر نظرية الأجناس الأدبية واخترقت وسائط التواصل الاجتماعي في ظلِّ هذا الازدياد العارم في عدد كتابها، كما تضاعفت ادّعاءات المدافعين عنها من حيث محاولات التعقيد لها وتثبيت معاييرها، فعمّت فوضى الآراء والمزاعم. حضر النقد والتناقد وغابت القصيدة التي نطمئن إلى جدارتها الجمالية.
وعلى الرغم من كل هذا الذيوع لقصيدة النثر فلا يكاد يظفر المتلقي العربي بنماذج ممتازة تتمثّل بها أو تجري على اللسان. فهو يقبلها مجاملةً كما هو سائد لكنَّه غير راضٍ عنها في حقيقة تذوقه. يحترمها ولا يحبها – فيما أرى – تمامًا كما يُضطرُ الابن لاحترام زوجة أبيه الثانية ضرّة أمّه.
إنَّ النظرة النقدية التأملية لحال قصيدة النثر تُحيلنا إلى التأكيد بأنَّ الشعر فنٌّ، ولا يخلو أي فن من شروط. وأنَّ المهارة الإبداعيّة تكمن في مدى اللعب بحرية داخل إرادة الشروط وقيودها. وهنا تحضر مثل هذه الأسئلة:
الرياضة فن، هل يمكن أن تنجح مباراة في كرة القدم دون حكَم أو مرمى؟
أو كما قال ناقدٌ غربيٌّ: هل يمكن أن تلعب تنس الطاولة دون شبكة؟
ففي اللعب دون شبكة تغيب مهارة اللعب، ومتعة التفنن في التصويب والتسديد ونكون أمام فوضى ساذجة مملّة غير مثيرة.
فالحكمُ بالجودة على أيِّ فنٍّ يعود إلى مدى تحقيق الإمتاع ضمن اللعب داخل القيود وهذا شرطٌ جماليٌّ فطريّ.
أرجو ألا يُفهم من عرضي هذا أنَّني ضد التجريب وضد قصيدة النثر، الأمر ليس كذلك، إنَّما أسعى في هذه المقالة إلى البحث عن مخرج جمالي لقصيدة النثر يؤازر دعوتها إلى حرية التجريب التي يؤمن بها كل مبدع في العالم.
الشعرُ فتنةٌ ساحرة، وفي كلِّ أديبٍ أو فنان- قاصًا كان أم روائيًّا أم رسّامًا أم خطاطًا- رغبةٌ دفينةٌ لأن يكون شاعرًا. فالكون كله دُوار شعري فاتن. غير أن الشعر كما أسلفت فن ولكل فن ضوابطه وقواعده.. وليس فوضى الخروج عن الضوابط سوى نوع من كسل المخيلة وضآلة الموهبة.
من هنا ينفتح هذا العدد من مجلة أفكار على آراء ومدارسات في قصيدة النثر التي يستمر الحديث عنها بصورة أرحب من الإنتاج والثمر الإبداعي.