قصيدة النثر: جمالياتٌ جديدةٌ

د. محمد عبيدالله
أكاديمي وناقد أردني

بالرغم من مرورِ عقودٍ طويلةٍ على ميلاد (قصيدة النثر) العربيّة، فما زالت تثير النقاش، وتحرّك الساكن حتى اليوم، مما يدلُّ على أنَّ هُويّتها الشعريّة لم تزل موضع جدل، ابتداءً من مشكلة التسمية التي تجمع الشعر مع نقيضه، كما أنَّها ترجمة حرفية لأنواع شعريّة ظهرت في الثقافات الأجنبية، فهي وفق ذلك نوعٌ شعريٌّ وافدٌ على الثقافة العربية التي تعتدّ بالشعر منذ عشرات القرون. ومع ذلك فقد استقرت تسمية (قصيدة النثر) مصطلحًا واسْمًا شائعًا لهذا النوع الشعري-الكتابي المختلف. وولدت منذ خمسينات القرن العشرين مواهب كبرى تمكّنت من إثبات مشروعية هذا النوع ودرّبت الذائقة العامة على تقبّله، إلى جانب الأنواع الشعريّة الأخرى.
ولا شكَّ في الدور الحاسم لمجلة (شعر) التي أسّسها يوسف الخال في بيروت عام (1957) بوصفه أوضح جهد جماعي في تطوير هذه القصيدة، وتوفير بيئة ثقافية تتبنى الحداثة وتدافع عنها بشكل صريح، ونقل النقاش فيها إلى مستويات جادة غير مسبوقة، لكنَّه مع ذلك ليس الدور الوحيد، فلقد سُبق هذا الدور وترافق مع أعمال مهمة ورائدة لا يمكن نسيان موقعها في تاريخ هذه القصيدة.
وأمَّا المجموعات الشعريّة التي يمكن أن نعدّها علاماتٍ رائدةً ومبكرة فمن أولها ما قدّمه أمين الريحاني في ديوان (هتاف الأودية)/1910، الذي صنفه صاحبه ضمن (الشعر المنثور)، وهي تسمية غير بعيدة عن مصطلح (قصيدة النثر). ومن الإسهامات التاريخيّة في النصف الأول من القرن العشرين: تجربة لويس عوض في (بلوتلاند وقصائد أخرى/1947)، وما قدّمه أورخان ميسر في تجاربه السريالية النثرية كما في (سوريال/1947)، وكذلك ديوان ثريا ملحس (النشيد التائه/1949)، فضلاً عن مساهمات أخرى أقل شهرة من هذه الأعمال. أمَّا في خمسينيات القرن العشرين فإنَّ أبرز إصدارات قصيدة النثر: (ثلاثون قصيدة) لتوفيق صايغ عام 1954، وديوان (تموز في المدينة) لجبرا إبراهيم جبرا عام 1959، و(حزن في ضوء القمر) لمحمد الماغوط، 1959، وصولاً إلى ديوان (لن) لأنسي الحاج عام 1960، وديوان (ماء إلى حصان العائلة) لشوقي أبي شقرا عام 1962. أمَّا أدونيس ويوسف الخال القادمان من قصيدة التفعيلة فقد نشرا قصائد نثرية متفرقة، ونشرا دواوين تختلط فيها قصائد التفعيلة بقصائد النثر في هذه المرحلة، ونمثل على ذلك بـ(أغاني مهيار الدمشقي) لأدونيس، عام 1961، وديوان (قصائد في الأربعين) ليوسف الخال 1960. كما عزّز توفيق صايغ مسيرته عندما نشر (القصيدة ك) عام (1960)، ومعلقة توفيق صايغ (1963). ولم نميز في هذا التوثيق بين ما أُطلق عليه (الشعر الحر) كالذي نشره جبرا، وما سُمّي بقصيدة النثر بحسب مصطلح مجلة شعر، فهما في حقيقة الأمر نوع واحد ضمن التجربة العربية، وسبب اختلاف التسميات النظر إلى المصطلحات الأجنبية واختلافها بين الثقافة الأنجلوسكسونية ( Free Verse) والثقافة الفرنسية (poem en prose).
وبحسب أدونيس فإنَّ مسألة النظام العروضي لم تكن هي الأساس أو الأمر الملحّ في تكوين هذا الاتجاه الجديد، وفي ظهور حاضنته مجلة شعر، يقول: "عندما صدر العدد الأول من مجلة شعر شتاء 1957، كان الذين هيأوا لهذه المجلة وشاركوا في التخطيط لها، وفي مقدمتهم يوسف الخال، يؤسسون بوعي كامل لمرحلة جديدة في الشعر العربي، مفهومات وطرائق تعبير. وكان قد استقر في نفوسهم بالبحث والتأمل والممارسة، أنَّ مسألة التجديد في الشعر تتجاوز الخروج على النسق التفعيلي الخليلي، وأنَّ التجديد هو قبل كل شيء تجديد في النظرة، وأنَّه مرتبطٌ بموقفٍ جديد، شامل وجذري، من الإنسان والوجود، يعمقه الاطلاع والتفاعل وتهذّبه الحياة والخبرة" (أدونيس، ها أنت أيّها الوقت، ص44).
كما يؤرخ أدونيس جانبًا من هذه التوجّهات من الناحية النقدية والنظرية بمحاضرة مهمة ألقاها يوسف الخال في أواخر سنة 1956 بعنوان (مستقبل الشعر العربي في لبنان)... وربط أدونيس بعض أفكار الخال مع موقف أنطون سعادة (مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي) من التجديد مما عبّر عنه في أربعينيات القرن العشرين في كتابه: (الصراع الفكري في الأدب السوري). ويقتضي هذا الانتباه لدور الأيدولولجيا السورية الاجتماعية في تكوين شعراء قصيدة النثر الأوائل. وهو ما يؤكّده أدونيس صراحةً: "ما قاله أنطون سعادة في كتابه في الأربعينيات حول معنى التجديد، وأعاد صياغته يوسف الخال.. كان عنصرًا جوهريًّا في نظرتنا وفي ممارستنا النقدية، وفي التوكيد على أنَّنا لكي نفهم المعنى الحقيقي للحداثة الشعرية العربية، لا يجوز أن ننظر إلى النسق التشكيلي في القصيدة.. وإنَّما علينا أن ننظر إليه، من حيث هو نظام لعلاقات جديدة بين الشاعر واللغة، وبين اللغة وأشياء العالم". (انظر: أدونيس، ها أنت أيها الوقت، ص 64-70).
ويمكن أن نتبيّن حرية الشكل والإيقاع في قصيدة النثر والشعر الحديث إجمالاً بوصفها تجلّيا لحرية أوسع، تشمل فيما تشمل التحرّر من سلطة التراث، ومن سلطة المجتمع، ومن سائر السلطات المهيمنة، وتجد جانبًا من تمثيلاتها الجمالية في التحرّر من عمود الشعر، وأنظمته، ومن معايير الفصاحة والبلاغة التقليدية.
وقد نهضت قصيدة النثر، خصوصًا بعد انتقالها إلى بيئات وأقطار عربية متعددة، إلى جانب قصيدة التفعيلة بمهمّة جليلة تتمثل في إشاعة مُناخ التجديد والحداثة، وفي إحداث نقلة غير هينة في الذائقة الأدبية، مع أنَّ موقفها من التراث والشعر القديم لم يؤخذ على محمل الجد، ولم يلتزم شعراؤها اللاحقون ببيان يوسف الخال وتعليماته المنضبطة، بل وجد هؤلاء في مبدأ الحرية دافعًا للتمرد حتى على القواعد التي حاول الروّاد الأوائل رسمها وتحديدها، مما أسهم في تأسيس عدة تيارات تثري مسار قصيدة النثر وتفتحه على آفاق متجددة.
وقد بذل الناقدُ والشاعرُ الراحلُ عز الدين المناصرة جهدًا كبيرًا في تتبع إشكالات قصيدة النثر، وأصدر كتابه الموسّع (إشكاليات قصيدة النثر) الذي يُعدُّ أوسع تأريخ نقدي يتتبع تطوّر هذه القصيدة ويناقش خصائصها وتنويعاتها وتجنيسها حتى اليوم.
تتناول (أفكار) في هذا الملف بعضَ جوانب هذه القصيدة، بغية التذكير بمكانتها وأسئلتها المتجدّدة، فيقدم شربل داغر إضاءة مكثفة على طبيعة هذه القصيدة وعلى أهم خصائصها الفارقة، مستندًا في ذلك إلى دراساته ومؤلفاته المتخصّصة، وإلى تجربته الشعرية أيضًا. ويسترجع مصلح النجار مسار قصيدة النثر في الأردن منذ خطواتها وبداياتها المبكرة، حتى مراحلها الأخيرة التي كثر فيها المؤيدون لهذه القصيدة، وكسبت أصواتًا ومواهب كثيرة، بدأ معظمها بقصيدة التفعيلة وأحيانًا بالشعر العمودي. كما تقدّم مها العتوم صورة دالة عن قصيدة النثر النسويّة العربية والأردنية، انطلاقًا من ضرورة إضاءة هذه المساهمة المهمّة في مسار هذه القصيدة إبداعًا ونقدًا. وتضيء مقالة سيد ضيف الله تجربة قصيدة النثر الراهنة في مصر من خلال التركيز على تجربة نسوية مميزة هي تجربة الشاعرة إيمان مرسال، أحد الأصوات البارزة في مصر والعالم العربي اليوم، مع الاهتمام بمسألة النخبوية والشعبية في هذه القصيدة. وهناك إضاءة مفيدة تقدم لنا تجربة قصيدة النثر في الجزائر، وهي إحدى البيئات العربية التي وصلتها أصداء هذه القصيدة ووجدت ترحيبًا واهتمامًا لدى عدد من الشعراء المعاصرين، ومنهم عبد الحميد شكيّل الذي عُني في عدد من دواوينه بإشباع الميول الصوفيّة لقصيدة النثر والاستفادة من هذه النزعة المهيمنة والمفضّلة لدى شعراء القصيدة المعاصرة. ونختتم الملف بكتابة نصرالدين شردال من المغرب حول قصيدة النّثر النّسائيّة (البوح، الجسد، التّمرد).