شعريّةُ القصيدة بالنثر

د.شربل داغر
أكاديمي وشاعر لبناني

القصيدةُ بالنثر في العربيّة ، منذ بداياتها، لا تشبه القصيدة بالنثر، سابقتَها عند شعرائها الفرنسيين الأوائل، على الرغم من تأثرِ أعدادٍ من شعرائها (أدونيس، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، عصام محفوظ...) بثقافة الشعر الفرنسي، ومن ترجماتهم للعديد من شعرائها في مجلة "شعر". فقصائد هؤلاء لا تنفصل عن الإرث الشعري العربي القديم، محتفظةً بثابتَين على الأقل:
- الثابت الأول، هو احتياجُ نهاية السطر لفسحة طباعية بيضاء؛
- الثابت الثاني، هو نسبٌ عالية من التطابق بين السطر الطباعي وبين اكتمال الجملة النحوية.

حضورٌ شكلي متغير
هكذا، للقصيدة بالنثر حضورٌ شكليٌّ متغيرٌ، متحوّلٌ، لا ينتقل من قصيدة إلى أخرى، بل هو قيدُ التشكيلِ والتدبيرِ لدى الشاعر، في كلِّ قصيدة، من دون مُسبقات، لا منه، ولا من غيره.
لهذا يبدو السطرُ المنقطع غالبًا في الهيئة الطباعية لهذه القصيدة، موازيًا

لِما يحصلُ في القصيدة التفعيليّة؛ ما يجعلُ الصنفَين الشعريَّين على مقادير من الانسجام والتوافق مع البيت الشعري التقليديّ المنتهي بفسحة بيضاء.
ليس للقصيدة بالنثر هيئةٌ طباعيّةٌ محدَّدَة، ومعلَّلة، وإنَّما لها هيئةٌ تتعينُ في: السطر الممتد، أو في السطر المنقطع، وفقَ علاقاتٍ متبدلة في القصيدة الواحدة. كما أنَّ القصيدة قد تتشكّل وفق إشاراتٍ طباعية، تفصل بين مقطع وآخر، ما له إلزامات في بناء القصيدة. لهذه، إذن، هيئة طباعية، تقريبية أو إجمالية؛ أي أنَّها دون نظامية القصيدة العروضية، وهي دون الإلزام الطباعي المحدِّد للسطر في القصيدة التفعيلية. بل يمكن القول أيضًا إنَّ القصيدة بالنثر تلتقي بقصيدة التفعيلة أو بالعكس، في كونهما يقومان على السطر، المتبوع بفسحة طباعية بيضاء.
لقد أظهرَ التحليل وجود طُرق مختلفة في بناء الجملة، في "توجيهها"، في هذه القصيدة؛ وهي وُجهات مختلفة أحيانًا في المقطع الواحد. كما أمكن التنبه إلى أبنيةٍ عامةٍ للقصائد، تقوم على تقابلات ثنائية (على سبيل المثال) بين أسلوبَي النداء والوصف، أو بين التخاطب والنداء الفردي، أو بين الحوار والوصف وغيرها. إلا أنَّ هناك، في قصائد غيرها، ما يجعل القصيدة أشبهَ بخشبة مسرحية، يتنقل فوقها مؤدٍّ واحدٌ، هو مَلَكة الشاعر: نجدُها تتنقل وتصوغ أبنيةَ قولِها بطُرقٍ متعددة، مفتوحة؛ ما يجعل البناء النحوي أحيانًا أقرب إلى امتدادات شَبَكية.
هذا يعني أنَّ الوزن لم يَغِبْ عن القصيدة بالنثر، في عدد من تجلياته وصيغه. فقد أمكن التحقق من غلبة السطر المنقطع على السطر المتصل، ما لم يَعْنِ خيارًا طباعيًّا وشكليًّا وحسب. فبناء السطر، وفق هذا الشكل أو ذاك، أملى أو أوجب خيارات مزيدة: كان في إمكان الشاعر اعتماد السطر المنقطع، و"التمدد" بالجملة إلى سطر ثانٍ وثالث، إلا أنَّ شعراء قطعوا السطر، وقطعوا الجملة أيضًا؛ أي جعلوا من المنتهى الطباعي للسطر منتهى نحويًّا. وهو ما يوافق بناءَ البيت العروضي، حيث ينتهي مكتملًا ومنتهيًا بفسحة طباعية بيضاء.
عنى هذا أنَّنا لسنا أمام نسق إيقاعيّ، بل أمام حدوثات إيقاعيّة؛ وهي مِمّا يَحدث عفوًا، أو بشكل مقصود. هذا ما رسمَ صيغةً عامة لهذا المستوى، تفيد أنَّ القصيدة بالنثر تجنّبتْ وتخفّفتْ من العروض (ومتعلقاته)؛ بل بدا هذا الأمر شاغلًا ضعيفًا في عناياتها. ففكُّ أسرِ السطر، والجملة، من الوزن، جعلَ منهما طليقَين فعلًا، ما عنى عدمَ الانصراف إلى بنائهما.
غير أنَّ هذا التباعد مع الوزن والقافية لم يُعدم وجودَ الإيقاع، أو ما أسميه بـ"المَوْسَقَة". ولقد تمكنَ التحليل من إظهار بعض حدوثاته مِمّا لا يستقيم الكلام عنها تحت مسمَّى: "الإيقاع الداخلي". فمِثلُ هذا الحديث قد يعني وجودَ نسقٍ متتابع، قابلٍ للتعرف إليه، فيما لم يتمّ العثور عليه في أي قصيدة.
إلا أنَّ إسقاطَ الوزن جعلَ القصيدة في عهدة... الصوت، الصوتِ الناظم والباني ودافعِ الحركة في الكلام، في بنائه، في تدفقه. لهذا بدا حضور الصوت في القصيدة بالنثر صعبُ التبيُّن، ما يَظهرُ ولا يَظهر، ما يتأكدُ وما يختفي. إلا أنَّه ممكنُ الدرس، ولكنَّه يحتاج إلى أدوات دقيقة: ما يسمح بفحص "النبر" و"التنغيم" في الجملة، أي الضغط وأشكاله، وقوته وخفوته على الحروف، وعلى بعضها أكثر من غيرها. وهو يحتاج إلى فحص المواصفات الصوتيّة للحروف، بحسب "قيمِها" الصوتية (كما يُقال)، وبما يَسمح ببحث هذه "القيم" لجهة قابلياتها في التعبير، في رفد التعبير، لمعاني القصيدة.

• انفكاكٌ عن القديم
خرجتْ القصيدة العربية، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من الترسيمة البنائية للقصيدة القديمة، وانفكّت عن بعض مقوماتها البنائية، واستبدلتْها بغيرها، ما جعل التغير أكيدًا وملحوظًا بقوّة منذ العقود الأولى في القرن العشرين. وأَظْهَرُ ما ظَهَرَ من هذا الانفكاك تَعيَّنَ في كسادٍ متعاظمٍ لـ"النوع" الشعري، لبعضه على الأقل، فيما كانت تتشكل إبدالاتٌ أخرى للمعنى.
المتكلمُ، في القصيدة، "صاحبُ المعنى"، إن أمكن القول؛ أي أنَّه يُمسك بوُجهات المعنى، ويستجمعها لديه، كما لو أنَّ أناه المتكلّمة "خشبةُ" قولٍ وتعبيرٍ مخصوصة بها. هذا ما يجعله يبني للمتكلم "هُوية" تتشكّل في القصيدة؛ وقد تحيل (كما في قصيدتَي السياب والماغوط) إلى سيرة الشاعر الذاتية، وتصوغ الشبكة النحوية لمعانيها بين "الوطني" (العراق، دمشق...)، والسياسي (الجوع، الجدب، القمع...)، والفردي (الحبيبة، الأم، الغربة...) وغيرها. هي قصيدة المتكلم، ذات "خشبة" منعقدة بين الفردي والاجتماعي والتعبيري، ما يتيح أشكالًا من التعالق بين "جوانية" القصيدة و"خارجية" العالم المحيط.
إذا كان درسُ "الناظم" خلصَ، في بحوث وكتب سابقة لي، إلى استخلاص وجهة بنائية، ختامية، في عدد من القصائد (القصيدة الشذرة، القصيدة الطُّرفة، القصيدة السِّيَرية، القصيدة اللقطة الصورية، القصيدة اللوحة الصورية، القصيدة الحكائية أو السردية، القصيدة ذات المطالع و"الأدوار" وغيرها)؛ فإنَّ هذه الوجهة البنائية لم تُخفِ، في الأساس، أنَّ لِبناءِ المعنى، في القصيدة بالنثر، تشكلاتٍ متعددة، في ظهورات مختلفة.
أمكن، في التحليل، التنبهُ إلى "مواد" أو "موضوعات" متأتية من مصادر باتت متاحةً، أو مرغوبًا فيها، من الثقافة العربية أو الأجنبية، ما تغتذي به القصيدة بالنثر أكثر من غيرها. بل بدا هذا الاغتذاء علامةَ انفتاحٍ، وطلبَ حضورٍ في راهن العالم. كما أمكن الانتباه إلى أن هذا التثاقف توازى، أو ترافق، مع "انغماسٍ" شديد في شواغل و"قضايا" و"موضوعات" و"شخصيات" متعيِّنة في زمن القصيدة نفسه (فلسطين، الاستبداد، الفقر، التحرّر، "العدو"...). غير أنَّ هذه الثنائية، "الخارجية" والزمنية، انتظمت بناءً لحاجات المتكلم في التكلم، في التعبير؛ وهي حاجاتٌ جعلت من المتكلم "صائغَ معنى"، صاحبَ "ميولٍ" ووجهات في تسيير المعنى أو الطلب عليه.

• شعريّةُ القصيدة: فيها
هذه القصيدةُ ليست وليدًا هجينًا في الشعر العربي، وإن تأتّى صنيعُها من مؤثرات خارجية. وأَظْهَرُ دليلٍ على هذا هو أنَّ هذه القصيدة لم تنقطع، في إنتاجاتها وتشكلاتها الأولى، عن إرث الشعرية العربية، وهو ما لم يُنتبه إليه، ولا يُعيره اهتمامٌ (إن انتبهوا إليه)، من يكتفون بالمنظور العروضي سبيلًا وأفقًا للشعر والقصيدة.
هذا ما تحقّقَ منه الدارسُ، في التفاتاتٍ جزئية وسريعة، لكنَّها مضيئة، وهي أنَّ القصيدة التفعيلية مثل القصيدة بالنثر تتشاركان في الكثير، ولكن وفق منظورَين مختلفَين. وإذا كانت القصيدة التفعيلية حافظتْ على صلة، على ارتكازات، مع القصيدة العروضية؛ فإنَّ القصيدة بالنثر أشاعت أنَّ الشعرية لم تعد تسعى إلى التمامية بل إلى الشقاق، ولا إلى المواءَمة بل إلى التخالف.
القصيدة بالنثر إيذانٌ وإشهارٌ بجمالية مختلفة للقصيدة العربية. لهذا هي مخلوق غريب؛ ولا يصحُّ النظر إليه وفق منظور الشعرية القديمة. كما يتوجب الانتباه إلى "غرابته" من ناحيتَين: من ناحية كونها مخالفة لسابقها، من جهة، ومن ناحية كونها مُنتِجة لمثالٍ شعري ينطلق من تطلعٍ، من قصدٍ، لا من نظرية منجَزة ذات برنامج وقواعد بينة.
فكثيرٌ من "المصادر" الثقافية تمَّ الاطلاع عليها بعد عقود بل قرون على حدوثها؛ مثـلما تمَّ التعرف إلى أصناف ثقافية وأدبية وشعرية بعد تبلورها بقرون (مع الملحمة، والمطبعة، والمسرحية، والجريدة)، وبعد مئات السنوات (مع المقال الصحفي، والرواية، والشعر المنثور، والقصيدة بالنثر، وغيرها)...وهو ما عنى الإقبالَ المتباين، والمتفاوت، وغير المتزامن، معها، في صلات متقطعة، سريعة، مركَّزة، انتقائية واستعمالية بالضرورة.
ما تأكَّدَ، وتراكَمَ، وتعزَّزَ، في هذا المجال الحيوي والتفاعلي؛ هو: سلطة الشاعر الاستنسابية على القصيدة، أي تحكُّمُه وتصرفُه بها، وفق تدبيراته وتوجهاته واقتراحاته. هكذا خرجت القصيدة بالنثر من سلطة "العمود" والبلاغة بمعية الشاعر نفسه، على أنَّ ثقافته الشعرية والجمالية هي المرجع والأفق. وقد يكون الخروجُ نفسه كنايةً عن طلبِ الاحتكام الذاتي، وعن إشهار "نيّات" تجد في "لسان" الشاعر صوتَها وصورتَها. وهو "لسانُ" فردانيةٍ يتنكب عن مجاراة ما هو مقبول به، ومطلوب، ومستساغ، صوب ما هو: "ضدي"، فيطلب التكلم باسمه الخصوصي، وباسم من لم يَدخلوا بعدُ إلى فضاء القصيدة، أي سِيَر المنبوذين والمهمَّشين والمنسيين وأصواتهم الصامتة أو الخافتة.

• القصيدةُ والخيالُ والصورة
فالخيالُ أكثر من أداةٍ بلاغية، أو رمزٍ، أو أسطورةٍ، إذ إنَّ هذه تبقى مقيدة بمعنى من المعاني، وضابطة للمعنى، ولجمالية القصيدة، فيما تتمكن القصيدة، بقوة المخيلة، بقوة هذه الملَكة الشعرية، من فتحِ فضاءٍ مزيدٍ لها. وبهذه القوة التي للخيال، تتزايد جمالية القصيدة، إذ تُفضي بها إلى غير مساراتها المعهودة. إلا أنَّ أوسع تعريفات "الخيال" و"المخيل" و"المخيلة"، في المدونة القديمة، يرد عند ابن سينا، لكنَّه يستبعد صلته بالنثر، بل يربطه بالشعر وحده، الذي هو "كلام مخيَّل".
إلا إنَّ حال الدراسات العربية صعبة، ما دام أنَّها اشتغلت في درس القصيدة، من دون الصورة. فلا وجودَ لها، لا في البلاغة، ولا في الدرس: يجب استثناء الجاحظ في هذا المعرض، إذ تكلّم عن أنَّ الشعر "ضربٌ من التصوير"... وهو أمرٌ، إن بدا ضعيفَ الحضور في عدد بالغ من الشعر القديم (مِمّا انبنى على التعابير والمشاعر والتفكرات)؛ فإنَّ الشعر الحديث تعاظمَ فيه حضور الصورة.
فالصورةُ هي ما يتعين في قول شعري، يتلابسُ فيه ويتداخلُ العيني (الخارجي)، والمتخيل، واللاواعي. والمخيلة – في الشعر – هي تمكين القارئ من أن يرى أساسًا، لكنَّه يرى – لتقريب الصورة – مثلما نرى في لوحة سوريالية: تشبيكة غير واقعية، لكنَّها مغرية للعين، ومشغِّلة للعقل. أو يمكن تقريبها من صورة الحلم كذلك... الصورة تتيح للقارئ أن يرى، من دون أن يكون ما يراه "صورة" بالمعنى التقليدي، أو جزءًا منها. هي فضاء بصري، إذا جاز القول.


. هذه خلاصات في تحديد شعرية القصيدة بالنثر، انتهيتُ إليها في مراجعات وتحاليل متمادية لإنتاجات هذه القصيدة في أعداد مجلة "شعر" اللبنانية (1957-1962).