قصيدةُ النثر النسويّة العربيّة والأردنيّة

قصيدةُ النثر النسويّة العربيّة والأردنيّة
د. مها العتوم
شاعرة وأكاديمية أردنية
إنَّ الإبداعَ قناةٌ من قنوات فهم الذات وتقديم رؤيتها للعالم من حولها، وهو ما يصنع خصوصيّة كل كاتب وكل كاتبة عن بقية الكتّاب والكاتبات، ولا بدَّ بالضرورة أن تقدم الكاتبة رؤيتها الخاصة والمميزة التي ليس بالضرورة النظر إليها على أنَّها امتياز، كما لا يجوز النظر إليها على أنَّها أقلية وانتقاص، خاصةً إذا كان تعبير المرأة في العصر الحديث يحمل في طياته إرثًا تاريخيًّا طويلاً من التهميش والإقصاء لصالح الرجل، وهو ما ينطبق على الحياة الاجتماعيّة وينسحب على الحياة الثقافية بالضرورة، وما سيظهر في قصيدتها بصورة أو بأخرى، وفي النهاية فإنَّ المرأة تعبر عن هواجسها ورؤاها كإنسانة أولاً، وكامرأة ثانيًا، وكشاعرة أولًا وثانيًا وثالثًا، وهذا ما عبرت عنه لطيفة الزيات في شهادتها الإبداعيّة حين قالت "في الأعمال الإبداعيّة أكتشفُ رؤيتي للحياة وأبلورها، أخلع أقنعتي فلا أبقي شيئًا سوى وجه الحقيقة العاري. أبدّد أوهامي عن الذات ستارًا بعد ستار، أعلو على توجساتي ومخاوفي، أحسُّ، أجرؤ، أنطق صدقًا، ولو على ذاتي، أكون المرأة الخائفة المقدامة، الضعيفة القوية، الهشّة الصلبة، المتمزقة بين العقل والوجدان، التي هي أنا، كتاباتي الإبداعية تعرفني وتعرّفني، وما يصدق علي يصدق على كل امرأة عربية مبدعة"( ).
ولا شكَّ في أنَّ غياب المرأة العربية الشاعرة عن الحضور الفاعل في القصيدة العمودية الكلاسيكية له ما يبرره، مع أنَّ هناك عددًا كبيرًا من الشاعرات في عصور الكتابة العربية المختلفة ممن كتبن هذه القصيدة، واشتهرت كثير منهن مثل الخنساء وولّادة وغيرهما...، لكن هذه القصيدة اتخذت صفةَ الفحولة والذكورة وارتبطت بالرجل أكثر من المرأة، وظلّت كتابة الشاعرة العربية عمومًا لهذه القصيدة مرتبطة بشروط ومعايير الفحولة الذكورية، فتتأثر بكتابة الشعراء في الأشكال والمضامين، واستمرّ الأمر كذلك حتى أوائل القرن العشرين حين افتتحت الشاعرة العراقية نازك الملائكة شكلاً شعريًّا عربيًّا جديدًا وهو قصيدة التفعيلة، "نازك المرأة الأنثى التي حطّمت أهم رموز الفحولة وأبرز علامات الذكورة وهو عمود الشعر"( )، وشكّلت قصيدة التفعيلة شكلاً لا نظير له مباشرًا لدى الغرب، وكانت نازك الملائكة أوّل من كتب بهذا الشكل هي والشاعر بدر شاكر السياب، وأصدرت كتابًا نقديًّا سمّته "قضايا الشعر المعاصر" ١٩٦٢، وفيه فصّلت النظر في قصيدة التفعيلة والتنظير لها، كما كتب بهذا الشكل الشعري الجديد الكثير من الأسماء العربية المرموقة مثل: أدونيس ومحمود درويش وأمل دنقل، وفدوى طوقان... إلا أنَّ هذا الشكل بشكل عام لم يشهد إقبالاً من المرأة العربية الشاعرة، خاصةً إذا ما قيس بإقبالها على قصيدة النثر.
ويمكن القول إنَّ قصيدة النثر مثّلت شكلاً انشقاقيًا في الشعر العربي الحديث، بل إنَّها شكلٌ انقلابيٌّ إذا صح القول، حتى وإن كانت لها بوادر تاريخية قديمة في الشعر العربي وفي النثر العربي، إلا أنَّها بصيغتها النهائية في ستينيات القرن العشرين وفي ظلِّ الظروف العربيّة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة شكّلت مظهرًا من مظاهر التحديث والتجديد والانقلاب على القصيدة العمودية أو الكلاسيكية التي استمرت منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، وعلى قصيدة التفعيلة كذلك. ولعلَّ هذا التمرد الجذري الشكلي والمضموني لقصيدة النثر على القصيدة الكلاسيكية يمثل أحد أهم الأسباب الوجيهة لكتابة المرأة لهذا النوع؛ ذلك أنَّ القصيدة العمودية الكلاسيكية ارتبطت بالفحولة وبالرجل بالإضافة إلى الخصائص الأسلوبية الأخرى التي تمثل أسبابًا ترجيحية لتوجه المرأة لكتابته دون غيره، أو أكثر من غيره إذا أردنا الدقة.
وبالتالي؛ فإنَّ الانشقاق والتميّز والاختلاف بالإضافة إلى اقتراب هذه القصيدة من النثر، واستخدامه في كتابة القصيدة كانا أهم عاملين لتوجه المرأة العربية للتعبير بواسطته، كما أنَّ هناك عاملاً ثالثًا برأيي الخاص، وهو استخدام قصيدة النثر للنثر، وانفتاح آفاقه للتعبير عن التفاصيل وعن اليومي والهامشي وتحويله إلى شعر باستخدام النثر جعل بالإمكان استخدامه من قبل المرأة لعرض قضاياها بأدواته المتنوعة وآلياته التعبيرية والفنية والجمالية، وكثرت الشاعرات اللواتي يكتبن هذا الشكل الشعري بشكل لافت، وخاصةً في العشرين سنة الأخيرة وكذلك عدد المجموعات الشعرية النثرية التي تصدر لهن عن دور النشر المختلفة. يقول صلاح فضل عن كتابة المرأة العربية لقصيدة النثر: "أول ما يتبادر إلى الذهن الآن أنَّ هذا الجنس المهجن الجديد قد أصبح أكثر الأشكال الفنية تلاؤمًا واتساقًا مع (صوت المرأة) الحاد الرفيع، الذي أخذ يشقّ فضاء الثقافتين العربية والعالمية، ويزاحم أصوات الرجال الجشة وإيقاعاتهم الخشنة المسرفة"( ).
وهناك جيلٌ جديدٌ من الشاعرات العربيات الشابات ممن يمتلكن صوتًا خاصًا وحضورًا في قصيدة النثر قد يتفوقن على الكثير من الرجال في المشهد الشعر الحالي، الذي يصفه أدونيس بأنَّه نسوي بامتياز من ناحية النوع لا الكم، ومن حيث الجودة الفنية والمضمونية، والتجديد الفني والجمالي. لذلك نقرأ تجارب جديدة وذات أهمية وتميز في الوطن العربي وفي الأردن.
كما تمكّنت المرأة الشاعرة من تطوير خصائص فارقة لقصيدة النثر التي تكتبها، تتقاطع مع ما يكتبه الرجل أحيانًا، وتختلف عنه وتتميّز عليه في كثير من الأحيان، فهناك آلياتٌ عامة ومشتركة في كتابة قصيدة النثر عند الرجل والمرأة إلا أنَّ لكتابة المرأة خصوصيتها وجدّتها التي "تعزى إلى أنَّ المرأة الشاعرة أضحت على علاقة وطيدة بنصها المكتوب، ودخلت منطقة التجريب الشعري بكل عنفوانها الذهني والإبداعي، بعد عصور من الصمت اللاإرادي"( ).
ويمكن القول إنَّ ستينيات القرن العشرين تؤرخ لظهور قصيدة النثر العربية وولادتها الرسمية في مجلة "شعر" التي أشرف على تأسيسها كل من الشاعر العربي الكبير أدونيس والشاعر يوسف الخال، وأصدرا بيانات قصيدة النثر العربية من خلالها، كما يمكن القول إنَّ قصيدة النثر النسوية قد ظهرت في هذه المرحلة ومن خلال مجلة "شعر" التي نشرت فيها الشاعرة سنية صالح قصائدها، وأصدرت أول دواوينها بعنوان "الزمان الضيق" عام ١٩٦٤، وجدير بالذكر هنا أنَّ سنية صالح هي زوجة الشاعر المعروف محمد الماغوط الذي كان أحد أركان مجلة شعر، وأخت الناقدة المعروفة خالدة سعيد زوجة الشاعر أدونيس، وعلى الرغم من أنَّ سنية كانت في ظرف حداثي استثنائي وفي جو ثقافي لبناني منفتح، إلا أنَّها تعرضت للإقصاء والتهميش الذي اعترف به زوجها الشاعر محمد الماغوط بعد وفاتها، وأشارت إليه بشكل غير مباشر كذلك أختها خالدة سعيد في دراساتها النقدية عن شعرها.
وهناك الكثير من الشاعرات العربيات والأردنيات ذوات البصمة الخاصة والمهمّة لكثير منهن من الأقطار العربية كافة؛ مثل: (سلوى النعيمي، وظبية خميس، ولينا الطيبي، وميسون صقر، وإيمان مرسال، وفاطمة قنديل، وليانا بدر، وفاطمة محمود، ورشا عمران، وعناية جابر، وآمال موسى، وثريا مجدولين...).
وفي الساحة الثقافية الأردنية التي لا تنفصل عن الساحة الثقافية العربية كشفت دراسة نزيه أبو نضال (2003) "أنَّ مساهمة الكاتبات الأردنيات في مجال الشعر حتى عام ٢٠٠٣ كانت ٨٩ ديوانًا من أصل ٢٠٣ مجموعات شعرية، منها ٣٠ ديوانًا قبل عام ١٩٧٨، ومن أبرز هؤلاء الشاعرات المحدثات: زليخة أبو ريشة، مها العتوم، نبيلة الخطيب، رانة نزال، نوال العلي...ومن الجيل السابق: مي صايغ، ثريا ملحس، سلوى السعيد، هيام دردنجي" ..
ولم يتوقف الإنتاج الشعري النسوي بعد هذه المرحلة، وإنَّما تضاعفت الدواوين النسوية وكثرت بشكل ملحوظ. كما أنَّ النوع قد صار يحتلُّ مكانةً كبيرةً إلى جوار الكم، وقدمت الكثير من الشاعرات إنتاجًا مميزًا، وأذكر على سبيل التمثيل لا الحصر: جمانة مصطفى، وسنابل قنو، ومريم شريف، وسناء الجريري، ولانا المجالي؛ ممن لم ترد أسماؤهن في دراسة نزيه أبو نضال، ومعظم إنتاج هؤلاء الشاعرات ينتمي إلى قصيدة النثر.
ولعلَّ الحديث عن خصائص قصيدة النثر النسوية يحتاج بالضرورة إلى قراءة نصية، ونماذج محدّدة لدراستها واستخلاص ملامحها الفنية والجمالية، وهو ما لا يتسع له المقام، خاصةً أنَّ هذه النماذج تكاثرت وتنوّعت، وصار بالإمكان دراستها وتقديم خطابها النسوي الفني الخاص بها، إلا أنَّ مركزية الجسد في هذه التجارب لافت للنظر والاهتمام، خاصةً أنَّ الجسد هو عامل التفريق الجنسي بين الرجل والمرأة، ومن ثم كتابة كل منهما، ذلك أنَّ الحركات النسوية اعتبرت الجسد أحد أدوات السيطرة على المرأة، والسلطة التي مارسها المجتمع ضدها بسببه، متأثرة بمقولات "ميشيل فوكو" عن أنَّ "الجسد هو أول موضوع تمارس عليه السلطة فعلها، والحقيقة إنَّ السلطة تخلق الفرد ابتداءً من جسده" .
فأهمية الجسد لا تقتصر على التعبير عن الجنس والكتابة (الإيروتيكية) والرغبات والدوافع الإنسانية؛ وإنَّما هو تأكيد المرأة على امتلاكها لجسدها وسلطتها عليه وعلى نفسها، وامتلاكها بالتالي لحريتها وتقديم نفسها في الأدب وفي المجتمع بالصورة التي تحبها وترضى عنها، وهو ما يعني التعبير الحر عن شؤون المرأة وقضاياها الخاصة والعامة، وتفاصيل حياتها اليومية، وتجاربها التي قد تتقاطع مع تجارب الرجل في كثير من الأحيان، ولكنَّها ستختلف وتتميز من ناحية زاوية نظر المرأة إلى جسدها ونفسها وحياتها، ورؤاها الخاصة بها في كثير من القضايا التي لم يكن يطرقها الشعر التقليدي النسوي؛ كالأمومة والزواج والطلاق والعنوسة وغيرها من القضايا. بالإضافة إلى تقديم خصائص فنية وجمالية متفردة تنتمي إلى الحساسية الفنية الجديدة التي لا تقل أهميةً وتأثيرًا عن شعر الرجل وقصيدة النثر التي يكتبها.


( ). لطيفة الزيات: شهادة مبدعة، أدب ونقد، العدد ١٣٥، نوفمبر، ١٩٩٦، ص١٨.
( ). عبدالله الغذامي، تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط٢، ٢٠٠٥، ص ١٢
( ) . صلاح فضل، قراءة الصورة وصور القراءة، دار الشروق، القاهرة، ط١، ١٩٩٧، ص ١٠٧
( ) . عبدالله السمطي، انبثاق قصيدة النثر النسوية، مجلة نزوى، ٣١/١٠/٢٠٢٠.
( ) . نزيه أبو نضال، حدائق الأنثى: دراسات نظرية وتطبيقية في الإبداع النسوي، دار أزمنة، عمان، ط١، ٢٠٠٩، ص١٤، ١٥.
( ). ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ت: