تحسين يقين
كاتب وباحث فلسطيني
ما زالت فلسطين متعرضة للاستعمار منذ قرن أو يزيد، لذلك ظلت مجالاً دائمًا للشعر العربي وما زالت، وقد حظيت بالشعر كما لم يكن لغيرها، حيث كتب لها شعراء العروبة، وكذلك شعراء فلسطين، منذ ما قبل عام 1948؛ فكان شعرًا يقاوم الاحتلال الإنجليزي والهجرات الصهيونيّة، ثم كان من شعر النكبة، فالهزيمة عام 1967، وشعر الثورة والمقاومة والانتفاضتين، الذي استمر، وإن تعددت مراحله. لذلك يأتي مقالنا هذا في الشعر الفلسطيني المواكب للحرب على غزة التي اندلعت في السابع من تشرين الأول أكتوبر عام 2023 في هذا السياق، حيث كان الشعر بشكلٍ خاص، من الفنون الأدبية التي تسبق فنون السرد، كون الشعر يقوم على الانفعال اللحظي، بعكس السرد القصصي والروائي الذي يحتاج وقتًا أكثر، حتى يستطيع السارد التقاط أنفاسه.
في تصفحنا للقصائد المتنوعة والتي اخترنا منها بعضها، وجدنا أنَّ هناك تقريبًا موضوعين للشعر، الأول تعلق بعبور المقاومين وصمودهم بشكل عام، والثاني تعلق بالمجازر التي ارتكبها الغزاة بحقِّ المدنيين، ويبدو أنَّ الموضوع الثاني هو الذي ساد أكثر، بسبب أنَّ عمليات الذبح تمت بعد أقل من يومين على العبور، فلم يكد الشعراء يشعرون بشعور الفخر، حتى داهمتنا جميعًا المجازر. وهكذا فقد حضر التغني بالصمود والمقاومة والشهداء في ظل حضور البكاء والرثاء واللوم على الأشقاء، ووجع الأسئلة الوجودية.
الشاعر الشاب حسن فطوسة، كان من أوائل الشعراء الذين ظهر موضوع الفخر، وموضوع وصف الصمود والمجازر؛ ففي قصيدته المعنونة ب "أبوذية الفقد"، نقرأ:
"لم يطلبوا جبلاً يأتي لنجدتهم كانوا السفينة والألواح والدسرا
ساروا إلى العهد لما جاء يطلبهم فما تأخر عن عرس وما انتظرا
فعانقوه وما اهتزت جوانحهم
فالآن شط جنان الله سوف يرى
والآن ينهض من فوق الركام سنا يقبل اللعبة البيضاء والحجرا
الصاعدون على الأمواج أشرعة لما طغى الموج يا الله إذ عبرا
لم تقرأ الريح شيئًا من ملامحهم أتوا فرادى ومروا في دمي زمرا
أسماؤهم في مهب المحو شامخة خاضوا العواصف حتى أصبحوا شجرا".
والمعنى واضحٌ، في اعتماد المقاومين على أنفسهم: "لم يطلبوا جبلاً يأتي لنجدتهم"، بل كان النهوض مدهشًا شامخًا. بل إنَّ مقدمة القصيدة جاءت حاسمة في مبادرة المقاومين وعدم انتظار النجدة.
ولكن؛ لم يكد شاعرنا الشاب ينتهي من قصيدته الأولى، حتى راح يصف ما يكون، بالاعتماد على الرمز، ناقلًا شجنًا نبيلاً. وكل ذلك بلغة واضحة خلت من التعقيد أو التكلف أو الإغراق بالجماليات.
"وحمامة في الغار خائفة ذعرت من البارود والقصف
وتكاثرت في أضلعي مدنًا صمدت بوجه النفي والخسف
يا ضحكة طالت بحارتنا وبراءة التوليب في الوصف!!
نامي لأحرس حلم ضفتنا وأصد ذئب الموت بالكف
أختي التي خافت مسالمة وفراشة في البيت والصف".
ثم راح يتدفق، الذي تميّز في اختياره، فكانت هذه الأبيات بعد أيام من المجازر التي راح ضحيتها الآلاف:
"على الذين بأرض الحب قد صلبوا تبكي البلاد وغيم القدس ينتحب
وتسأل الطفلة السمراء في وجع: أهلي بغزة أم للموت قد ذهبوا؟!.
تمشي القصيدة في روحي بلا حذر فالأفق من زحمة الأشلاء مضطرب
عين البوارج قرب الشط ترصدني والليل في حفلة الفسفور يلتهب
وحدي أقاتل وحش الليل منفردًا وحدي ولا عجم خلفي ولا عرب."
استخدم حسن فطوسة الشعر العمودي باقتدار، وقد وفق فيه، كونه كان صادقًا وتلقائيًّا غير حافل بالاستعراض الأدبي.
أمَّا الشاعر المعروف المتوكل طه، الذي كتب يتغنى بالمقاومين في أول الحرب: "هو الذي فخت الجدران الإسمنتية بإصبعه، وحمل المقاتلين، الشهداء مع وقف التنفيذ، ليعيدوا الأرض إلى أصحابها، ويُثخنوا في ضبّاط الموت. وهو الذي قاد بهم المركبات، مع الفجر، ليطوّحوا الأبراج الناريةَ المنصوبة نحو الحدود الخائفة. وهو الذي كَنس بجديلته ما تبقّى من جنود على المداخل، حتى تتحقق المعجزة التي فاجأت المحتلّين المذعورين، الذين انساقوا بهلعٍ وذلّة، نحو القيود."، فقد اتسمت أبياته الآتية بوصف الرحيل المفجع بلغة ذات مضمون مؤثر تأثيرًا مباشرًا لما للحظة من حاجة لها.
"هنا أو هناك جموعٌ من الذاهبين إلى الموت،
برّاً وبحراً، وقصفًا وحرقاً، بكل المدافع والطائرات،
وما من خلاصٍ سوى أن نعود إلى الأُمهات،
لِنسألَ عن أُغنيات الرحيل لندفنَها..
ثم نطلق أغنيةً للبقاءِ على تلّة الذّبْحِ،
حتى يقول الذي ماتَ: عدتُ،
وهذي البداية نحو الحياة."
وقد عبّر الشاعر عبد الحكيم أبو جاموس، عن مشاعر متنوعة حسب تطوّر الحرب، حيث نراه في قصيدته "وردة بيضاء للشهداء" يبدأ بوصف جرائم الحرب:
"شُقَقٌ،
عَماراتٌ،
وَأبْراجٌ تَهاوَتْ مِثلَ فَلّينٍ،
وَذابَتْ في جَحيمِ المَعْمَعَةْ
سَقَطَتْ على لَحْمٍ طَرِيٍّ،
يا لَهَوْلِ الفاجِعَةْ
هَرَسَتْهُ وَاعْتَصَرَتْ بَقاياهُ
فَضَجَّ الأحْمرُ القاني دَما
بَكَت القُلوبُ وَأُثْخِنَتْ هَمّاً وَغَمّا
كُتَلٌ مِن اللحمِ العَصِيِّ تَفَحَّمَتْ
أشْلاءُ أطْفالٍ غَدَتْ أرواحُهُمْ
في ذِمَّةِ الرَّحمنِ ساكِنَةً تُصَلّي".
ثم لنجده يستدعي الصمود والشجاعة:
"وَتُسَبّحُ الإصرارَ في ألَقِ الوُجوهِ النّاصِعَةْ
وَالصّامِدونَ يُسَطِّرونَ بَهاءَنا
فَخْراً وَصَبْرا
يُذكونَ أحْلاماً تُراوِدُنا،
وآمالاً تُراوِحُنا،
لِنَرْفَعَ وَرْدَةً بَيْضاءَ لِلشُّهَداءِ والجَرْحَى
وَنَقْطفَ وَرْدَةً حَمْراءَ
لِلأحْرارِ وَالثُّوارِ،
مَنْ صَمَدوا بِوَجْهِ العاتِياتِ مِنَ الرِّياحْ".
ثم في ظلِّ ذلك، نجده يلوم ويعتب بشدة على الأشقاء:
"يا رَبَّنا،
اغْفِرْ لَنا،
إنّا كَفَرنا بِالأواصِرِ
والقَراباتِ الهَزيلةْ
سَنَظَلُّ نَلْفظُها
وَنَبْصُقُ في وُجوهِ دُعاتِها
سَنَزيدُ إشْراقاً وَهُمْ
يَهْوونَ في دَرَكِ النُّفوسِ الخانِعَةْ".
ونراه يعود للفخر بالصمود ثانيةً، حيث يبدو أنَّه ما زال منفعلاً به:
"يا أيُّها البَطَلُ المُزَنَّرُ بِالمَدَى عَزْماً وَهِمَّةْ
أَطْلِقْ عَنانَ الرّوحِ،
مِثْلُكَ لا تَلينُ قَناتُه،
عَبّئْ صَناديقَ الذَّخيرَةِ في ثَناياها،
سَدّدْ فَإنَّ الرَّميَ أصْبَحَ قابَ قَوْسٍ أوْ يَزيدْ
وارجُمْ وُجوهَ الكالِحينَ،
فإنَّ مَوْعِدَنا غَداً صُبْحُ".
ثم راح يخصُّ الأطفال هناك كونهم الأكثر حضورًا بين الشهداء:
"أَطْفالُ غَزَّةَ لا يَهابونَ المَنايا
أضْحَتْ عِبارَةُ نَحْرِنا عادِيَّةً
ما نَحْنُ فيهِ يَفوقُ وَصْفَ النَّحرِ
أوْ ذَبْحَ الوَريدِ إلى الوَريدِ،
وَلَمْ يَعُدْ يَنْجو بِنا النُّصْحُ".
لكنَّه يعود الى جريمة القتلة، متحدثًا عن الصمود وعدم الاستسلام:
"صَبّوا الرَّصاصَ وَسَمّموا أجْواءَنا،
وَنَسوا بَأنّا لَحْمُنا قَيْحُ
تَعِبوا وَما تَعِبَتْ نَوارِسُ بَحْرِنا
كَلا ولا كَلَّتْ مَراكِبُنا
قَدْ طارَ مُحْتَدِماً بِها الصُّبْحُ
صُعِقوا لأنّا لَمْ نُسلّمْ أمْرَنا
لَمْ نَرْفَعِ الرّاياتِ بيضَاً
بَلْ رَفَعْنا هامَةَ الشَّرَفِ الرَّفيعِ".
ويختتم قصيدته الأكثر شمولا للمشاعر،باستنهاض الهمم، والتمسك بخيار المقاومة، متمسكًا بالأمل ومؤمنًا بالنصر الآتي:
"فَهَلْ يَفيقُ الغافِلونَ النائِمونْ
ما عادَ يُجدي الضَّربُ والشَّبْحُ
سَنَظَلُّ في شَمَمٍ نُقاتِلُ،
لَيْسَ يُثْني عَزْمَنا جَمْعٌ ولا طَرْحُ
إنّا كَسَرْنا حاجِزَ الصَّمْتِ الرَّهيبِ
فَيا قُلوبُ تَصَبَّري،
هذا الزِّنادُ يُثيرُه القَدْحُ
واتْرُكْ لَهُمْ خُذْلانَهُمْ
وَليَشْبَعوا رَقْصاً على آلامِنا
بِدِمائِنا سَيُحَقّقُ الرِّبحُ
هُوَ وَحْدُهُ،
مِن ضيقِهِ،
وَنَحيبِهِ،
قَدْ يَبْرَأُ الجُرْحُ
نُعْلي سَناءَ المَجْدِ
نَرْمُقُ فَجْرَنا الآتِي
وَلَيْسَ يُضيرُنا الذَّبْحُ".
ويبدو أنَّ الشاعر أراد الاحتفاظ بالأمل بعد تعداد المآسي، لعلَّ الصمود هو ما يمنحه ذلك، وهو إنَّما ينقله لأبناء شعبه وأمته العربية، كأنَّه ينتصر بالأمل.
اختار خالد جمعة القصائد القصيرة، لتكون يوميات المعركة:
"تلك البيوت التي هدموها
لم تكن مئة
كل ما في الأمر
أنني وقتها كنت في الخامسة
وهذا ما كنت أستطيع عدّه".
وهنا، ثمة بلاغة موجعة، يتابعها في قوله:
"إنهم موجوعون
يخدشون حواف رغيفهم
بإبرة صمت
كي يخدعوا أطفالهم
أعناب ونخيل في الذاكرة
[لكن الذاكرة لا تشبع جائعاً يا أبي]
كل هذا البحر، وكل هذا الاختصار
لا نريدنا موجزين، ملخّصين كسطرٍ في التاريخ
نريدنا بحرّية العاصفة
بمجدِ القوارب التي علّقت تمائمها بأطراف الشِّبَاك
لا أحد يلوم الموتَ حين يأتي متمهلاً
يقيس أعمارنا بتأنٍّ خجول
لكنَّه الآن عشوائيٌّ تماماً
لا فرصةَ لبيت عزاءٍ فرديّ
لا نائحات يعرفن الأغاني الحزينة كلها
إنَّنا نقيمُ المدينةَ على المآقي
نرتلُها ونحمّمُها بأكفٍّ من حنين
افتحوا بوابات النار إذن
إمَّا لنخرج
أو لنحترق".
وهكذا في وصفه للموت غير العادي، يختتم القصيدة بخيار الحياة أو الموت، بعد أن قامت "المدينة على المآقي".
ويمنح الشاعر خالد جمعة الطفل الشهيد الجميل يوسف قصيدة خاصة به:
"من رأى منكم ولدًا
"أبيض، حلو، وشعره كيرلي"
واسمه يوسف
فليملّس على خده كي ينام
فهذا يسرّه
وليحكِ له قصة قبل النوم
وأرجوكم، لا أحد يلعب بشعره
تغضبه هذه الحركة كثيراً
آه: تذكرت شيئاً أخيراً
أرجوكم ألا تخبروه أنَّه مات
لأنَّه لا يعرف ذلك بعد".
ربما ستكون من أهم القصائد، لعل نداء الأم الفلسطينية في غزة كان الأعمق بلاغة من الشعر. وقد أبدع الشاعر في التناص من خلال يوسف الطفل ويوسف الرمز، في التقاط كلمات الأم الباحثة عن ابنها لعلّه يعود.
ويمنحنا الشاعر الأمل رغم الموت:
"ويوماً، ستعودُ المدينةُ إلى وَرْدِها
وينمو النعناعُ في أكفِّ الزارعينَ...
ستقولُ أُمّي:
هذا ما أخبرتُكَ به
ولم تُصدِّقْ."
هو الأمل الذي يبثّه الشعراء، وهو يعني الحياة، وتمسك البشر بأحلامهم، فكل احتلال له نهاية.
وقد نحى الشاعر عثمان حسين منحى آخر في التعبير عن الفاجعة:
"صعبة إليك الطريق يا إلهي
لن تصلك رسائل هذا المساء.
لذلك،
لن ترفع البرد،
ولن تأمر الجند بالرحيل،
لن تلبس كابك الأزرق حين تعبر المخيم.
وهذا المساء لن ننادي:
الغوث الغوث!!
خلصنا من النار يا ربُّ".
وفي نصٍّ موجع يقول:
"جالسةً كانتِ الحربُ،
ثم قامت خجولةً في أيامها الأولى
تخفي وجهها وأنفاسها.
أول القتلى سيحمل اسمًا ورقمًا
وربما لونَ حذائه ستذكره الطبولُ
سيكون محظوظا، مُعَرّفا بالشهيد.
... ونمضي أرقامًا متضاربةً
بلا أسماءٍ أو حكايات.
قامتِ الحربُ كفتنةٍ ملعونةٍ
ولم تكن نائمةً كما تدّعي".
أمَّا الشاعرة حنان عواد، فتزهو بشعبها:
"شعب الجبارين.
ينهضون من فوق الرماد،
يحملون قبس الزناد
ويصرخون
للحرية.
يحطمون الصخر
بأناقة الفعل
يكتبون بمداد الروح نص
الهُوية.
يموت المستحيل أمامهم
يعشقون الموت
ولا يخافون النار
ولا الجدار
في عمق
القضية".
وقد لفظت الشاعرة فاطمة نزال غضبها ووجعها وعتابها معًا وإصرارها على البقاء، وتعد القصيدة من أجمل ما كتبت الشاعرة نزال، التي استلهمتها من الحدث العظيم، وهذا يفسّر لنا لغتها الجريئة بسبب الأهوال والنيران:
"انعتوني بما شئتم
واسقطوا عليَّ
ما استعصى على الإدراك
أنا التي حملت
وزرَ الخطايا المعلناتِ
وما توارى وما توالى
وما ستنجبُهُ السبايا
من الأفكارِ المدّنساتِ
خذوا عني مناسكَكُم
واستبيحوا ما أُحِلّ
وما أُجِلّ
وما لغيري قد أهلّ
وسيحوا بكل أرض
لكل أرض على كل أرض
أقيموا الصلاة لرب اصلبوه
تحللوا مني كما تفعلون الآن
واشربوا نخبَ
من أثخنوا فيّ الجراحَ
قد صبأتُم من قبلُ ومن بعدُ
ولا جناحَ ما دمتم ما استحييتم
تلك الأيامُ تداولها الطبيعةُ
الماءُ ماءٌ
والترابُ ترابٌ
أنتم طينيَ المجبولُ
وأنا .. أنا الباقيةْ".
هو تأكيد الشاعرة على البقاء، فلا بقاء لمحتل، لذلك فإنَّها تزرع الأمل وتمنحه للباقين هناك.
وكانت قد وصفت صرخة طفل تتوجع بقولها:
"صرختك
أغرقتنا بالذهول
نغرغر عجزنا
نبصق ذلنا
ونقتات الهزائم".
وتعزف على وترها في فقرة وحدها:
"أي تاريخٍ سنخُطهُ الآن
ونحن نعبُّ الغبارَ
نكحلُ به عمانا المتعمدَّ عن وجعنا؟"
وهنا نجد اللوم والعتاب:
"لا قلب لي
قد ذاب في حمض مِرائكم
واستحال خراب
أنا الظاهر في الباطن
لستُ المطيةَ
وإن تسلقتم على ذِكْري
ستسقطون
جميعكم ستسقطون".
لقد راحت الشاعرة تلوم وتعتب، وهذا ينسجم مع استحقاق نصرة الأخوة لبعضهم بعضًا.
ويختار الشاعر الكبير غسان زقطان في قصيدته موت جماعي/ من "بطولة الأشياء" عمق التأمل:
" لم يأْتِ المَساءُ بِغيرِ عَتمَتهِ
فَنِمْنَا لا سُقوفَ وَلا عَراء.
وَلم يَجيءْ في اللَّيلِ ناجٍ
كي يُخبِّرَنا بمَوتِ الآخَرين
وَظلَّتِ الطُّرقاتُ تَصفرُ
والمَكانُ يَعجُّ بالقَتلى الذينَ أَتوا منَ الحَيِّ المُلاصِق.
كانَتِ الصَّرخاتُ تَفلِتُ نَحونا، فَنرى وَنسمَعُ
كَيفَ يَمشي المَيِّتُونَ على الهَواء
مُقَيَّدينَ بخَيطِ دَهشَتهم، يَشُدُّ حَفيفَهم أَجسادَنا من قَشِّها الوَضّاء.
نَصلٌ لامِعٌ يَهوي عَلى الطُّرقات:
لم تَلد النِّساءُ سِوى الذينَ مَضُوا،
وَلنْ تَلدَ النِّساء".
أبدع الشاعر الكبير غسان زقطان في الوصف المكثف للمأساة.
وعودًا على بدء، فقد ظهرت القصائد بلغة واضحة دالة، منسجمة مع الأيام الدموية، التي تقتضي المباشرة. لقد استدعت المأساة هكذا لغة، وهكذا مضمون متوقع، في مدح المقاومين والفخر بهم، ووصف استشهاد الآلاف، في ظل عتاب ولوم لأبناء العروبة، غير متخلين عن الأمل بالانتصار.
من جهتها اختارت الشاعرة الفلسطينية سماح خليفة شكل الشعر العمودي، من خلال هذه القصيدة:
أنعم بغزة قاتلا وقتيلا فالنصر يرنو للشهيد سبيلا
ما كنت أطلب في البلاء تملكا لكن أرى لي في الوجوه خليلا
أمشي على وجع البلاد مكابرا أحصي نجومًا في السماء دليلا
لي في جنان الخلد أصحاب أرى في جنة الدنيا أسى ورحيلا
لا تعجلوا وطني بأنياب العدا زمننا فعودوا أحسنوا التعليلا
وتكاتفوا في الله صفًا واحدًا صار المصاب بذي الطعان جليلا
لا تخطئوا رمي السهام وإنَّما في الحرب جودوا بالسيوف صليلا".
وقعت الشاعرة تحت تأثير الحرب، فهي تفخر بالمقاومين والشهداء، ويبدو أنَّ المضمون الوطني الإنساني والأدبي هو ما اختار الشكل الفني.
أمَّا الشاعرة خالدة أبو جبل فكتبت:
"مسحت بكف يدها قطرات المطر عن جبينها
وغباش عينيها، وتمتمت بصوت مرتجف:
لن أحمل مظلة هذا الشتاء،
مطر الخريف حارقًّا جاء،
أشعل الروح والقلب، وأحرق المكان والرجاء" اتسعت دمعتها على خدها، باتساع
حقول حزنها، وانحدرت مع قطرات المطر
شدّها ابنها من طرف ثوبها، وقد بلّل المطر شعره، وما علق على جسده الصغير من ملابس،
صاح :"أماه جادت علينا السماء بماء حلو
المذاق، فلا تحزني أمي، لا بد للغيمة السوداء
أن تتلاشى!!،
هنا يا أمي كانت البداية، وهنا النهاية ستكون، وستشهد شمسنا الحزينة
فجر ما بعد الأمكنة والازمنة،
فلا، لا تحزني أمي..".
"لن أحمل مظلة هذا الشتاء"، عبرت الشاعرة أبو جبل هنا عما حدث من مفارقة لا تحدث كثيرًا؛ ففي المطر يلجأ الناس الى ما يقيهم منه، إلا في حالة العطشى الغزيين، الذي كان المطر ملاذهم من العطش.
ولعلنا إذ نختتم الاقتباسات بقصيدة الشاعرة خالدة أبو جبل، سنجد أنَّ هناك ظاهرة ميزت الشعر هنا، ألا وهي التأثر الشديد بالصور والفيديوهات الصحفية، والذي وجد له طريقًا إلى الشعر العربي الذي واكب الحرب الصهيونية على غزة.
إبداعٌ قادمٌ
الملاحظ على الشعر الذي بين أيدينا بشكل عام، أنَّه أخذ هُوية إبداعية، فلم يقف عند مجرد الصراخ والشعار الوطني، وهو الذي ساد فترات معينة من الشعر الوطني والعربي، كما لم يتقوقع في الشكل والمضمون ليتكلف المعاصرة.
لقد قدما بانوراما مصغرة من الشعر الفلسطيني الآن في ظلِّ الحرب على غزة، ولعلّنا نتوقع المزيد، والإبداعي، فلم يعد مقبولاً نشر قصائد لا ترتقي لهذا الحدث، فليس مقبولاً ما هو عاديّ من الشعر والأدب لهكذا وضع دمويّ غير عادي أبدًا.
من المهم هنا، استقراء حياة الشعر الفلسطيني المعبر عن حيوية الشعب الفلسطيني؛ فبالدم اليوم يكتب للوطن. في ظلِّ اختزان الشعراء والشاعرات الذين واللواتي لم ينشروا بعد، فإنَّنا أمام حقبة زمنية ستكون علامة من علامات الشعر في مراحل حياته، لما سيتلوها من بلورة مدرسة شعرية إبداعية.
ما زال شعراء غزة يعيشون مع الأهل ملحمة ومأساة معًا، فما قدم من غزة من شعر وخواطر محدود؛ فالمتوقع أن نقرأ في قادم الأسابيع والأشهر القادمة شعرًا عربيًّا إنسانيًّا جديدًا، يرقى إلى ما يعيشه الغزيون من صدمات مذهلة، حيث سيطول صوت البارود في آذانهم، ولن يتخلصوا بسهولة من رائحة الدخان.
رسالة الشعر، ديوان العرب الأكبر، تأتي لتؤكد على انفعال الشعراء، بما شهدوا وشاهدوا، وما أحسّوا في قلوبهم، وما يهدفون من التأثير على شعبهم المقاوم من تشجيع وزرع الأمل، واستنهاض همم الأشقاء، وفضح القتلة.
حلقات الشعر الفلسطيني متصلة على مدار قرن من الزمان أو يزيد، ومن جيل إلى جيل، يستلم شعراء المقاومة اليوم الراية مع جيل سابق ما زال يبدع، ليظل الشعر هنا معبرًا وموثقًا عن حياة شعب نازف مجروح معتقل نازح، ظلَّ صامدًا الى النهاية، نهاية الاحتلال القادمة لا ريب.
يعيدنا شعر خريف عام 2023الى أول الحكاية، من شعر ضد الاستعمار البريطاني والهجرات الصهيونية كما قلنا في مقدمة المقال إلى الشعر المواكب لنكبة فلسطين عام 1948؛ فالمؤرخ الأدبي سيجد الشعر هو الأكثر حضورًا، كونه ربما الشكل الفردي الذي يسمح للشعراء بالتعبير في كل مكان وزمان، بسبب توقد العواطف المثارة، لذلك، فإنَّنا اليوم نعود إلى الشعر منذ قرن، أي إلى قضية فلسطين، التي ما زالت تستدعي عواطف الشعراء وحماستهم.
خاتمة
ما زالت المعركة مستمرة، بما فيها من ظاهرتين، الأولى تتعلق بعبور المقاومين وصمودهم بشكل عام، والثانية تتعلق بالمجازر التي ارتكبها الغزاة بحق المدينة.
جعلتنا أولاً ملحمة العبور الصادمة للاحتلال، نردد مفتتح قصيدة عمورية لأبي تمام:
"السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب".
وهو يذكرنا ببيت شعر القيسراني في قصيدةٍ مدح بها نور الدين زنكي بعد انتصاره في معركة انب:
"وهذه الهمم اللائي متى خطبت تعثرت خلفها الأشعار والخطب".
أمَّا ما ردّ الاحتلال على العبور بجرائم حرب تبث على الهواء مباشرة، فسيطول وصف القتل والتدمير، وهو ما ظهر في شعر الشعراء، الذين سيضم إليهم شعراء نجوا من الموت، ليبدأوا الوصف من جديد.