اليهودُ وأكذوبةُ أرضِ الجدود

هبة مهران
أكاديمية وباحثة مصرية

" في أوروبا يخوض المثقفون والمؤرخون الغربيون واليهود في طريقٍ مليئة بالأشواك، لكنَّهم يمضون بإصرارٍ شديد إلى نهاية الطريق من أجـل الوصول إلى حقيقةٍ مؤكدةٍ في كتبهم وفي الموسوعات اليهوديّة، وهي أنَّ الأغلبـية العظمى من اليهود المعاصرين ليسوا من أصل فلسطيني وإنَّما من أصل قوقازي."

في أوروبا صدرت طبعة رابعة من كتاب مهم بعنوان ( Thirteenth Tribe .. The Khazar Empire and its Heritage ) أي ( القبيلة الثالثة عشرة..إمبراطورية الخزر وإرثها ) ومؤلفه هو الكاتب البريطاني اليهودي ذائع الصيت ( آرثر كوستلر)، لكن هذا الكتاب، سرعان ما اختفى من الأسواق بمجرد صدوره _ وللمرة الثانية _ ؛ ليس لأنَّ القراء التهموا الكتاب بمجرد طرحه عليهم، ولكن لأنَّ جهات بعينها سرعان ما صادرته وجمعت كل النسخ التي تم توزيعها، فمنعته وأخفته، إلا من بضع نسخ _ تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة _ "فلتت" وهربت من هذا الحصار. والسبب في اختفاء هذا الكتاب المهم، هو أنَّ مؤلفه اليهودي، تعرض فيه إلى ماهية كينونة اليهودي واليهودية.
فمن هو اليهودي؟. هل هو من ارتبط بالتلمود؟ أم بالتاريخ؟ أم بالأرض؟. هل هو من ولد من أمٍّ يهودية؟ أم من اعتنق الديانة؟. ولعلَّ هذا السؤال هو أكثر الأسئلة التي تتردد بين الآونة والأخرى في المجتمعات المثقفة في العالم الغربي، وحتى بين اليهود أنفسهم، والتي عادت في الفترة الأخيرة تثير الكثير من الجدل، فلكلِّ حاخام إجابته، ولكلٍّ تلموده، ولكلٍّ قانونه؛ لتظلَّ الهُوية اليهودية " لغزًا " لا يريد اليهود الخوض فيه إلى نهايته وكشف كل غموضه؛ خوفًا مما قد يفجره من شكوك وتساؤلات حول الأفكار التي نشأت على أساسها إسرائيل كدولة يهودية لشعب عاد إلى أرض الأجداد، خاصةً فكرة " شعب الله المختار ".. و"أرض الميعاد" .. و"مناهضة السامية"؛ لتبرير عملية الاستيلاء على فلسطين، وحيث تضع أمام تلك الأفكار أكثر من علامة استفهام كبيرة وخطيرة.
كانت تلك الأفكار دائمًا ( تُقبر قبل أن تولد ) في لحظة ميلادها سواءً عن طريق مهاجمتها ومحاربتها أو مصادرتها، كما حدث مع أفكار الكاتب والمفكّر الفرنسي المسلم ( رجيه جار ودي ) أو اختفاء الكتب من الأسواق كما حدث مع كتاب " القبيلة الثالثة عشرة ".. لكن عادت التساؤلات حول هُوية اليهود، وتمت مناقشتها على الساحة الفكرية في فرنسا منذ صدور كتاب ( اليهودية كما أقصّها على أبنائي الروحانيين ) للكاتب الفرنسي اليهودي ( ماريك هالتر) وهو الكتابُ الذي أثـار جدلاً عنيفًا في أوساط المفكرين الفرنسيين، وسبّب صدمةً لمن يرون أنَّ اليهودية "إرث وصـلة دم ".
يقول ( ماريك هالتر ) _وهو وإن كان فرنسيًّا إلا أنَّه من أصل بولندي _ :" إنَّ هناك فرقًا بين تعبير اليهودي والإسرائيلي، فالإسرائيلي هو من يحمل جواز سفر إسرائيلي، أمَّا اليهودي فهو من اعتنق اليهودية". وأضاف قائلاً: " إنَّ اليهودية ليست مصيرًا، ولكنَّها اختيـارٌ".. فكانت هذه الكلمة قنبلة انفجرت في عقول اليهود على جميع المستويات في المجتمعات كافة، وصدمة هزّت المجتمع اليهودي بأسره، ذلك المجتمع الذي يرى أنَّ اليهودية " إرث " و" أرض" و" تاريخ " مشترك.
ويقول ( هالتر ) أيضًا في حديثٍ أجراه مع مجلة "إكسبريس" الفرنسية في إطار الجدل الدائر بمناسبة نشر كتابه: " إنَّ المرء يولد يهوديًّا إذا كان من أم وأب يهوديين، ولا يستطيع المرء أن ينفي عن نفسه ذلك الإرث حتى ولو أراد ". ولكنَّه أيضًا يؤمن بـفكرة أنَّ اليهودية ليست جنسًا وليست دينًا فقط، ولكنَّها مجموعةٌ من الناس تمارس منذ مئات السنين تقاليدَ معينة، وعلاقةً معينة مع اللغة ومع التاريخ، فيستطيع المرء اليوم أن يختارها أو لا يختارها. ويستطيع اليهودي المولد أن يتحوّل إلى العلمانية كما فعل هو، أو إلى الكاثوليكية كما فعل القس (لوستيجيه). أو يستطيع غير اليهودي أن يعتنق الديانة كما فعل الكثيرون في الهند والصين وغيرها من الدول والأجناس.
ويتساءل المفكرون الفرنسيون إن كانت الإجابة العامة على سؤال: من هو اليهودي؟. هي أنَّهم هؤلاء الذين عاشوا في مكان ما على شواطئ نهر الفرات، قبل ظهور عيسى عليه السلام بزمن طويل، فهل هناك علاقة بين هؤلاء وبين اليهود اليوم؟ وبينهم وبين دولة إسرائيل، تلك الدولة التي يصفونها دائمًا بالدولة العبرية؟
ما تزال الإجاباتُ على تلك الأسئلة من المحظورات حتى ولو كان من ينبش فيها من اليهود أنفسهم. لأنَّها ستفتح عليهم أبواب رياح عاتية يحاولون صدها. كما حدث مع كتاب( القبيلة الثالثة عشرة.. إمبراطورية الخزر وإرثها) للكاتب المؤرخ اليهودي البريطاني( إرثر كوستلر)، والذي صدر أول مرة عام 1976 ليختفي من الأسواق، ثم أُعيدت محاولة صدوره مرةً ثانية وليختفي كرةً أخرى أيضًا، ويذكره المؤرخون على استحياء حتى لا يثيروا غضب هؤلاء الذين يؤمنون بالإرث العرقي.
ويحكي "كوستلر" في كتابه هذا عن يهود الخزر، تلك القبيلة التي ذُكرت في تاريخ اليهود أنَّها اختفت ولم يعرف إلى أين اتجهت مع القبائل "الاثنتي عشرة" الأخرى التي هاجرت من منطقة فلسطين إبّان اضطهاد الرومانيين لهم.
كتب "إرثر كوستلر" يقول عن هذه القبيلة: "إنَّها لم تهاجر من المنطقة، بل هي قبيلة من أصول تركية، كانت تعيش وسط أوروبا، في المنطقة التي تقع بين القوقاز ونهر الفولجا، وكانت تعتنق ديانات وثنية حتى القرن السابع الميلادي.. وكانت تلك القبيلة قوية ومقاتلة ووصل أبناؤها إلى قمة مجدهم في القرن السابع إلى العاشر الميلادي، فكان تأثيرهم كبيرًا في تشكيل المنطقة، وبناء أوروبا الحديثة".
عاش الخزر في منطقة ما بين البحر الأسود وبحر قزوين، وهو ما اعتُبر موقعًا استراتيجيًّا، حيث كانت القوى الشرقية الكبرى تتواجه وتتصادم مع بعضها. فكانت الإمبراطورية الخزرية بمثابة المنطقة المحايدة التي كانت تحمي البيزنطيين من القبائل المغيرة القادمة من الشمال. ثم حاربوا الرومان الكاثوليك والعرب المسلمين.
وتتردد قصة في كتاب (الممالك والطرق) للمؤرخ العربي (البكري) الذي صدر في القرن الحادي عشر، تقول: "إنَّ ملك الخزر، بعد أن قرّر اعتناق دين من الأديان السماوية، نصحه مستشاره اليهودي، بمقابلة رجل دين من كل من الأديان الثلاثة ليسأله عن دينه فيستطيع أن يختار الأفضل. وعندما طلب مقابلة القسِّ المسيحي، طلب المستشار اليهودي من الملك أن يسأله عمّا يعرفه عن موسى والتوراة، فسأله الملك، فأجاب القس أنَّه يؤمن أنَّ موسى هو نبي الله، وأنَّ التوراة صادقة في قولها. فقال اليهودي للملك: لقد اعترف القسُّ بحقيقة ديني، الآن اسأله عما يؤمن هو به. فلما سأله الملك، أجاب القسُّ أنَّه يؤمن بعيسي المسيح، فهو الكلمة وهو الذي كشف عن أسرار كثيرة باسم الله. هنا قال اليهودي لملك خزر: إنَّ القسَّ يبشر بدين لا أعرف عنه شيئًا، بينما هو يعرف ويؤمن بما أومن أنا به. ثم طلب الملك أن يقابل شيخًا مسلمًا، فأُرسل له عالم مسلم، لديه حجةٌ قويّةٌ. ولكن المستشار اليهودي بعث له بشخص في الطريق وضع له السُّم في الطعام فقضي عليه قبل الوصول إلى الملك، وهكذا نجح المستشار اليهودي في إقناع ملك الخزر باعتناق اليهوديّة.
ويلمح "كوستلر" إلى مدى تأثير اليهود على الخزر في ذلك الوقت حتى قبل اعتناقهم اليهوديّة، فيشير إلى قول البكري: "إنَّ الملك كان يرسل لاستدعاء القس والشيخ، بينما اليهودي كان معه ملاصقًا له ومستشارًا لـه..".
ويقول "كوستلر" في كتابه: "إنَّ فكرة أنَّ يهود الخزر ليسوا كنعانيين جعلت الكثير من المؤرخين يتوخون الحذر في تعاملهم مع هذا الموضوع، إن لم يتفادوا الخوض فيه من البداية". فأشار إلى أنَّ الموسوعة اليهودية في نسختها التي صدرت في عام 1973 نشرت مقالاً عن الخزر بقلم "دانلوب"، ثم مقالاً آخر عن الخزر اليهود بعد انهيار مملكتهم، بقلم المحررين. ويقول "كوستلر": "إنَّ هذا المقال كُتب بطريقة كان هدفها تجنب إغضاب كل هؤلاء الذين آمنوا بعقيدة شعب الله المختار".
وفي موضع آخر، كتب (بولياك)، أستاذ التاريخ اليهودي في العصور الوسطى، ب"جامعة تل أبيب"، في كتاب بعنوان ( خزريا ) باللغة العبرية، ونُشر في تل أبيب في عام 1944 ثم في عام 1951، يقول: "إنَّ الوقائع تتطلب أن ندرس بطريقة جديدة مشكلة العلاقة بين يهودية الخزر والجماعات اليهودية الأخرى، وفي دراسة المدى الذي يمكن أن نذهب إليه في الاعتقاد بأنَّ هؤلاء اليهود الخزر، هم نواة توطنت بأعداد كبيرة في أوروبا الشرقية.. ومصير أبناء الخزر الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة أو إسرائيل أو دول أخرى، والذين يمثلون الآن غالبية كبري لليهود في العالم".
لذلك فإنَّ "كوستلر" يشير إلى أنَّ ذلك يعني أنَّ الغالبية العظمي من اليهود الحاليين القادمين من أوروبا الشرقية والمعروفين ب"الإشكينازي"، هم أساسًا من أصول خزرية. لذلك فهو يؤكّد أنَّ هذا يعني أنَّ أجدادهم لم يأتوا من نهر الأردن، بل من نهر الفولجا، وليس من أرض كنعان، بل من القوقاز، وأنَّهم بالتالي ارتبطوا بقبائل الماجيار وقبائل شمالية أخرى، وليس بإبراهيم وإسحق ويعقوب.
ويقول "كوستلر": "إنَّه إذا كانت تلك حقيقة مؤكدة فإنَّ تعبير (مناهضة السامية) يصبح غير قائم؛ لأنَّه قام علي أساس سوء فهم من الجانبين". وإذا كان ما أكّده "كوستلر" حقيقةً؛ فإنَّ فكرة العودة إلى أرض الأجداد تصبح أكذوبةً كبيرةً، ويتحوّل بناء دولة إسرائيل إلى عملية غزو، واستيطان وليس حقًّا تاريخيًّا.
ولقد اهتمَّ "كوستلر" بتلك القضية لأنَّه كما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته (اليهود واليهودية والصهيونية): " كان يعتبر نفسه يهوديًّا رافضًا الاستمرار العرقي اليهودي والحقوق اليهودية في فلسطين، ويعتبر نفسه مدافعًا عن حقّه في أن يظلَّ منتميًّا كيهودي إنجليزي إلى وطنه إنجلترا".
وإذا خاض المثقفون والمؤرخون الغربيون واليهود في هذا الطريق إلى نهايته، سيصلون إلى حقيقة مؤكدة، في كتبهم وفي الموسوعات اليهودية، وهي أنَّ الأغلبية العظمي من اليهود المعاصرين ليسوا من أصل فلسطيني، وإنَّما من أصل قوقازي. ويقول الدكتور المسيري:
" إنَّ تيار الهجرات اليهودية الرئيس لم ينبثق من حوض البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا متجهًا إلى الشرق، ثم عائدًا أدراجه ثانيةً، ولكنَّه تحرك في اتجاه ثابت دائمًا نحو الغرب، بادئًا من القوقاز عابرًا أوكرانيا إلى بولندا، ومنها إلى وسط أوروبا. وينتهي الدكتور المسيري إلى القول: "إنَّ تهويد الخزر والأدوميين يمثل تحديًّا لفكرة العودة إلى أرض الميعاد، والنقاء العرقي لليهود؛ وهو بالتالي الأمر الذي ينفي عن اليهود حقهم التاريخيّ والعرقيّ والدينيّ في فلسطين.