تقويضُ الكولونياليّة الإسرائيليّة والرد عليها بالكتابة

تقويضُ الكولونياليّة الإسرائيليّة والرد عليها بالكتابة؛ (رواية دبابة تحت شجرة عيد الميلاد لإبراهيم نصر الله نموذجًا)
د. ليث الرواجفة
كاتب وباحث أردني
أولاً- شعريّةُ الخطابِ الروائيّ المقاوم
تُعدُّ الشعريّةُ أساسًا من أُسس تشكيل الرسالة التي يحملها الخطاب الأدبي عمومًا، وهي التي تجعل من خطاب الحكاية السردية هدفًا في ذاتها، وتمنحها الشكل الذي يجعل منها نصًّا أدبيًّا روائيًّا يُحترم لغاياته ومقصدياته الظاهرة والمتخفية خلف المضمر السردي. وبرزت شعرية الخطاب في رواية "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" من خلال الثيمة الموضوعاتية التي بُنيت عليها الرواية بعمومها؛ فهذه الرواية كُتِبَت برؤية استشرافية مليئة بالخوف على القضية الفلسطينية، وهذا الخوف ليس من المحتل فقط؛ بل من أبناء الأمة العربية التي تشهد في الآونة الأخيرة تزايدًا في حركات التطبيع، وأخذت تتهاون في تعاملها مع الاحتلال، وأضفت عليه شرعية الوجود وتقاسم الأرض المغتصبة من الفلسطينيين. هذه الرواية تُذَّكر وتستنهض القارئ المعاصر، وتؤرخ وتنقل صور معاناة وصمود الفلسطيني لأبناء المستقبل، وهو ما سيتم محوه من السجلات الرسمية العالمية المتآمرة على هذه القضية القابعة تحت مطرقة الاحتلال وسنديان "الفيتو" الأمريكي. وكل ما سبق ذكره هو المسوغ الرئيس وراء طول الرواية وكِبَر حجمها، وهذا ما يُصطلح عليه ببلاغة البياض والفضاء الطباعي، فطول نَفَس السرد هو انعكاس لطول القضية وتشعب صور المقاومة والصراع، وهو ما انعكس أيضًا على خاتمة الرواية المفتوحة.
إنَّ عملية السرد تعتمد على (الراوي)، وتنوّعه يعني تنوّعًا في الأساليب السردية، وفي الرواية نجد أنَّ الراوي الذي قدّم جميع الخطابات بتنوعها وتناقضها وصراعها كان عبارة عن شخصية حاضرة وغائبة في آن، وهو ما يُصطلح عليه (الشخصية الواصلة)، وهي التي تربط القارئ بالمؤلف بشكل مباشر، فيمكن أن نعد إبراهيم نصرالله شخصية من شخصيات الرواية الرئيسة التي حرصت على عقد الثقة بينها وبين القارئ من خلال النصوص الموازية مثل الهوامش والملاحق في نهاية الرواية، وهنا تتجلّى أهم صور الرد بالكتابة حين يكون الكاتب صاحب قضية يذود عنها، ويُعري ممارسات الطرف الآخر ومدى عدوانيته ووحشيته، فيكون الكاتب على يقين من أنَّ كلماته تترك في العدو أثرًا لا يقلُّ عن تلك الآثار التي يتركها الرصاص. فإبراهيم نصرالله مقاوم فلسطيني اتّخذ من القلم والكلمة وصوت الراوي لروايته وسيلة من وسائل المقاومة لا تختلف عن مقاومة "إسكندر" و"إدوارد" و"بشارة" و"أبو خليل" و"مرتا" و"كاترين" و"ميس" وغيرهم من أبطال الرواية.
وفي المحصلة؛ إنَّ مقاربة الخطاب المقاوم في الرواية عليها أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة بالنصِّ؛ وهو ما أطلق عليه "أومبرتو إيكو" (موسوعة النص الثقافية أو ثقافة النص) وهذه الثقافة انبثقت من رؤية المؤلف وموقفه وهدفه من هذه الرواية والبؤر التي سلط الضوء عليها (أي براغماتية السرد وذرائعيته)، كما أنَّ الرواية بأكملها لم تسجل حالة قتل لإسرائيلي، فكانت جميع صور القتل والتعذيب النفسي والجسدي للفلسطيني فقط، وهذا لا يعني أنَّ الخطابَ مُنكسرٌ، بل اتخذ من الانكسار سبيلاً للانتصار وتقويض الحصار عن بيت ساحور ونجاح إضرابها في النهاية.
ثانيًا- الشخصيةُ الفلسطينيةُ وفاعليتها المقاوِمَة
إنَّ حضور الشخصيّة الفلسطينيّة كان طاغيًا على المستوى الإحصائي مقارنة بشخصيات الرواية الإجمالية، فكان تعدادها يساوي أربعة وثلاثين شخصية فاعلة ترتبط ببعضها ارتباطًا وثيقًا مما ولَّد بطولتها الجماعية، في مقابل عددٍ محدود من الشخصيات الإسرائيلية الفاعلة والثانوية، تساوي أربع عشرةَ شخصيّة فقط، يمكن ذكرها وهي: (نتالي، ياكوف، موشيه، راشيل، ناحوم نوردو "داود"، هلمان، آدم نحماني، مستر سيكرست، ليفي، المحقق مردخاي "أسعد"، شاؤول، بيكر، الضابط يوسي، أبو نهاد)، هذه الشخصيات الإسرائيلية لم تكن متآلفة مثل الشخصيات الفلسطينية، فنجد مثلاً "هلمان" الذي ثار وانفصل عن عائلته وألف كتابًا بعنوان: (ابن الضحية) يفضح ممارسات وأفكار الاحتلال ممثلاً بأسرته، ونجد "موشيه" و"ليفي" اللذين تبادلا الأدوار بين الكاميرا والبندقية، وأوشك أن يقتل أحدهما الآخر في نهاية الرواية.
والذي يميّز الشخصية الفلسطينية أنَّها لم تكن تفرّق بين مسلم ومسيحي، فكانت المظاهرات تخرج من المسجد والكنيسة، والخوري اسمه "أحمد"، والمسلمة "ميس" أحبها "زيدان" ابن "بشارة" المسيحي وكانت "أم خليل" ستزوجهما لو بقيت "ميس" على قيد الحياة. هذا التآلف انعكس على البناء السردي الذي أخذت تتوالد قصصه وتتشعب حكاياته بتشعب العلاقات، لكنَّها كانت تندمج في بوتقة القضية الفلسطينية. ومن ناحية أخرى نجد أنَّ عدد الشخصيات الإسرائيلية على الرغم من قلتها إلا أنَّها كانت تمتلك القوّة، وهذه القوّة مرهونة بالجوانب الكولونيالية/ العسكرية من مدرعات وطائرات وجنود؛ ما فرض التنكيل بالفلسطيني الأعزل وتعذيبه وسرقته. وهذا ما تم التمثيل عليه سرديًا عبر حكايات المعتقلين النهاريين الذين كانوا يسردونها فيما بينهم. وتقديم الراوي لصور تُمتع المحتل بتنويع طرق التعذيب الجسدي والنفسي الذي مارسه على الفلسطينيين؛ بدايةً بتكسير العظام والأصابع، ومصادرة الأشياء الشخصية، وصولاً إلى مصادرة الممتلكات بأكملها، وإطلاق أصوات الحيوانات عبر مكبرات الصوت، نكاية بأصوات موسيقى "مرتا"، وغيرها من الأساليب الوحشية.
حقيقة الكولونيالية المؤلمة صفعتها بيت ساحور المتآلفة بأهلها، تلك الشخصيات التي أجمعت على عدم دفع الضرائب، بالرغم من الإجراءات التصعيدية التي مارسها الإسرائيلي، وكانت النتيجة انكساره أمام الكبرياء الفلسطيني، فأخذ يتوسل أن يدفع نصف الضرائب، أو ربعها، ووصل التوسل في النهاية إلى الحصول على التوقيع فقط مقابل الدفع، وهذا ما رفضه أهل بيت ساحور وممثلهم (إسكندر) الذي قال: "بالطبع لا. هذا عرض لا يرفضه إلا أناس قرروا ألاّ يدفعوا ثمن الرصاص الذي يقتلهم. لن أمنحك بنفسي رخصة لقتلي.." (الرواية، ص492).
ثالثًا- تاريخانيّة الصهيونيّة وانهيارها أمام الشرعية الفلسطينيّة
تقوم فكرة التاريخانيّة على أنَّ التاريخ هو الوحيد القادر على تفسير كل الظواهر المرتبطة بالإنسان كوحدة إنثولوجية مرتبطة بعلاقات إثنية أو دينية على جغرافيا معينة خلال فترة زمنية محددة، وهدفها تعرية قوانين التطور الاجتماعي وفهم التبدلات الحضارية الكبرى، وهناك مَن يرى أنَّ التاريخانية اختراق فلسفي لعلم التاريخ ولمجاله العام. وأفضل النماذج الممثلة عليها ما ورد في الرواية؛ أي ما قامت به (الحركة الصهيونية) ومؤسسها "هيرتزل" حين حاولت فرض شرعية اليهود في فلسطين من خلال منظورين: الأول ديني (شعب الله المختار/ أرض الميعاد) وهو ما عبّر عنه قول والد "موشيه": "نغبطك لأنَّك سترى قبلنا الجنة التي حلم بها أجدادك" (الرواية، ص 48).
والمنظور الثاني اجتماعي يتعلق بأكذوبة الأرض الخالية والتي تنتظر عودة أصحابها إليها، وهو ما عبّر عنه –أيضًا- قول والد "موشيه": "لقد قيل في هذا الاختراع الذي سُمَّي الكاميرا بأنَّه أكبر سُلطة لامتلاك الزمان، وأظنّك تعرف هذا تمامًا، لكنَّنا نحتاج منك شيئًا أكبر من هذا، نريدك أن تحوّلها إلى أكبر سُلطة لامتلاك المكان" (الرواية، ص 48). وهذه السلطة تكون من خلال إخلاء المكان من السكان وإرسال صور للطبيعة فقط، وهو ما عجز عنه "موشيه" وجاء عنوان: (قتل الصورة!) (الرواية، ص 70) للتعبير عن مدى فشله، وهذا الفشل قابله نجاح "ليفي" الذي قدَّم تعبيرات لـ"موشيه" حول وجه الشبه بين البندقية والكاميرا (الرواية، ص80، 90)، فـ"ليفي" فهم فلسفة الصورة أكثر من "موشيه"، يسرد الراوي العليم: "مال ليفي إلى أذن موشيه وهمس فكرته عن صورة قادرة على إبادة مدينة بإخلائها من سكانها، لكن موشيه لم يفهم الفكرة تمامًا" (الرواية، ص 104). وفي موضع آخر، قدَّم الراوي العليم تبئيرًا داخليًا عميقًا، فقال: "ليفي، لسبب ما، لا يدركه، أحسّ أن أفضل ما يمكن أن يقوم به هو أن يصوّر، لا أن يقتل، فقد توصَّل إلى أن صورة جيدة ستدفع ألف يهودي في روسيا وألمانيا وأوروبا للهجرة إلى فلسطين، في حين أن قتل فلسطيني برصاصة، لن يحقّق نتيجة كهذه، وهذا أمر يرى أنَّ الكاميرا تتفوق فيه على البندقية" (الرواية، ص 118).
إنَّ التاريخانيّة الصهيونيّة فشلت في قتل الفلسطينيين وإبادتهم من أرضهم، وانهارت أمام شرعيتهم؛ لذلك لجأوا إلى الصور الخالية منهم ومن معاناتهم، واستثمار الماكنة الإعلامية لتزوير الحقائق وتزييفها، وحين فشلوا فيها لجأوا إلى الصور المخترعة التي أبدعها "ليفي" رفقة مَنْ يتواجدون في مستعمرة الخضيرة، تلك الصور التي جعلت "ناحوم نوردو" (الأول) يقول: "كيف تمكنت من فعل ذلك يا موشيه؟، لقد أقنعتنا نحن الذين نعرف الحقيقة، أنَّ هناك كبير حاخامات في المدينة!" (الرواية، ص121). وهي الصور نفسُها التي يرسلها عبر البريد وكان "عليه في كل مرة يُرسل فيها رسالة إلى هناك أن يكتب: العنوان: فلسطين.. لأنَّه يعرف أنَّه لو كتب: (إسرائيل) لما وصلت أبدًا!" (الرواية، ص98). فالتاريخانية الصهيونية انهارت أمام شرعية الوجود الفلسطيني على الأرض، وفي التاريخ، وانهارت شرعيتهم أكثر أمام كلِّ مولودٍ فلسطينيٍّ جديد.