د. عبد القادر الرباعي
ناقد وأكاديمي أردني
qader_a_rabbai@hotmail.com
احتفى خليل حاوي في شعره بتنافر الأضداد، أو المفارقات المثيرة، والمقترنة بالانفعال الحادّ المنضبط إيقاعيًّا. وأهميّة هذه الثنائيّات المتضادّة لدى حاوي، دفعته إلى أن يجعل عنوانات دواوينه مدموغةً بها، فترك خمسةَ دواوينَ شعريّة، تحمل عناوينُها ظاهرةً لافتة هي ثنائيةٌ ضديّة دالّة.
خليل حاوي شاعر لبناني وُلد عام 1919م على أرجح الأقوال، وتوفي عام 1982. كان في شعره وحياته صارمَ العزم، فلسفيَّ الرؤيا، قاسيَ النَّهج. اشتغل -وهو ما زال صبيًّا بعد وفاة أبيه- في حمل حجارة البناء وطينه، لكنه لم يترك القراءةَ وتثقيفَ نفسه يومًا، إلى أنْ نال درجة الدكتوراه من جامعة "كامبريدج" في بريطانيا، ثم صعد أستاذًا في الجامعة الأميركيّة ببيروت وهو في ذُروة الشباب، وانتهى منتحرًا، ليلة اجتياح إسرائيل لبلده لبنان عام 1982.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ حاوي كان من أقطاب التَّجديد الشعريّ منذ بداياته الشعريّة. فدواوينه ملتزمة بالشعر الحر، أو شعر التفعيلة. ولأنَّ شعره يلامس حدّ الصراع اللامنتهي، فقد احتفى فيه بتنافر الأضداد، أو المفارقات المثيرة، والمقترنة بالانفعال الحادّ المنضبط إيقاعيًّا. وأهميّة هذه الثنائيّات المتضادّة لدى حاوي، دفعته إلى أن يجعل عنوانات دواوينه مدموغةً بها، ولكنه احتفى أيضًا بالرَّمز، والأسطورة، والصورة، والخيال، في عموم شعره، ولهذا كانت لشعره سمة لا تغيب هي الإبهامُ الذي يحتاج من قارئه قدرًا كبيرًا من الصَّبر، والجَلَد، والإخلاص، فسرعة القراءة لا تأتي بأيّ نتيجة لصالح شعر هذا الشاعر الصارم، والذي أغرقه في هموم العالم المعقَّدة، وتشابك الذات القلقة، ممهورًا بومضات شعريّة موجزة العبارة أو الصورة، متباعدةِ الأنحاء، متصارعةِ الأطراف، لكنَّها منصهرةٌ، في وحدة شاملة لدى كليّة القصيدة، والتفعيلة الموحدة، مثلما ظهر ذلك جليًّا في كل الشعر الذي بين أيدينا له.
ترك حاوي خمسةَ دواوينَ شعريّة، تحمل عناوينُها ظاهرةً لافتة هي ثنائيةٌ ضديّة دالّة، فديوانُه الأول: (نهر الرماد) 1957، يحمل سمةَ الانبعاث من قلب الرماد، كطائر الفينيق، وقد لُقِّب بشأنه: شاعرَ الانبعاث. وقد فُسِّر لدى بعضهم بتصويره النهضةَ العربيّة بازغةً من قلب ركام الخمول والاستكانة، إثر وحدة مصر وسوريا. وتابع الانبعاثَ في ديوانه الثاني (الناي والريح) عام 1961، لكنَّ هذا الانبعاثَ أصيب بخيبة أمل في ديوانه الثالث (بيادر الجوع) عام 1965، الذي أتى معبِّرًا عن فشل تلك الوحدة، مثلما أوحى لبعضهم، ويمثِّله فيه: ليعازر، الذي يموت فيعيد الناصري له الحياة، لكنه ظلّ ميتًا، حتى وهو حيّ. في هذا الديوان رمزٌ لإخفاق الحضارة في تقديم قِيَم باقية ترفع من سويّتها في نظر الشاعر. لذا راح ينشد الجمال لدى عالم الغجر، وما إن يتغنّى بهذا العالم البريء حتى تزحف عليه المدينة فتغيِّر حاله، وتصبح الغجريّة جسدًا تمزِّقه الخطيئة، حتى لتبدو الغجريّةُ نفسُها غريبة عن ذاتها، تحنُّ لعالمها القديم، لكن أنّى لها ذلك؟!
وانفرج حال الشاعر في ديوانه الرابع (الرَّعد الجريح) 1979. فقد انتعش وعاد مبتهجًا في هذا الديوان، الذي تجلّت فيه الرؤيا هالةً من هول الرَّعد، ومهابةِ الجبل؛ في طلعة بطل مخلص (حوّل الطغيان... لهوًا.. مهرجانا)؛ مثلما قال في مقدمته للديوان، وكرّر ذلك شعرًا، واستعار فيه تناصًا دينيًّا (صالح في ثمود) رمزًا للهداية الفرديّة. واستمرَّ الانبعاث حييًّا في ديوانه الأخير (جحيم الكوميديا) 1979.
كثيرون هم الذين توقفوا في الرمز الشعري لحاوي عند وضع الأمة العربيّة الراهن العاجز عن إنجاز ما يسعف الشاعر على تمجيده، لذا علق هذا الوضع المستكين بالموت، أمّا الانبثاق فهو، في حالة حاوي، الخروج الشامخ من بين ركام الفشل والخيبات المتوالية. كوحدة مصر وسوريا، في ديوانيه الأولين (نهر الرماد، والناي والريح). وكسر الانبثاق، وعودة الفشل ثانية، في ديوانه الرابع (بيادر الجوع) مجسِّدًا حدث الانفصال من تلكم الوحدة. لكن الأمر تبدَّل إلى حدّ ما في حرب تشرين وعاد الأمل يهـتــزّ في داخله من جديد متمثّلًا بديوانه الرابع (الرعد الجريح)، وامتدّ أثره على استحياء إلى ديوانه الخامس (جحيم الكوميديا).
أعتقد أنَّ التوقُّف في تحليل الخطاب واستنباط المعنى الشعري عند هذه المقايسات التاريخيّة بين الشعر والأحداث الخارجيّة، حتى لو تصادف الحدث والفحوى العام للديوان المنشور زمنه! إنَّما هو توقُّف يجعل من الشعر تأخيرًا للأحداث، وهذا ما شاع في كثير من دراسات الشعر العربي القديم. وهذا منحى تحليلي ناقص مثلما أعتقد، وهو يقلل من القيمة الكبرى للشعر وحدود المعنى فيه، فالشعر ذو لغة جامحة جامعة المكاني والآني معًا، وضاربة في آفاق الفن الرفيع الذي يرتفع بالمحلّي إلى العالمي، بالفردي إلى الإنساني، فالإنسانيّة هي البدء والنهاية. والشاعر -قبل كل شيء- إنسان ينشئ الشعر من دمه وكيانه وثقافته اللا محدودة؛ فرديًّا، وإنسانيًّا. أمّا مهمّتنا، نُقّادًا، ففي متابعته في محاولات تبصريّة لا يحدّها حدّ إلّا اجتهادنا في قراءة خطابه الشعريّ على ضوء فاعليّة تحليل الخطاب، وبما توحي به حركة المعنى الداخلي، الذي يشتبك فيه الآني بالزمكاني ذي الأفق اللا محدود. ويصبح الشاعر لسان الإنسانيّة جمعاء، سواء أكان ذلك تألُّمًا أم ابتهاجًا. إنَّ في الشاعر مضغة تدفعه أن يستمرّ جموحًا جهة الخير ونبذ الشر. وما يبوح به الفكر والعقل، وتقبله الذائقة الفنيّة الخاصّة به. وإنْ كان هذا لا يصدق على كثير من الشعراء، فإنه عند هذا الشاعر هو الغاية والهدف الأسمى. ولو أخذنا قصيدته (الرعد الجريح) التي قيل: إنَّها تحاكي ظهور بطل مخلص تجسّد إخلاصه بشارات الانتصار في حرب تشرين. هذه القصيدة قيلت قبل حرب تشرين لا قبلها مثلما يذكر الشاعر نفسه. قال في ص43 من الديوان: "كانت صورة البطل المخلص مفاجئة لي بقدر ما كانت مفاجئة لغيري ممّن طالع القصيدة حين اكتملت قبل حرب تشرين".
ويعلِّل ذلك بصفاء الرُّؤية الشعريّة، فيردف قائلًا: "ولستُ أدَّعي أنَّ الرؤيا الشعريّة تزيح الحجب، أو ترى عبر الحجب مصيرًا مقدّرًا يهبط من عالم الغيب، بل هي إيغال عبْر ظواهر الواقع إلى بواطنه حيث يولد الحلم في صيغة القدر المبرم الذي تعمل عوامل خفيّة معقَّدة على تجسيده وتحويله إلى واقع". ومهما يكن فإنَّ الشعر ذو إلهام لاستكشاف حالات الإنسان العميقة التي لا يحجبها عن الحقيقة الإنسانيّة الراسخة زمان، أو مكان. لكنَّها لا تصل -كما أظن- إلى أن تصف حدثًا ما قبل وقوعه. أمّا قول حاوي في تفسيره إنَّ الرؤيا الشعريّة عابرة للأحداث لتوليد حلم يصير حقيقة واقعة، فأنا أراه تمهيدًا لاعتباره نفسه نبيًّا دونما نبوّة. فهو في قصيدته (السندباد في رحلته الثامنة) يُشعرنا أنَّهُ ذو بشارات إلهيّة، فهو يتحرّك في محيط الأنبياء، ولكن دون نبوّة. وهذا ما أراهُ قاعدةً لانتحارٍ معنويٍّ يتوالى مع كل خيبة من خيباته المتكرِّرة في عجزه عن تغيير ما سعى إلى تغييره في عالمه. فلو كان خليل حاوي شاعرًا عاديًّا يقبل النجاح والإخفاق ما أوصله قدره إلى مجرَّد التفكير بالانتحار، لكنَّ حاوي الذي يعدُّ نفسه نبيًّا دونما نبوّة يصعب عليه تقبُّل الفشل بسهولة، لأنَّهُ يرى أنَّ رسالته يجب أنْ تُدرَك وأنْ تؤثِّر في الآخرين حدّ التصديق بها، والعمل على تفعيلها، وهذا لم يتمّ منه شيء في عالم كعالم (ليعازر).
بدأت قصيدة (ليعازر) بنص من إنجيل يوحنا: "ذهبت مريم، أخت ليعازر، إلى حيث كان الناصري (عيسى عليه السلام)، وقالت له: لو كنت هنا ما مات أخي، فقال لها: إنَّ أخاك سوف يقوم". إذن كان (ليعازر) ميتًا، فأحياه الناصري، لكنه لم يسعد بكونه عاد حيًّا، وإنَّما ظلَّ يعشق موته، فهو يقول للحفّار:
"عمِّق الحفرة يا حفّار... عمقها لقاع لا قرار
لفّ جسمي، لفّه، حنّطه، واطمره
بكلسٍ مالحٍ، صخرٍ من الكبريت،... فحمٍ حجريّ".
لقد أصبح حيًّا ميتًا في الواقع، وكانت هذه الحال الغريبة الشاذّة مصدر بلاء لزوجته التي ظلّت تردِّد على طول القصيدة، بل لقد أنهتها بقولها:
"كنتُ أسترحم عينيه... وفي عينيّ عار امرأة
أنَّتْ، تعرَّت لغريب... ولماذا عاد من حفرته
ميتًا كئيب؟!".
ولستُ أشكّ أنَّ وراء (ليعازر) في شعر حاوي رمزًا عميقًا لِما كان يعانيه من تخلُّف مستحكم في محيطه العربيّ الذي قد اكتملت صورته السلبيّة، واستقرَّت على ما هي عليه دون أنْ تصغي له ولغيره ممَّن كانوا يحملون ألوية الإصلاح، ثم يصابون بخيبات أمل مدمِّرة نفسيًّا. وكانت عند حاوي أكثر إيلامًا، بحيث وصلت خيبته إزاءها حدّ الانتحار المعنويّ، الذي قد يصدق عليه ما أسمّيه "الانتحار الجميل"، لأنَّ منه، وبتأثيره الإيجابي أتى شعر هذا الشاعر العبقريّ!
ومن هنا أقول: إنَّ انتحار خليل حاوي الفعليّ عام 1982 لدى اجتياح إسرائيل لبلده لبنان، ما هو إلّا خاتمة لانتحاراته المعنويّة المتكرِّرة عند كل خيبة من خيباته في دواوينه الشعريّة قاطبة، وصدى حقيقي لها. كيف لا وهو يحس في داخله برؤيا بشارات علويّة كبرى، كما في قصيدته التالية.
• الناي والريح
سأنتقلُ تاليًا لقراءة يقظة هادئة في واحد من دواوينه هو: (الناي والريح) الصادر في بيروت عام 1961. والديوان عنوانه ثنائيّة متخالفة حدّ التناقض: فالناي هو أيقونةُ السُّكون، ورمزٌ للتقليد، والريح أيقونةُ الحركة، ورمزٌ للتَّجديد. لكنّه عنوان مرسوم بإيقاع تفعيلة البسيط (مستفعلن/ فاعلن) موزعةً بكيفيّة تتساوق ومساقط القول، وتطوُّر الحدث. وتغلب على الديوان لغةٌ أشبهُ ما تكون بالسرديّة في تتابع الأحداث والحوارات، كما تلجُ الحُبكة تلك اللغةَ في مواقف مفاجئة ومحفّزة، وهذه ميزتها الفنيّة العالية.
وانطلاقًا من فهمي لماهيّة القراءة النقديّة في جماليّة الخطاب الشعري، سأعبر عالم النص لحاوي في ديوانه هذا (الناي والريح)، بما في ذلك قصيدته المثيرة (وجوه السندباد). تاركًا الحديث عن القصيدة الأخيرة (السندباد في رحلته الثامنة). فهي قصيدة مختلفة تمامًا عن غيرها من قصائد الديوان، ولا أظنها من جسد الديوان أصلًا، فهي تقف بموازاته كله، بل هي أكثر حافزيّةً، وأبعد مرمى. وهي تستحق وحدها دراسةً سيميائيّة مستقلّة، لكنّي هنا سأبدأ بالناي.
توقَّف الشاعر في الناي منذ البدء عند (صورة البصّارة) في عوالمها الغيبيّة التي تدعو للسخرية! فبينما هو منشغل بأحداث مصيريّة تَغلي في مكانه وناسه، استوقفته هذه البصّارة، لتقرأ في خطوط كفّه؛ عمّا يمكن أنْ يجود به عالم الجان من حظّ؟! أمّا أدواتها، فليست أكثر من مِبخرة يملؤها مارد وجان! وهي علامة سيميائيّة على الخداع وابتزاز البسطاء.
وفي عالم غيبيّ مشابه، اصطدم في رحلة خارجيّة، بناسك (علامة التَّواكل والتَّعطيل) على ضفاف (كام) في الأرجنتين. كان غارقًا كالبصّارة في استطلاع الغيب. يُصاب حاوي بالدهشة لهذه العوالم الغيبيّة التي تعمّ المكان هنا وهناك؟! إنه عالم من الصمت والثبات، والموات. فلا حركةَ تدفع للأمام، ولا فعلَ يجني ثمرًا يستحق العناء. بل هو معطِّلٌ لكلِّ بادرة تشقّ للنُّور طريقًا:
"أضحك من بصّارة الحيّ. وما لفَّق جنٌّ ساخرٌ لعين".
وليس بعيدًا عن تلك الأجواء ما كان يعانيه حتى في صومعته (الجامعة)! لقد كان يشعر أنه في سجن يحول دون حريّتِه. سجنه هذا ليس أكثرَ من أكوام الورق العتيق: علامة التخلُّف. لكنه لن يهدأ لا، ولن يستكين؛ فهو توّاق للعبور إلى التغنّي بالتَّجديد، إلى نور اليقين. لم يفصله عن ذلك إلّا خطوةٌ، أو خطوتان إلى الباب، ثم إلى الطريق. وهو مستعدّ للتضحية بكل ما في الجامعة من إغراء، مستخدمًا أسلوب التهكُّم علامة سيميائيّة على الإنكار:
"دمي ينحرُّ يشتُمُني يئنُّ: إلى متى أزني وأبصُق
على لقب وكرسي. أنا لستُ منكم طغمة النسّاك
لن يستحيل دمي إلى مصلٍ. كذبت، كذبت
جرّوني إلى الساحات، عرّوني. اسلخوا عني شعار الجامعة".
وفي جوّ خانق ثالث مرفوض، هو جوّ ارتكان بعضهم إلى الدَّعوات علَّها تأتي بالأمنيات! إنهم لا يرومون موقعًا، ولا يهزّون شجرة. كما أنهم لا يدفعون أبناءهم إلى أن يجرِّبوا غير الذي جرَّبوه هم. إنهم يستطيبونهم صورًا منهم؛ فحين يمدح أحدهم ابنه يقول:
"ابني وقاه الله كنز أبيه".
وهم متواكلون، يعتمدون على القدر، فكل عمل مفيد لا يكلّفون أنفسهم تجريبه، وإنْ لم يأتِهِم كما يتمنّون، يحمِّلون القدر أو النَّصيب مسؤوليّة عجزهم عن فعله؛ فإنْ ضاع ابن أحدهم مثلًا لا يعمل الأهل ما فيه الكفاية للعثور عليه، وإنَّما يركنون إلى اعتقادهم بأنَّ الله كفيل بردِّه:
"العامُ خلف الباب يا بنتي، يعود... غدًا يعود إليك، بعضَ الصبر
سوف يعود والله الكفيل!".
هذا هو عالم النّاي (أيقونة السُّكون) إنه آلة الإيقاع القديمة التي لم تصدح إلّا بما كان علامةً على التخلُّف، ثم الشَّدوِ بصوتٍ هادئ ثابت عتيق؛ بعيدًا عن التحضُّر وعالم الإنجاز والإبداع. ولمّا لم تسلم منه بعض منافذ العلم والمعرفة كالجامعات وقتَ الشاعر مثلًا، فقد ثار بها، وتبرَّأ ممّا فيها من تخلُّف عمّا وعاه في حياته الجامعيّة في الغرب وتحديدًا في إنجلترا.
أمّا الريح (أيقونة الحركة)، فهي زاد التنويريّين الدّاعين إلى جلب الضياء لقلب القبيلة، كي تنبثق منه العبارة التي تصنع العالم. إنَّ الشاعر وهو ابن حركة التنوير، يسعى إلى أن ينشقَّ عن جذوره الرّاكدة، القابعة في محيط الكسل، تنتظر أن يأتي الفرج بلا سعي، بلا تعب أو وجع. وأن ينشقَّ كذلك عن صومعته وكتبه، وعن حبيبته التي تحيا وتموت على انتظار، مستـخدمًا لذلك أسلوب المناجاة والسؤال، علامةً على القلق.
"ربّي! متى أنشقّ عن أمي، أبي... كتبي، صومعتي،
عن تلك التي... تحيا، تموت على انتظار!".
لعلَّ انشقاقه عن الحبيبة أتى رأفةً بها، حتى لا تُبتلى ابتلاءه في شربه مرارات الدُّروب. ربَّما ينتظر الخصب الغنيّ أنْ يحلَّ مرَّة أخرى، في العالم العاجز عن الحركة والإلهام. وفي معمعة هذه الأمنيات الغوالي، يتجه بالتطواف نحو "البدويّة السمراء" أيقونة الرمز المحتمل للأمة العربيّة في زمنه. فهو يجتهد في أن تهزَّها رياح التغيير إلى العمل والإنتاج الذاتي، مصوِّرًا إحداث تلك الهزَّة بهدايا مدَّخرة لها في مكامن البعث من داخله مثل: واحات من العجين البكر، وزوابع الرمل المرير، كي يُروِّضها، ويُحفِّزَها إلى بذل نفثات من عرقها، تدفعها ثمنًا يغنيها عن انتظار قوت يسقط في السلال بلا تعب. ويهديها من شوكه شوكًا ينْخَزُ في واقعها الرملي الساكن، لتصطاد برقعًا يهفهف نشوانًا، وتزرعَ زوبعة من طرب، حتى تصل أخيرًا إلى منبع الريح المعطّرة، الطربة، الغضوب. أمنيات عزيزة يخبِّئها في داخله كي يهديها لأمَّته الساكنة الساكتة، شرابَ مراراتٍ بلا مرارة، ولتهُبَّ في عالمها الريحُ الطربة الغضوب؛ كي تتحرك بالحيويّة التي تُلْحِقُها بالمجد المدخر لها من سابق تاريخها العريق المجيد. مستخدمًا ما أكده "هيدجر" من قيمة فهم التاريخ أسلوبًا للتَّحفيز:
"للريح موسمها الغضوب... من سياحات عتيقة
وتعود ما كانت عليه... التربة السمراء في يد الخليقة
بحضن الشمسِ ليلِ الرّعد... يوجعها وتستمري بروقه".
لنتوقَّف فنتملّى روعة مفارقته المفاجئة في السطر الأخير؛ الوجع الموجع الحبيب: "يوجعها وتستمري بروقه". فهذا السكون الذي ساد التربة السمراء، لا يحرِّكه إلّا ريح غضوب موجع، لكنه في وجعه طروب الإيقاظ والانبعاث. غاية الشاعر إحداث التغيير شاملًا؛ لتصير البيوت بيتًا واحدًا كبيرًا، يزهو بأعمدة الجباه، ولتلحق التربةُ السمراءْ القديمة، آفاقَ التحضُّر والمدنيّة الحديثة؛ فتصبح غاباتٍ من المدن الجديدة بأرصفة وجاه. يجمعها جميعًا جامع الوحدة، دونما تفسُّخ، وتشرذم، ما دفع الشاعر أنْ يستعير أسلوب السؤال الإنكاري المستفز، بحرقة رامزة:
"أيصحُّ عبرَ البحر تفسُّخُ المياه؟!".
يغرق الشاعر في أمنياته العذاب! يأخذه خيال جامح يحلق بعيدًا بعيدًا، لكن أمنياته هذه كان قد سرقها من عالم الناسك المخذول في رأسه لحظة غفلة هذا الناسك. وحين أفاق اندفع يؤنِّبه ويصفه بالولد العاق الغارق في غوايات الشيطان. وهكذا بين يقظة هذا الناسك، وغفلته دخل الشاعر وحده في صراع عنيف ينتهي بلا جدوى، ليعود مثلما بدأ، يئنّ من الضَّجر، يائسًا من رياح التغيير، بعد أن أيقن أنَّ علّة وطنه الكبير: حرصه على أكوامٍ من الورق العتيق علامة على التخلُّف كما سلف. قال:
"الناسك المخذول في رأسي... يشدّ قواه، ينهرني، أُفيق
بيني وبين الباب... صحراء من الورق العتيق، وخلفها
واد من الورق العتيق، وخلفها.. عُمرٌ من الورق العتيق".
وهكذا: عودًا على بدء؛ فبينما كان أمس متفائلًا لا يفصله عن يقينِ الباب إلّا "خطوةٌ أو خطوتان، ثم إلى الطريق"، ها هو اليوم يائسًا، انتهى إلى أنَّ الذي يفصله عن يقين الباب: "عمرٌ من الورق العتيق". مثبتًا أنَّ العقل حين يتحجَّر عند عقبة كأداء: تصاب الرؤية بالعمى، وتشلّ الإرادة، ويتوقف الفعل عن الحركة للأمام. وهكذا كان. فعلى الرّغم من محاولاته المميتة، وآماله العراض، وتضحياته الكبرى، وعمله الشاق المضني، عاد كما كان مخذولًا كئيبًا. مؤكدًا بطريقة رمزيّة أنه يناطح صخرة غائرة في الوحل محاطة بسياج عقلي من فولاذ عتيق.
وفي المقابل، حين يندفع العقل دونما قيد، ويجمح الفعل إلى أفق خواء لا خضرةَ تنعشه ولا روحَ تنديه، ولا قيمةَ ترشح من جوانبه، يغدو العيش في ظلِّه مستحيلًا على مَن يُنشد العيش في مكان تتسامى فيه الإنسانيّة، ويسود فيه التعاطف الوجداني. فهل هذا ما سيواجهه الشاعر في رحلته مع قصيدته التالية: (وجوه السندباد)؟!
إنَّ تلك البطولة التي أبداها الشاعر في دعوته للتحضُّر والتمدُّن في ظلِّ التحجُّر الشرقي أو العربي، دفعته أنْ يتحرك حركة الريح في رحلة تزايل رحلة السندباد، إلى بلاد الغرب، التي شدّ إليها الرّحال للدراسة بلندن: مبتدئًا بصورة وجهه الذي ما زال طريًّا طراوة بلده: بلد الأرْز، وهو بريء، دافئ لم يشوِّهه الزَّمان، مستعيرًا أسلوب السرد:
"أدري أنَّ لي وجهًا طريًّا... أسمرًا لا يعتريه... دمغةُ العمر السّفيه".
ذلك الوجه الطريّ راق للحب الذي حلى لطفلة الأمس التي ألفت الرَّسم على محياه الأسمر الطريّ، وحكت له مرارًا عن صبيّ غصَّ بالدمعة في مقهى المطار، وكأنَّها تريده إلى جوارها قبل أن يجرِّب الغصّة في بلاد الغربة. تلك كانت البداية، لكن بإيجاز شديد، أمّا الرِّحلة فلها ما لها؟!
تحرَّكَ صاحبنا تاركًا وراءه طفلة الأمس تلك مع ذكرياته النديّة. كانت تجربته الأولى ويومُه الأول في أرض غريبة، كانت ليلته فيها رتيبة، ومع ركوب القطار شعر أنه في سجن. عضّ جسده الجوع، وغطّت الغبرة حقائبه، عزّت عليه أشعة الشمس، فطفق شبه حجرٍ في دوّامة كبرى، علامة على الضياع. عندها راح يعلك ذكرياته القديمة. انتابته حالة من الكآبة بعد أن أكلت الغبرة وجهه الذي كان بالأمس طريًّا، لكن: هل سيبقى مع الرِّحلة هذه، طريًّا؟!
ومن القطار إلى الفندق الريفي! الذي تخيَّل -وهو ريفي!- أنَّ الجن قد ألهب فيه حلبة رقص الغجر، وخوابي الخمر، ونوادي البار المملوءة بضحكات الزوّار. ترك حلبة رقص الغجر، لكن بعد أن تركت أجواؤه الصاخبة دمغة في وجهه الذي كان بالأمس طريًا، فأصبح اليوم:
"وجه مَن تبصُــقُه نبضة الدوّامة الحرّى
وجه مَن يتعب من نار، فيرتاح لنار".
وتاه خياله: إنه الآن في جنّة، لكنَّها جنّة من ضجر. وجهه فيها غدا وجهًا محفّرًا من حجر:
"وجه ذاك الطالبِ القاسي.... وجهه يعرق مصلوبًا
حجّره طولُ الضَّجر... وجهه من حجر... بين وجوه من حجر!".
في هذا الجوّ من تحفير الوجه، ومداخن الفحم من محطات القطار، والضباب الكالح من صوب البحار، حنّ إلى أيامه الخضر النديّة في لبنان، حيث الجمال البريء من أدران الابتذال:
"وبناتُ الماء ما زلنا... في الدّهر صباي
تسقيه غِوى سمرته الأولى... لونَ لبنان وطيبه".
ويعود مع عودته من رحلته القاسية إلى حبِّه لتلك التي آنسته وماتت على قلبه، فما دار النهار. ويدور النهار ويحلو في اللّب الخصب المغنِّي بالثمار:
"اسندي الأنقاض بالأنقاض... سوف تخضرُّ، غدًا في أعضاء طفل
عمره منك ومني... دمنا في دمه يسترجع... الخصب المغنِّي".
لم يكُن ذلك الخصب عرسًا، وإنَّما رمز لخصب حضاري غني متخيَّلُ، ومفعم بأمنية عزيزة: أنْ تتشأ حضارة يتَّحد فيها طرفان متتامّان: مادةٌ في الإنتاج بحجم الإبداع والتحضُّر، وروحٌ في العلاقات بحجم الإنسانيّة والإخلاص لا غير، ليأتي خصبُهما غنيًّا بالتَّجديد اللامحدود، والمحبّة بلا حدود.
فإذا كان الشرق العربي يعيش عفنَ الخمول، وتحجُّرَ العقول في قاعٍ من الوحل، وجنّة من تواكل وكسل، فإنَّ ماديّة الغرب، وجفافَ الروح، وتراكُمَ الغبار، والأبخرةَ، والضبابَ، وعفنَ البارات، ومجونَ السكارى، إنَّما هي جنّة ولكن من ضجر. لا تمنح الوجوه نضارتها، ولا تهب الحياة نداوتها، ولا تتيح للعلاقات الإنسانيّة الحُبَّ والخصبَ الغنيّ، والدفءَ النقيّ.
وبناء على عقم الحياة التي تحول بينها والخصب الحقيقي في الجانبين: الشرق هنا والغرب هناك، فإنهما إذن يتساويان في إحداث الوجع للضمير الإنسانيّ الحيّ النقيّ الذي تتساوق فيه الروح والمادة معًا. وإذًا لا يبقى للفرد إلّا أن يعيش الخصب الغنيّ حيث يجده هنا أو هناك. لكنه يظلّ في الوطن أحلى وأخصبَ مثلما اختار الشاعر ذلك.