نزيه أبو نضال
كاتب وناقد أردني
nazihabunidal@hotmail.com
في "قناديل ملك الجليل" يرتدّ نصرالله إلى القرن الثامن عشر، متسلِّحًا بأدوات المؤرِّخ، كي يعود إلينا من هناك موشّحًا بلغة المبدع المفتون بما رأى، باحثًا في أسس تشكُّل الهويّة والذات الإنسانيّة الفلسطينيّة، فيمزج التاريخ بالقيم الكبرى وأسئلة الحب والموت والقدر، ويتأمَّل التاريخ الروحي والميثولوجي لفلسطين، معيدًا الاعتبار لتاريخٍ نضاليٍّ متألِّق، لقائدٍ تاريخيٍّ فريد.
يَتَّصِلُ مفهوم البطولة، في الأساطير والملاحم التاريخيّة، بسِيَر الآلهة بالبشر وبالخوارق، وهي الأشكال السرديّة البدائيّة للإنسان، مثل: "جلجامش" (3000ق.م)، "الإلياذة" و"الأوديسة" (700ق.م)، ثم "الشاهنامة" الفارسيّة، و"المهابهاراتا" الهنديّة، و"الكوميديا الإلهية" لـِ"دانتي"، و"الفردوس المفقود" لـِ"ملتون". وعربيًّا نلتقي مع "رسالة الغفران" للمعرّي، "سيف بن ذي يزن"، "عنترة"، "سيرة الزير سالم"، "تغريبة بني هلال"...إلخ.
فيصحّ بالتالي ما قاله هيجل: إنَّ "الأساطير هي إنجيل الشعب، وإنَّ الملحمة تملك بُعدًا تأسيسيًّا قويًّا وتحكي حلقة متَّصلة بالعالم الكامل مكانًا وزمنًا.. فتكوِّن الأسس الحقيقيّة للوعي". ويرى "فردريك إنجلز" بأنَّ "الرواية الحديثة هي شكل آخر للملحمة والأسطورة، ولكن بأساليب مختلفة". وهو ما يراه "جورج لوكاتش": "إنَّ الرواية هي التعبير المكافئ للملحمة، في العصر الحديث"(1). ويتجلّى كل ذلك في "الحرب والسلام" لـ"تولستوي" و"الملهاة الإنسانيّة" لـ"بلزاك" و"قصة مدينتين" لـ"شارلز ديكنز" و"البؤساء" لـ"فكتور هوجو" و"ذهب مع الريح" لـ"مارغريت ميتشل" و"الجذور" لـ"أليكس هيلي". وكذلك في الرواية العربيّة: "مدن الملح" لعبدالرحمن منيف، وثلاثية محمد ديب "النول والحرية والدار الكبيرة"، و"مدارات الشرق" لنبيل سليمان، و"زوابع" زياد قاسم، و"ذيب الصالح" لموسى الأزرعي.
أمّا كاتبنا إبراهيم نصرالله فقد أنجز مشروعه الملحميّ عبْر مسيرة روائيّة تمتد من"قناديل ملك الجليل"(2) عن سيرة ظاهر العمر الزيداني مؤسس أوَّل دولة فلسطينيّة في العصور الحديثة (1689- 1775)، وقبلها "زمن الخيول البيضاء"(3) لتتواصل مع متواليات: "طفل الممحاة"، "طيور الحذر"، "زيتون الشوارع"، "أعراس آمنة"، "تحت شمس الضحى"، "مجرّد 2 فقط"، ثم ثلاثيّته: "ظلال المفاتيح"، "سيرة عين"، "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد". وهي تشكِّل بمجموعها روايات "الملهاة الفلسطينيّة" التي أرَّخ فيها نصرالله تاريخ فلسطين وشعبها.. فكان أنْ غطَّت مساحة زمنيّة روحيّة ووطنيّة وإنسانيّة على مدى 250 عامًا، أي منذ زمن الدولة العثمانيّة حتى الآن.
***
في "قناديل ملك الجليل" يرتدّ كاتبنا إلى القرن الثامن عشر، متسلِّحًا بأدوات المؤرِّخ، كي يعود إلينا من هناك موشّحًا بلغة المبدع المفتون بما رأى، مسجِّلًا صفحات ناصعة للقوّة المنتصرة في فلسطين.. ربّما كي نرى حجم الهزيمة السوداء التي نعيشها في هذا الزمان.
تمتدّ الرواية على مساحة 555 صفحة، لا تفارقكَ خلالها فتنة الدَّهشة بما تقرأ من نص إبداعي استثنائي، كما يصحّ على مستوى المضامين ما جاء في تقديمها "عن بحثها الأعمق في أسس تشكُّل الهويّة والذات الإنسانيّة الفلسطينيّة في هذه المنطقة الممتدة ما بين بحرين: بحر الجليل (طبرية)، وبحر عكا، عاجنة التاريخ بالقيم الكبرى وأسئلة الحب والموت والقدر والعلاقة مع الطبيعة في أعمق تجلِّياتها، ومتأمِّلة التاريخ الروحي والميثولوجي لفلسطين، ومعيدة الاعتبار لتاريخ نضالي وطني متألق، لقائد تاريخي فريد".
تنهض هذه الرواية التاريخيّة كالعادة على السيرة الملحميّة لبطلها ظاهر، ابن عمر الزيداني وحليمة، أمّا أخوته فهُم: سعيد وصالح ويوسف، وشمة زوجة ابن عمّه محمد العلي. وتزوّج من النساء أربع، على امتداد عمره الطويل: نفيسة وبدرية وسلمى ونسمية. أمّا أولاده فهم: صليبي وعثمان وعلي وأحمد وسعيد وابنة واحدة، وأبرز أحفاده الجهجاه ابن عثمان. وكان أعز أصدقائه ورفيق عمره "بشر"، وقائد جيشه أحمد المغربي. أمّا روح الرواية الحقيقيّة وملهمة بطلها الظاهر فهي المربِّية والأم "نجمة".. إنَّها المرأة/ الأرض التي أنجبته من روحها المعجونة بالحكمة والمحبّة..
استخدم نصرالله على امتداد هذه السرديّة الملحميّة الطويلة مفاتيح فرعيّة للفصول أو الفقرات، لإضاءة عالم المشهد اللاحق أو التمهيد له، بما يشبه العناوين الشعريّة المتوهِّجة ذات الإيحاء والدلالة مثل: الجنّة بين نهرين، عذاب الجنّة، جدار الغبار، صائد الرّائحة، عن الدم والرُّمح، ليلة الضِّباع، عاصفة الجمال، وصول الحمامة، على عتبة الدّير، المحرّمات...إلخ.
تدور وقائع رواية القناديل عبْر أمكنة ممتدّة على مساحة فلسطين، وتصل إلى دمشق وجنوب لبنان وشمال الأردن ومصر المحروسة، في زمن الاستبداد العثماني النهّاب. وتبدأ أحداث هذه الملحمة بعد وفاة الأب عمر الزيداني، مع اجتماع الأخوة الأربعة لاختيار أحدهم ليخلف الأب في دوْر القيادة، وكي يتولّى الموقع المهمّ للمتسلّم (المتسلّم هو الشخص المسؤول عن جنْي المال الميري للدولة العثمانيّة).
يبدأ الاجتماع بلعبة القناديل المضيئة الشعبيّة، حول مَن في قنديل حياته زيت أكثر، ومن سينطفئ أوّلًا.. فينقلب الأخوة على المعتقد الشعبي الدارج باختيار الأطول عمرًا.. فتتحوّل هذه اللعبة، على يد الأخوة، إلى حيلة لاختيار مَن ينطفئ قنديله أوَّلًا.. أي الأقصر عمرًا.. فيكون ظاهر العمر.. وبهذه الحيلة يجمع الأخوة على اختيار أصغرهم، وهو ظاهر، لهذا الموقع الكبير، وبما يؤشّر لمدى ما يمتلكه من قدرات وإمكانات لتولّي دوْر الزّعامة.
لاحقًا يعترف لنجمة حياته: "تعرفين يا أمي! لم تزل ليلة القناديل تلحّ عليّ بين حين وآخر. لقد أصبَحَت بعيدة، وظلَّ قنديلي الذي انطفأ مشتعلًا! ولكن منذ ذلك اليوم أحسُّه يخبو أكثر فأكثر، كلّما رأيتُ قنديلًا أحبُّه يُطفأ، لقد انطفأ قنديل أبي ليكون لي قنديل".
***
إبراهيم نصرالله في هذه الملحمة الروائيّة لا يعيد كتابة التاريخ الفلسطيني حسب، بل هو يعيد صياغة وإحياء الروح الفلسطينيّة على قِيَم العدالة والحق والمساواة والوفاء، وعشق الأرض/ الوطن، في زمن الخيانات والردّة ونكوص الرجال والقيم، وتآمر الأخوة والأبناء، وأعز الأصدقاء.. وبما يؤكد الحكمة المتكرّرة: "الهزائم لا يصنعها الأعداء، بل أهل الدار والأصدقاء".
في "قناديل ملك الجليل" تتجلّى الروح المبدعة لكاتبها، كما يتجلّى مشروعه الروائي والإبداعي باتِّجاه هدف واحد: فلسطين، التي تبقى في قلب كل كتاباته، على الرغم من الهزائم والمساومات والخيانات، وعلى الرغم من المنافي على امتداد العالم.. ذلك أنَّ ثمَّة أبطال يتوالدون من قلب الضرورة التاريخيّة، من ظاهر العمر، الذي صنع وطنًا، إلى آخر بطلات وأبطال فلسطين الذين يصنعون كل يوم وطننا الآتي.. ذلك أنَّ "القنديل الذي سترى في ضوئه العالم عليكَ أنْ تشعله بنفسك".. فقنديل الحياة يريد زيتًا يريد "شعبًا كاملًا من الأبطال، لا شعبًا من الخائفين".
كما تجلّى في سيرة حياته روح العلمانية المتسامحة: "أنا لا يعنيني ما تؤمن به! يعنيني ما الذي تفعله بهذا الإيمان"؛ هكذا كان يتحدّث الظاهر.
في الملاحم التاريخيّة يكون الأبطال هم المحور، وهكذا كان ظاهر العُمَر أوّل ملك لفلسطين وما حولها معلِّمًا ملوك كل الأزمنة معاني الحرية والكرامة والعدل والأمان.. وتلك هي (القناديل).. فقد "أقسمنا بأن لا يكون للظلم مكان حيث نصل، ولا يكون للذلّ مكان حيث تكون جباهنا، ولا للخوف مكان حيث تبقى قلوبنا، ولا لإهانة كرامة الناس مكان حيث تكون أيدينا وسيوفنا وإرادتنا. لنعُد أحرار إلى بيوتنا كما جئنا، لنترك وراءنا هذا السهل وقد غمرناه بالعدل والأمان".
تلك هي منظومة القيم التي توحي بها ثيمة العنوان، وتحمل القناديل رمزيّتها التي يمثِّلها ملك الجليل. وهذا هو مشروع ظاهر العمر الحقيقي الذي تجلّى، إلى جانب هذه القيم، بوحدة أبناء المجتمع، على تعدُّد المذاهب والأصول.. فكان أنْ اجتمعَت في مملكته مختلف الطوائف والملل من مسلمين ومسيحيّين ويهود ومتاولة وموارنة، وكان يقول: "إذا سمعتُ عن رجل في آخر الأرض، (ومهما كان مذهبه)، يُقال لي إنَّ لديه العلم والخبرة والأمانة لخدمة الناس، فسأسير إليه على قدمي".. وكل ذلك يؤشِّر، إلى المشروع الوطني الحقيقي للثورة الفلسطينيّة المعاصرة، قبل زمن الردّة، وهو بناء الدولة الديمقراطيّة على كامل أرض فلسطين.
ولكن! هل شخصيّة ظاهر العمر الروائيّة هي ذاتها الشخصيّة الحقيقيّة لملك الجليل؟
يعترف إبراهيم نصرالله: "لا يستند هذا العمل إلى دقة المعلومة تمامًا، رغم إخلاصه لها، بل يستند أكثر إلى قوّة الحقيقة وقوّة الخيال في اتحادهما بجوهر الأحداث وجوهر الشخصيّات".
وعن هذه المسافة بين الحقيقي والمتخيَّل يكلّف أ.د.عادل الأسطى أحد طلّابه لتكون أطروحته للماجستير هي "البحث عن الحقيقي والمتخيَّل في شخصيّة ظاهر العمر، كما جاءت في رواية "قناديل ملك الجليل" لإبراهيم نصرالله"(4). غير أنَّ شخصيّة الظاهر التاريخيّة نفسها تكاد تكون، على الرغم من أهميّتها الكبيرة، شبه مجهولة في الوجدان العام وحتى لدى قطاع واسع من المتعلمين، بل وحتى المثقفين الفلسطينيين، فيما يعرفون الكثير عن محمد علي باشا، بل وحتى عن الأمير فخرالدين المعني، وبالتالي يسجَّل لنصرالله أن تنهض روايته بهذا الدَّوْر المعرفي الملهم لظاهر العمر، ليس كمؤسِّس لدولة فلسطين على قِيَم العدالة والحريّة حسب، بل كمعلّم في حقول الاقتصاد والاجتماع والسياسة المحليّة والعالميّة، كما في بناء الجيوش، وفي حقول التربية وحيوات الناس اليوميّة، بل وحتى في بناء أجهزة الأمن الوطني، كمرتكزات للدولة الحديثة.
تلك هي رحلة الظاهر نحو أكبر هدف يمكن أن يحلم به رجل في تلك الأيام: تحرير الأرض وانتزاع الاستقلال وإقامة دولة فلسطين العربيّة، متحدِّيًا بذلك السلطنة العثمانيّة أكبر دولة في العالم في ذلك الزمان. إنَّها كما يقول د.زياد الزعبي: سيرة ملحميّة أو رواية ثورة، فهي "تحرِّض وتدعو إلى الثورة على الظلم والبحث عن الحرية والعدالة.. رواية ستأخذ القارئ إلى أرض قريبة وزمن بعيد، إلى فلسطين، إلى شخصيّة تجاوز حضورها التاريخي لتحلّ عبْر الفن الروائي في الأسطورة التي تنبثق من كهوف القسوة والظلم والوحشيّة والعبوديّة لترسم ملامح لأرض ينعم ناسها ببعض الأمن والإنسانيّة والحريّة"(5).
في "قناديل ملك الجليل" لن تفارق قارئ الرواية "نجمة" مربِّية ومعلِّمة ظاهر ورفيقة عمره، والممتدَّة عبْر الزمان، رمزًا للأرض الفلسطينيّة ولروح الحياة فيها.. ذلك أنَّ "نجمة تدرك ما لا تدركه الأبصار" فهي التي تأمَّلت الكرمل، وقالت: "جبل كهذا يستحق أن يحلف الناس برأسه"، وأمام "نجمة" كان الملك الظاهر يستطيع حتى أن يعترف بخوفه: "لو كنتُ جبانًا لما تجرَّأت على ذلك".
ونجمة هذه، كما يقول د.عادل الأسطى: "تذكِّر قارئ الرواية العربيّة بنجمة الروائي الجزائري "كاتب ياسين"، كما تكاد تذكِّرنا أيضًا بـ"أم سعد"، في رواية غسان كنفاني"(6).
بعد خيانة القادة تقع المقتلة المرعبة لملك الجليل وجنده، على يد جيش كبير للسلطنة العثمانيّة بقيادة والي مصر. ولكن يكون أن تبقى نجمة وحدها على قيد حياة مشروعهما، هي والظاهر، متَّصلة بـالمستقبل مع "زمن الخيول البيضاء" رمزًا ومعلّما للأجيال التي تأتي.. ففي "الهادية"، القرية التي بدأت فيها أحداث "زمن الخيول.." تستقرّ نجمة وتواصل حياتها جسرًا باتِّجاه المستقبل، ليؤرّخ في هذه الرواية للتاريخ اللاحق للشعب الفلسطيني، حيث يتواصل زمن القناديل مع زمن الخيول الأصيلة، والرجال المقاومين للأغراب المغتصبين.. فيكون أن يتناسخ الأبطال، كما الخونة، ليبقى الصراع كما الأمل مفتوحًا باتِّجاه المسقبل.
وتأتي رواية "زمن الخيول.." في ثلاث حكايات: "الريح" في زمن المستعمر العثماني، و"التراب" في زمن الاستعمار الإنجليزي، و"البشر" في زمن الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، حيث تنتهي هذه الملحمة الروائيّة بعبارة: "كانت ألسنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع، فيما كان أهل الهادية يشاهدونها للمرّة الأخيرة"(7). أو هكذا بدا الأمر!
* الهوامش
1. انظر: الملحمة في الإنسكلوبيديا الإنسانية. وانظر كذلك: صلاح السروي، بعض قضايا الرواية، الحوار المتمدن، العدد 6310، 4/8/2019.
2. إبراهيم نصرالله، قناديل ملك الجليل، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، بيروت، 2012.
3. إبراهيم نصرالله، زمن الخيول البيضاء، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 2007.
4. د.عادل الأسطى، المنتدى التنويري الثقافي الفلسطيني، 15/2/2014.
5. د.زياد الزعبي، صحيفة الغد، 21/12/2011.
6. د.عادل الأسطى، مصدر سابق.
7. د.رفقة دودين، يوتوبيا الفردوس المفقود.. قراءة في "زمن الخيول البيضاء" لإبراهيم نصرالله، صحيفة الرأي 29/2/2008.