جميلة محمَّد/ سورية
كتابٌ سحريٌّ مبهر، يفتح الأبواب لعوالم أخّاذة وآسرة، مشغولة بالخيال والرؤى والتصوّرات، مليئة بالصور والوقائع والمغامرات، ومتنوّعة بالحوادث والأمكنة والشخصيات.. إنه "ألف ليلة وليلة"، مجموعة من الحكايات الشعبيّة الرحلاتيّة، التي تتضمّن جزءًا واقعيًّا وأجزاء خياليّة، تتداخل لغتها بين الفصحى والعاميّة، ويتخلّلها شعرٌ مصنوع. يقع الكتاب في مئتين وأربع وستين حكاية قسمِّت -في سردها- على ألف ليلة وليلة، ويعدّ من أهمّ الأعمال أو الإنجازات الأدبيّة في التاريخ الإنساني، نظرًا لتأثيره الكبير في البنية المعرفيّة والقيميّة على مرّ الأجيال، واحتفاظه بسحره وألقه ورواجه بين الناس عبر العصور.
تعدُّ حكايات ألف ليلة وليلة من أهم المصادر في تحقيق أغراض المعرفة والاطلاع، ودراسة عادات وتقاليد الشرق عمومًا، وتزخر بكمٍّ هائل من المعارف والقيم الإنسانيّة. وقد عبّر ناقد فرنسي عن أهمية هذا الكتاب بقوله إنه: "سوف يظلُّ من خلال سحره، الكتاب الوحيد فى الأدب العالمي -دون شك- الذي نرغب عندما ننتهي من قراءة صفحته الأخيرة أن نبدأ فيه من جديد، والذي يتميّز بأنه أفضل نصّ يبلّغ رسالة، دون أن يبدو عليه على الإطلاق أنه يريد ذلك".
يعتمد ملخّص الكتاب حول رواية شهرزاد، ابنة وزير الملك شهريار؛ جزءًا من حكايةٍ في كلّ ليلة، تتعمّد فيها أن تتوقّف عند مقطع مشوّق لتكمله في الليلة التالية، وهكذا تُبقي على اهتمام شهريار طوال ألف ليلة وليلة، حتى يحررّها في الليلة الأولى بعد الألف. من أشهر حكاياته: "علاء الدين والمصباح السحري"، وحكاية "علي بابا والأربعين حرامي"، ورحلات "السندباد البحري"، والتي أصبحت شخصيّاتها أبطالًا تتداول أسماؤهم في معظم بلدان العالم.
• أصوله وجذوره
اختلفت الآراء حول جذور الكتاب وبيئاته التاريخيّة، والعلاقة بين حكاياته وبين الثقافة التي ظهرت فيها، وبحث المستشرقون والباحثون والنقّاد على حدّ سواء في أصوله، وأشاروا في دراسات عدّة إلى أنها قد تعود إلى مصادر هنديّة، أو فارسيّة، أو عربيّة قديمة. ويرجّح كثيرون أنَّ الحكايات مترجمة عن أصل فارسي، (هزار أفسانه) أو (الألف خرافة)، وأنها كانت روايات مشافهة متناثرة، أو مخطوطات مودعة في خزائن الكتب. كما اختلفوا حول أزمنة تأليفه، ولم يتمكّنوا –أيضًا- من وضع حقبة تاريخيّة معيّنة لذلك، ويرجَّح بأنه ألف على مراحل، أضيفت إليه بعض القصص، وجرت على غيرها عمليات التحوير والحذف والإضافة. كما وتعدّدت الآراء حول إنْ كان المؤلف واحدًا، أو أنَّ العمل مشترك.
تقول الباحثة "حياة عثمان أحمد" عن أصول وتاريخ الحكايات(1): "اجتهد كثير من الباحثين العرب والمستشرقين محاولين التعرّف على كاتب "الليالي" التي فاقت الواحدة بعد الألف 1001 كما يحوي ذلك العنوان، إلا أنَّ المستشرقين ذهبوا بعيدًا بأنَّ "كاتب" الليالي قد يكون من بلاد فارس أو الهند، وعندهم في ذلك ما يؤيِّد زعمهم". بينما يذهب بعض الباحثين العرب إلى أنَّ هويّة "الليالي" هي هويّة عربيّة، كما هي الحال عند الباحث العراقي "هادي حسن حمودي" في دراسة بعنوان "الف ليلة وليلة تستردّ مؤلفها وعمرها وبيئتها" فيقول(2): "إنَّ مؤلف الليالي واحد، وهو محمد بن سكّرة الهاشمي، البغدادي، وإنّ الليالي اكتسبت شخصيّتها البغدادية المستقلّة، وهذا يعني أنها ليست متعدّدة المولفين، وليست متعددة الأوطان والأقوام".
تشير الدراسات إلى أنّ الترجمة الأولى لهذه الحكايات إلى التراث الغربي عن العربيّة كانت على يد المستشرق الفرنسي "أنطوان جالان" عام 1704 بباريس، فكان بذلك أوّل مَن لفت نظر الغربيين إليها، وعرّفهم بها في وقت لم تكن أوروبا تعرفها من قبل، ولتصبح بعده مقصد المترجمين إلى باقي اللغات. أمّا الترجمتان المميّزتان باللغة الانكليزية هما: ترجمة "إدوارد وليام لاين" عام 1840، وترجمة "السير ريتشارد بورتون" عام 1885 ليمتدّ تأثيره إلى المجتمع الأوروبى وفلسفته. وعن طبعات الكتاب ترى الباحثة "سهير القلماوي" أنَّ أهمّ طبعة لهذا الكتاب، هي طبعة "بولاق" التي طبعت في مصر، واعتمدت على نسخة هنديّة أصلها مصري، طُبعت في كلكتا سنة 1833، ومن هذه الطبعة خرجت معظم الطبعات المتعددة(3).
• تأثيره على الآداب والفنون
استمدّت الآداب والفنون العالميّة والعربية من "ألف ليلة وليلة" الكثير، إمّا اقتباسًا ونقلًا أو توظيفًا واستلهامًا، وظلّت حكاياته وأجواؤه مصدرًا لوحي الكثير من الكتّاب والأدباء والمبدعين، يخصّب خيالهم ويثري موضوعاتهم وأفكارهم. كما تحوّلت "الليالي" إلى مركز إلهامٍ لإبداعات الفنانين والرسامين والموسيقيين، فاقتبس منها "بوكاشيو" (الأيام العشرة)، و"شوسر" (قصص كانتوبوري)، واقتبس منها "شكسبير" موضوع إحدى مسرحيّاته، كما أشاد بها "ماركيز"، واقتبس منها إحدى قصصه، وقال عنها "فولتير": لم أكتب "الرواية" إلا بعد قراءتي ألف ليلة وليلة أكثر من عشر مرات. ولا تزال "ألفُ ليلةٍ وليلة" حتى اليوم من أكثر المؤلفات الأدبيّة جدلًا وتداولًا لدى الاتجاهات النقديّة المختلفة وأكثرها إشباعًا للدراسة والتحليل. يقول الباحث محفوظ داود سلمان(4): "نتيجة لتأثير كتاب ألف ليلة وليلة فقد انتشرت كتب الرحلات منها رحلات ماركو بولو، وهي الكتب التي أصبحت في ما بعد مصادر تدرس عادات الشعوب وأمثالهم، وقصصهم وتعدّى هذا التأثير إلى الأدب نفسه، حيث انتشرت مؤثرات شرقيّة في الأدب الغربي".
• استلهام ألف ليلة وليلة في قصص الأطفال
ليس بخافٍ العلاقة المتينة التي ربطت بين التراث كمصطلح، وبين أدب الأطفال كفرع أدبي حديث نسبيًّا، بل ظهرت بقوّة عند جميع الشعوب والأمم. كما لم يعُد خافيًا طواعية القصة –خصوصًا- وقابليّتها للتوظيف. و"ألف ليلة وليلة" ككتاب مرموق بين الكتب التراثيّة العالميّة، ذو مكانة كبيرة في هذا المجال، فإنه يعدّ من أهم المصادر التي أثْرَت مسيرة أدب الأطفال، ومنهلًا للكثير من روّاد مؤلّفي قصص الأطفال في العالم وما يزال.. فاستفادوا منه كثيرًا، واقتبسوا منه الكثير من القصص والحكايات، سواءً من خلال مواقف أو حوادث أو شخصيّات متضمّنة، وذلك لاحتوائه على بعض المواد التي قد تصلح للصغار. وقد كان "الكتاب" مصدرًا لاستلهام مجموعة رائعة من الأعمال الأدبيّة التي راجت بين الأطفال عبر مراحل تطوُّر أدب الأطفال، وكان لترجمة حكاياته أثرٌ كبيرٌ في تطوّره عمومًا. يقول الباحث د.العيد جلولي(5): "يُعدُّ هذا الكتاب من أهم المصادر التراثيّة التي أثّرت في أدب الأطفال في كثير من بلدان العالم، فقد انطلقت منه آثار فنيّة خالدة". وقد أقبل الكثير من الكتّاب في بلدان العالم على توظيف قصص الكتاب وحكاياته في أعمالهم الموجَّهة للأطفال، واستثمروه لتطوير أساليبهم وأدواتهم الإبداعيّة في الكتابة لهم، وفي تزويدهم بمصادر إلهام جديدة ومبدعة، وتأتي حكايات السندباد في طليعة الحكايات المستلهمة.
ولعلَّ من أكثر الأدباء العرب استلهامًا للكتاب هو "كامل الكيلاني" الذي يعدُّ رائدًا في هذا المجال، فكانت أولى قصصه للأطفال بعنوان "السندباد البحري" عام 1927. كما استلهم منه مجموعة كبيرة وخالدة من أعماله. ومن الكتّاب العرب الذين استلهموا من هذا التراث الأدبي الضخم الكاتب عبد التواب يوسف، والشاعر سليمان عيسى وغيرهما. ويمكن القول إنَّ من النادر وجود كاتب عربي لم يستثمر الكتاب لصالح الأطفال، نظرًا لامتياز الكتاب بالفائدة والمتعة، وقدرته على تنمية تفكير الأطفال واستثارة خيالهم، وامتيازه بالأجواء المشبعة بالتنوُّع والدهشة والعبرة والحكمة، ومقدرته على إشاعة روح المغامرة والفكاهة والمرح.
وعن أهميّة "ألف ليلة وليلة" وتأثيره على الآداب العالميّة عمومًا، والأدب الموجّه للأطفال بشكل خاص، يقول د.هادي نعمان الهيتي(6): "انتفع الأوائل الذين يعدُّون بين الذين وضعوا اللبنات الأولى لأدب الأطفال في الغرب من الحكايات الشرقيّة عمومًا والعربيّة خصوصًا.. فكانت لترجمة ألف ليلة وليلة إلى اللغات الأوروبيّة تأثيرٌ كبيرٌ في نشأة الحكاية التي كانت أمًّا لأدب الأطفال اليوم". ويتابع الكاتب قوله: "من بين الحكايات التي وضعت للأطفال استنادًا إلى التراث، حكايات من ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، وقصص طريفة عن جحا وأشعب، إضافة إلى عدد من الحكايات من التراث الشعبي الشفاهي"، إلا أنَّ أهميّة الكتاب لا تمنع توخّي الحذر، والحذر الشديد أثناء انتقاء المادة أو الحكاية منه والعمل عليها، بحيث تتناسب مع مستويات الأطفال، وتحقّق فيهم غاياتها التربويّة والترفيهيّة المطلوبة.
الهوامش والمراجع:
1) د.حياة عثمان أحمد، "ألف ليلة وليلة.. سحر يتجاوز الزمان والمكان"، موقع الأنطولوجيا، نشر بتاريخ 22-6-2017.
2) ديوان العرب، موقع إلكتروني للثقافة والفكر والأدب، عن مقال (ألفُ ليلةٍ وليلةٍ) الكاتب محمود سعيد، 25-1-2011.
3) د.رافع يحيى، "ألف ليلة وليلة"، موقع الأنطولوجيا، نشر بتاريخ 2-6-2017.
4) محفوظ داود سلمان، "ألف ليلة وليلة.. جذور وسحر وأساطير"، موقع نبراس- باب ذاكرة الثقافة، 26-4-2014.
5) د. العيد جلولي، "استلهام التراث العربي في القصص الموجَّه للأطفال في الجزائر"، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتّاب العرب بدمشق، ع400، آب 2004.
6) انظر: د.هادي نعمان الهيتي، سلسة عالم المعرفة، الكويت، 1988.