د. عبدالحميد حمام
باحث وأكاديمي أردني
abdel_hamid_h@hotmail.com
لا يرتقي الفنُّ بِلَوْكِ الماضي وتقليده، بل بانبعاثِ أساليبَ جديدة تُمثِّل الأذواق الحديثة، مع الانتباه لعدم السقوط في الإسفاف أو الابتعاد عن الأصالة؛ ولا يأتي الإبداعُ بالتَّقليدِ لأساليبَ أُخرى عربيّة أو غربيّة. وفي هذه الأيام نلحظُ تراجُعًا في الفعاليّات الموسيقية وفي دعمها؛ ممّا أدّى إلى تلاشي أوركسترا المعهد الوطني، والتَّغاضي عن مشروع بناء دار الأُوبرا الأردنيّة.
لَقَدْ كانَ الغناءُ قبل قدوم الأمير عبدالله بن الحسين الملك المؤسِّس لا يتعدّى المُتوارَث عن الأجداد، تناقَلَه السكان من جيل إلى جيل؛ ففي الأوساط البدويّة تغنّى الناس بالهجيني الذي يعود في أصلِهِ إلى الحُداء القديم الذي كانت العربُ تغنّيهِ لحثِّ الإبل على سرعة السير والترفيه عن أفراد القافلة، أو لتجميع الإبل إذا تفرَّقت باحثة عن الكلأ في البوادي والصحارى. وفي أفراحهم يتغنّون بالسامر أو القصيد الذي نُعيدُهُ إلى غناء التَّهليل القديم الذي مارَستْهُ العرب في الطواف حول الكعبة في مراسم الحجّ؛ ويُغنّون الفارِدَة عندما يُهدون العروس لزوجها، تشبيهًا لِما كانت العربُ قديمًا تغنّيه في تلبيات الحج القديمة؛ كما يُنشد الأردنيّون أهازيج الحرب والغزو، وأهازيج الأفراح في العرس والخِتان، ويُردِّدون المعيد في أحزانِهم. لقد كان غناؤهم غناءَ مناسباتهم وفعاليّاتهم المتنوِّعة.
من المؤكّد أنّه تمّ تطوُّرٌ ملحوظٌ في الغناء الأردني، ويُمكن للمُراقب النَّبيهِ أن يتعرَّفَ على المراحلِ المُتوالية التي تحوَّل الغناءُ فيها كنتيجة أحداثٍ وعوامل سياسية أو ثقافية أو علمية. ولسوف نلحظ بأنَّ هذه المراحل تزامنت مع فترات حُكم ملوك الأردن المتعاقبين.
• المرحلة الأولى
تزامنت هذه المرحلةُ مع فترة الملك المؤسّس عبدالله بن الحسين الأوّل. في بداية هذه المرحلة نشير إلى عامِلين أثّرا في التطوُّر والارتقاء، أولُهما كان الاعتمادُ على مغنّينَ من الوَسط المحلّي مِمَّنْ امتازوا بالموهبة الطبيعيّة من سكان شرق الأردن، وكان أوَّلُهم توفيق النِّمري الذي سعى لتطوير موهبته بِأن تعلّم العزف على العود، وأخذ قسطًا من العلوم والكتابة الموسيقية؛ واستطاع بفضلِ طُموحه ومُثابرته أن يقدِّم بعضَ أغانيه في إذاعة القدس قبل النكبة، عندما كان الإرسال مباشرة على الهواء. وممّا يجدُرُ ذكرَه أنَّ النمري اغتَنَمَ زيارة الملك المؤسِّس للقدس بعد إنشاء المملكة بأنْ غنّى إحدى الأغاني البدويّة في حضرته، فعزّز الملكُ مكانة النمري لذلك.
بعد اتحاد الضفّة الشرقية مع الغربية لنهر الأردن، وذلك بعد نكبة فلسطين، أصبح هناك تمازج في الغناء وأصبحت الضفة الغربية جزءًا من المملكة الحديثة، وأصبح تراثُها أيضًا من تراث المملكة. توطّد تمازجُ الإرث الغنائي للفلسطينيين -مقيمين منهم أم مهاجرين- مع إرث سكان الضفة الشرقية، مثلما تمازج الجميع بالمصاهرة والثقافة والآمال والطموحات.
نودُّ الإشارة أيضًا إلى مُكوِّن مهمّ في تلك المرحلة لسكان الأردن وهم الشركس والشيشان اللذين كان لهم تأثيرٌ بَيِّنٌ في تلك المرحلة. ولكن تراثهم الغنائي المُتميِّز لم يتخطَّ مجتمعاتهم القومية، إذْ أنَّ هذا التراث على الرّغم من جماله إلاّ أنه كان بعيدًا عن ذوق الأغلبيّة من السكان. ومثل هذا يُمكن قولَه عن الغناء الكَنَسي الأردني الفلسطيني الذي لم يتعدَّ الأديرة والكنائس في الضفتين.
• المرحلة الثانية
عندما اعتلى الملكُ الشاب الحسين بن طلال العرش -إذْ نودِيَ به ملكًا عام 1952 ثم استلم سلطاته الدستورية عام 1953- سعى إلى النُّهوض بالأردن من جميع النواحي ومن ضِمنها الموسيقى والغناء وما يسندهما من مؤسسات؛ فلقد أسّسَ دار الإذاعة الأردنيّة في عمّان ممّا ساهم بشكلٍ مباشرٍ في تعزيز الغناء الأردني ونشرِه على مدىً واسعٍ في أرجاء الوطن العربي؛ كما أسّس التلفزيون الأردني ودعَّمهُ بمحطّة الأقمار الصناعية. في هذه المرحلة نجدُ الغناء الشعبي الأردني والعربي -مثل نماذج من غناء بلاد الشام والعراق- يُبَثُّ من الأردن، حتى أنَّ بعضَ زملائي في المدرسة -حيث كنتُ أعيشُ في دمشق أيامها- عَجِبوا من مبادرة الأردن في إعادة نشر التراث الغنائي الشامي بمعناه الشامل من إذاعة عمّان قبل إذاعتهم هم. فلقد تهيَّا لدار إذاعة عمّان ثُلَّةٌ من الموهوبين بالعزف والتلحين وذوي الحلوق الطيبة من مغنين ومُغنِّيات؛ كما قُيِّضَ للنَّظم شعراء فُحول أجادوا في تحسين النُّصوص الشعبيّة لِتُصبحَ مُسْتَحبَّة من جمهور المستمع العربي أينما وُجِد.
على الرّغم من الأحداث المُحبِطَة أحيانًا التي طرأت في عهد الملك الحسين بن طلال، إلا أنَّ الصمود والإصرار على التقدُّم كان سمة ذوي العزم في تخطّي الصُّعوبات والاستمرار في بناء لبنات التقدُم في المجالات كافة؛ فلقد تأسّسَ المعهد الموسيقي كجزء من دائرة الثقافة والفنون كأوّل لبِنةٍ في صرح التعليم الموسيقي منذ عام 1966، وفي ما بعد قسم الفنون الجميلة في جامعة اليرموك عام 1982 حيث كانت الموسيقى إحدى دعائمه.
لقد تزامنت هذه الحِقبةُ مع ظهور شريط التسجيل المغناطيسي وشريط الكاسيت اللذان سهّلا عملية التسجيل وتحسين نتائجِهِ بالتحرير (Editing) من قطعٍ وتركيب (لصق)، مع تقدَّم تقنيات التسجيل وصناعة أدواته وأجهزته، عدا سهولة نشره على أوسع نطاق بأجهزة الكاسيت المحمولة وأشرطته.
ومن مغنّي ومغنّيات تلك المرحلة نذكر على سبيل المثال وليس الحصر كلًا من عبده موسى وسميرة توفيق (اللبنانية الأصل) وسلوى وإسماعيل خضر ومحمد وهيب؛ كما كانت الإذاعة والتلفزيون موئلًا لمغنّين عرب مثل وديع الصافي وسعاد هاشم وفيروز.
ما زال مغنّو تلك الفترة الأردنيون يغنون بأصواتهم الطبيعية التي صُقِلت عمليًّا بالغناء في جوقة المُردّدين، ولم تُتَح لهم فرصة التدريب والتوجيه العلمي لتحسين تقنيات الغناء والتنفُّس والقراءة الموسيقية عندهم قبلًا؛ ومع ذلك فلقد كانت النتائج مثمرةً ومعبرةً عمّا تتطلّبُه المرحلة.
لقد غنّى المغنون ما كانت وسائلُ الإعلام تُشجِّعُه من الأنماط المحليّة الشعبية وما يُماثِلُها من تلاحين، كما تُبرِزُ اللهجة المحكيّة المحليّة لفظًا وتعابيرَ وموضوعاتٍ ممّا أدّى إلى هويّة غنائية محلية. فتدعَّمَ الغناء الشعبي والغناء الوطني المتمثِّل في تمجيد الملك والوطن والقوات المسلّحة، كما عبَّرت بعضُها عن الحب والإخلاص والخِصال الحسنة وكذلك عن الشهامة والعِزّة.
منذ سبعينات القرن العشرين نشطَت في عمّان فِرق الترفيه التي تؤدّي أغانيها في المطاعم والأعراس، وتتكوَّن من مغنٍّ واحد ومجموعة صغيرة من العازفين، وتشتمل عادةً على أرغن كهربائي وآلة وتريّة قوسية (الفيولين) وعود وآلات إيقاعيّة بحسب الحاجة (طبلة، دفّ أو رقّ، جهاز إيقاع). وأتذكَّرُ من مغنّي تلك الفترة أسامة جبّور الذي كان يعمل في مطعم "السّيزار" في جبل اللويبدة(*). ولم يقتصر وجود مثل هذه الفرق على الأردنيين فقط، بل ربّما تتعاقدُ المطاعم مع مجموعات سورية أو لبنانية لإحياء أُمسياتها.
من الضروري الإحاطة بالفرق الغنائية الموسيقية الكبيرة العَدَدِ التي ظهرت في ذلك الوقت؛ فعدا فرقة الإذاعة الأردنيّة التي كانت ترافق المُغنّين، كما يُناطُ بها تسجيلُ الأغاني الجديدة؛ فلقد تأُسّسَت فرق مشابِهةٌ في بعض المدن الأردنيّة. فاشتهرت مثلًا "فرقة إربد الموسيقية" التي يعودُ الفضل بتأسيسها للدكتور محمد غوانمة، وكانت تؤدّي الغناء الشعبي الأردني وبعض الأغاني الدارِجة؛ ونهجت "فرقة الفحيص" هذا النهج أيضًا، ومِمّن ساهم في إنشائها عازف العود صخر حتّر. وفي بعض المناسبات كانت فرقةُ رقص دبكة تُنَشِّط الحفلات بتقديم الدبكة مع غناء الفرقة.
لا نَنْسى دور رابطة الموسيقيين في ثمانينات القرن الماضي في تحفيز العمل والنشاط الموسيقي، فلقد أحيت يوم الموسيقى العالمي وأسَّست "فرقة النغم العربي" ودعَّمت فرقة الفحيص في البداية. كانت هذه الرابطة مع رابطة المسرحيين نواة تأسيس نقابة الفنانين الأردنيين التي تحافظ على مصالحهم في المملكة.
• المرحلة الثالثة: فترة حكم الملك عبدالله الثاني أدامه الله وسدَّد خطاه
بعد وفاة الملك الباني الحسين بن طلال في السابع من شباط عام 1999، تُوِّجَ الملك عبدالله الثاني في اليوم نفسه. عندها اختلط الحزن بالفرح والبهجة بالأسى. ولكن الحياة لا تجمد في مكان أو زمان، إذ لم يتوانَ الملك عبدالله الثاني في إظهار دعمهِ وتشجيعه للحركة الفنيّة والموسيقية، فلقد بادر إلى دعم الحركة الموسيقية بإطلاق مهرجان الأغنية الأردنيّة وجائزة الملك عبدالله الثاني التي تبرَّع بها شخصيًا عام 2001، كما تكوَّنت اللجنة الوطنية العليا لمهرجان الأغنية الأردنيّة وعلى رأسها جلالة الملكة رانية العبدالله، التي لم تألُ جهدًا في سبيل إنجاح المهرجان وتثبيت دعائمه.
في هذه المرحلة نمت الحركة الموسيقية من خلال نهضة موسيقية أكاديمبة كان على رأسها كاتب هذا المقال الذي استلم منصب مدير المعهد الموسيقي ومعهد الفنون الجميلة في سبعينات القرن الماضي، وساهم في تأسيس دائرة الفنون الجميلة في جامعة اليرموك إلى أن أصبحت كليَّةً في العام 2001 واستلم عمادتها في العام نفسه؛ والمرحوم يوسف خاشو الذي عمل على تأسيس الأكاديمية الأردنيّة الموسيقية، ومن ثمَّ سموُّ الأميرة وجدان الهاشمي التي عملت على تأسيس كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنيّة، كما تأسس المعهد الوطني للموسيقى بدعم من جلالة الملكة نور الحسين المعظّمة. لقد كان لهذه المؤسسات العلمية كبير الفضل على ارتقاء واتساع الحركة الموسيقية وعلى تكوين جيل متعلّم ومتمكن من الغناء الفني والعزف التقني.
المرحلة الحاليّة التي بدأت مع التطوُّر المُتسارع لِأجهزة الكمبيوتر ولشبكة الإنترنت، وما رافق ذلك من إمكانات مُذهِلة في تقنيات التسجيل الصوتي، وظهور برامج موسيقية وأدوات منها (midi, synthesizer, vibration, echo, editing, intonation remedy.). إضافة لذلك ما تيسَّر من برامج تساعد في تخفيف تكلفة التسجيل وتقليل عدد العازفين والجوقات الغنائية. مع كل ذلك ظهرت في الأردن أصواتٌ غنائية جديدة استطاعَ بعضُها الحصول على جوائز عربية في الغناء، ومنها مَن دَرَسَ الغناء في كونسرفاتوارات أجنبية وتمكَّنت من الغناء الأوبرالي.
إذا أُريدَ للغناء أن يتقدَّم فلا بُدّ للتأليف الموسيقي من الارتقاء، وتحويل الذوق العام لتقبُّل الأعمال الموسيقية الغنائية الفنيّة والعمل على نشرها ولو ابتعَدَت عن النّمطيّة الشعبيّة التقليديّة؛ ولا يرتقي الفنُّ بِلَوْكِ الماضي وتقليده، بل بانبعاث أساليب جديدة تُمثِّل الأذواق الحديثة، مع الانتباه لعدم السقوط في الإسفاف أو الابتعاد عن الأصالة؛ ولا يأتي الإبداع بالتقليد لِأساليبَ أُخرى عربية أو غربية. في هذه الأيام نلحظُ تراجُعًا في الفعاليات الموسيقيّة وفي دعمها؛ ممّا أدّى إلى تلاشي أوركسترا المعهد الوطني والتغاضي عن مشروع بناء دار الأُوبرا الأردنيّة؛ وفي هذه السنة الأكاديمية وللأسف توقّفت الأكاديمية الأردنيّة للموسيقى عن قبول فوج جديد لقُصور الدعم وقِلة الموارد.
نبقى دائمًا على أملِ الوصول إلى تحسُّن الأوضاع ولظهور غناء أردني عربي يرفع الذوق ويمثّل الثقافة المرجوة؛ والله وليُّ التوفيق.
- - - - - - - -
(*)إنَّ ذِكرَ الأسماء في هذا المقال لا يُقصّدُ به تفضيل هؤلاء الأفراد عن غيرهم بقدر ما يحقِّقُ تصوير الفترة المقصودة.