د. ربيعة بورقبة
باحثة في العلوم الإسلامية- المغرب
rabiabouraqbamr@gmail.com
لا حديث عن التقدُّم دون الحديث عن المعرفة، ولا حديث عن المعرفة دون الانتباه إلى ما بُذِلَ في القرون الماضية من اجتهادات؛ سواء اختراعات أو تنظيرات فكريّة ما تزال حيّة إلى يومنا هذا. وفي مقالنا سنحاول أن نقف عند أحد الأقلام الغربيّة ورؤيتها لمستقبل المعرفة وهو الكاتب الاسكتلندي المولد، الأميركي النشأة "هايت جلبرت".
إنَّ قوّة المعرفة هي مجموعة قوى فذَّة ولا يعدلها أو يقاس بها أيّ شيء، فما هو مستقبل المعرفة؟ وإلى أيّ غاية هي خليقة بأن تسير بالإنسان؟ يجيب "جلبرت هايت"(*) بأنه ليس للمعرفة مصير واحد، بل ثلاث غايات قد تنتهي إلى إحداها، وهي:
• الاتِّساع
المصير الأول -بحسب "هايت"- هو الذي يرجوه الكثيرون منّا، لا جميع الناس، فقد يتَّسع نطاق المعرفة وتنتشر رقعتها وتزداد قدرة العقل ويعلو شأن العمل الذي يعمله، وأكبر ما يبشِّر بأنَّنا صائرون إلى هذا المستقبل هو ازدياد المعرفة بالقراءة والكتابة في العالم. يقول "هايت": "ثمّة ثلاث نواح من مجهود البشر يحق لنا أن نتوقَّع فيها، خلال القرن المقبل، تقدُّمًا عظيمًا ينفع البشريّة نفعًا أكيدًا، وهذه النواحي هي القراءة والكتابة، واستعمال الأرض، والصحة العامة. والناحية التي يمكن أن يتم فيها أعظم التقدُّم هي حتمًا ناحية القراءة والكتابة".
لتحقيق ذلك الهدف يرى "هايت" أنَّ الرجاء معقود بأنْ يصحب ذلك ازدياد مطّرد في دوْر الكتب في جميع أنحاء الأرض، فلن تجد دار الكتب، شيئًا لا نفع فيه، وأصغر مجموعة من الكتب قد تحتوي على ذخائر لا مثيل لها، أو قد تلهم أحد العباقرة. وكل دار كتب هي إثبات لثقة الإنسان التي تحوّل فيها، بأنَّ الذكاء والفهم هما الدِّرع الواقي من التنكُّر للعقل، ومن بطش القوّة وعوادي الزمن والموت. وحياة كل بلدة أو كنيسة أو مدرسة لا تحتوي على مجموعة من الكتب، هي نصف حياة. والحق -يضيف "هايت"- أنَّ دور الكتب اليوم قد صارت ألزم ممّا كان "كارنيجي" أو غيره من المحسنين يتصوّرون، لأنه وقد طغى سيل النداءات المبلبلة الموجّهة إلى اهتمامنا العابر، كمقالات المجلّات التي تُكتب سريعًا، والصحف التي تحتوي نتفًا مبعثرة مهلهلة، وسيول الكلام التي تنصبّ من أجهزة الإذاعة ولا تنقطع، صار لا مفر من أن تكون دار الكتب مكانًا للراحة والسكينة والانصراف عن شؤون الساعة إلى التفكير.
ومن دور النشر ننتقل إلى المؤتمرات العلميّة الدوليّة، حيث يرى "هايت" أنَّهُ حتى عهد قريب، كانت قليلة ومتفرقة، وكانت الهيئات التي تدعو إليها وتشرف عليها غير راسية البنيان، وفي السنوات الباهرة الحافلة بالرجاء والسعادة، في مطلع القرن العشرين بدأت تتأسّس جمعيات عالمية للتعاون الفكري، ولكن الحرب العالمية الأولى مزّقت أوصالها. يقول "هايت": "أمّا الحرب العالمية الثانية فقد شجعت على المضي في إنشائها مرة أخرى. فمنذ سنة 1945 عقدت مؤتمرات دولية كثيرة كبيرة الفائدة، وعددها يزداد ازديادًا مطردًا كل سنة، كمثل مواسم الموسيقى، والأفلام، ومؤتمرات المؤرخين، وخبراء الطعام، وعلماء الأوراق المخطوطة. ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (أونسكو) تتوخى في طليعة الأغراض التي تتوخاها، أن تحفِّز الهمّة إلى عقد هذه المؤتمرات وتنظيمها، فالأونسكو هي خليّة جديدة في العقل العالمي". نجاح ذلك رهين بالعنصر البشري، ومن هنا كان لا بد من إنشاء جامعات، ومنح فرصة البعثات الطلابية للدراسة خارج بلدانهم، فهل هذا وغيره عزّز وسيعزز أكثر مستقبل المعرفة؟
• الانتحار
وهو بتعبير "هايت" أنْ يقدِم العقل البشري على الانتحار، يقول موضحًا: "إنَّ الكثرة الغالبة من الناس تجلّ المعرفة، ولكن ذلك لا يعني ضرورة أنهم يجبونها. وقد كان "سويفت" المتشائم يقول: إنَّ قدرة الناس على التفكير هي كمثل قدرتهم على الطيران. ولنفرض أنَّ مستوى الحياة مضى يرتفع في جميع أرجاء الأرض، كما تم له في القرن الماضي، وأنَّ عدد السكان ازداد ازديادًا مطّردًا، وأنَّ ساعات العمل قد قلّت وساعات الراحة والفراغ قد زادت، وأنَّ ما يقلق الناس قد خفّ، وأنَّ فرص المتعة قد كثرت كثرة عظيمة؛ ترى ماذا يؤثر الناس يومئذ؟ أيفضِّلون المعرفة على المسكرات؟ أيأخذون الفن والموسيقى والكتب، ويدعون الميسر وسباقات الخيل؟". هذا التساؤل هو الجدير بالإجابة، لكن أيّ إجابة في ظلّ تعدُّد الرُّؤى واختلاف التطلعات والمتعة والشهوة!
انطلاقًا من ذلك يرى "هايت" أنه من الممكن أن ينتهي الفكر البشري إلى هلاكه تحت سيل أتيّ من السخف البشري. فالأمم والحضارات التي تكشف أنه من اليسير عليها جدًا أن تنصرف إلى المتعة العابرة دون أن تلقي بالًا إلى شيء باقٍ في عالم العقول، سرعان ما تجد أنَّ عضلاتها العقليّة قد ضعفت أو استرخَت، وأنها لا تستطيع أن تفكر مطلقًا في بعض الموضوعات الصعبة، وأنها تؤْثر أن تُحِلّ بعض الانتفاضات العاطفيّة المتفرِّقة محلّ النشاط الفكري المتَّصل. يقول هايت: "وإذا هي تلغي نفسها في آخر الأمر وقد استسلمت للهمجيّة استسلامًا، أبهج في حسّها، ولكنه أكمل من استسلامها الغزوة من الهمج. ذلك بأنها تصبح كالقبائل البدائية، عاجزة عن القراءة والكتابة، وعن تنظيم الخبرة في صورة منطقيّة، وعن وضع الخطط للمستقبل أو تذكُّر عِبَر الماضي والأخذ بها".
وهناك مصير ثانٍ للمعرفة في مستقبلها، إذ قد تُخنق المعرفة، عن قصد، بيد فئة مسيطرة، أو عن غير قصد بأيدينا نحن. فقد ينحطّ الفن فيصير زينة وتسلية، وقد تحلّ الحوافز المصطنعة محلّ المجهود الروحي، وقد يهجر الناس الفكر تاركينه لفئة قليلة من "الاخصائييّن" و"الخبراء"، وقد يُتاح لكل امرئ أن يعيش معيشة متعة، ويومئذ يصبح المجتمع وكأنه أحد تلك المجتمعات الغريبة التي سبقت التاريخ المدوّن، والتي في وسعنا أن نتعرّف صورتها من بقاياها. فقد كان الناس -بحسب "هايت"- يعيشون على سواحل البحر، يلتقطون منه محاره ويأكلونه. وكان المحار كثيرًا، ولم يكن للقوم أعداء سوى الشتاء وهيجان البحر. كانوا يعيشون سنة بعد سنة، وجيلًا بعد جيل، بطونهم ملأى، وعقولهم فارغة. وهنا تطرح مسألة التأطير والتثقيف لأنه ليس من الصعب أن يكون الجميع منخرطًا في المعرفة، ومع ذلك فإنَّ النُّخبة ملزمة بملء جزء من الفراغ المعرفي بما هو ضروري ومطلوب بالضرورة.
• السيطرة على الفكر
أمّا المصير الثالث، فهو اللجوء العمد إلى القوّة للسيطرة على الفكر البشري والحدّ من نشاطه. يقول "هايت": "النقاد الذين يتناولون بالبحث فرض عقيدة من العقائد يذهبون في الأغلب إلى أنَّ كل إنسان سويّ يكره ذلك الفرض، وأنَّ تيارات الفكر الرئيسة في التاريخ تخالفه، وأنَّ فئة قليلة من الأسياد الماكرين يحاولون أن يحقِّقوه بالقوّة. وهذا لون من التخيُّل تمليه الرغبة، ولا يعدُّ تحليلًا مجرّدًا. ومهما تبلغ العقيدة التي يحاولون فرضها من التهافت، إذا نظرتَ إليها من الخارج، أو من مشارف التاريخ، ففي الوسع جعلها مقبولة عند أوساط الناس، بواسطة عوامل كثيرة تغري الناس بها وتجذبهم إليها"، ولعلَّ أهم عامل هو الإقناع والدليل بدل العنف والتعصُّب والتهديد والوعيد.
ملاحظة دقيقة توقّف عندها "هايت" وهي أنه في جميع أرجاء الأرض، نجد الكثرة من الناس يقبَلون مذهبًا أو آخر من المذاهب المنكفئة على ذاتها، فإذا ما بدا لناقد أنْ يشكّ فيها، كرهوه، وهم يفعلون ذلك، لا لأنهم يظنّونه مهلهل التفكير ضعيف المنطق، بل لأنه يأبى أن يصدِّق الوحي الذي يصدِّقونه هم، ويدنِّس طهر زعيمهم، ويتهجّم على الجماعة التي ينتمون إليها. والحل هو الطرد إنْ لم تكُن العقوبة أمرّ وأشدّ ألمًا، تحت ذريعة الهرطقة والخروج عن الجماعة أو الطائفة أو المذهب، وهذا ما يمكن أن نجده عند الجماعات المتطرِّفة؛ إذْ تذكر الأبحاث أنَّ المنخرط في الجماعة المتطرفة إذا ما أراد مغادرتها أو مناقشة بعض عقائدها يكون مصيره الهلاك.
انطلاقًا ممّا سبق نقول إنه مهما تعدَّدت دور النشر والمؤتمرات وكثرت الجامعات فلن تتقدَّم المعرفة ما لم تكُن هناك حريّة للفكر؛ فكر مجتهد، فكر ساهم في بناء حضارة عالميّة، فكر يؤمن أنَّ الاختلاف رحمة لا نقمة، إذّاك سيكون مستقبل المعرفة مستقبلًا مزدهرًا. وهذا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتعاون الجميع مؤسسات رسميّة وغير رسميّة، إذْ لا مكان للتطوُّر في ظلِّ حضور الجهل والجمود الرافض لكل اجتهاد.
- - - - - - - -
(*)الأفكار التي تمت مناقشتها للمفكر جلبرت هايت في هذا المقال جاءت باعتماد كتابه "جبروت العقل"، ترجمة فؤاد صروف، المركز القومي للترجمة، طبعة 2015.