د. هدى ميموني
باحثة وناقدة مغربيّة
birnjoud@hotmail.fr
تتحقَّق السينما المغربيّة من خلال دورات إنتاجها وما يصاحبها من خطابات رسميّة أو على الهامش، كمـا تتحقَّق بفعل إشعاعها وتواجدها وطنيًّا من خلال خارطـة
التظاهرات والمهرجانات والملتقيات السينمائيّة بحلْوِهـا ومرِّها. وفي هذا الموضوع محاولة لتشخيص ومعرفة المعوقات الذاتيّة التي قد تراهن عليها السينما المغربيّة.
صحيح أنَّ السينما المغربيّة -ولو اختلفنا حول معرفة سنة انطلاقتها الحقيقية استنادًا إلى معايير تاريخيّة أو جغرافيّة- لا يمكن أن تمحى بسهولة من خارطـة السينـما المتوسطيّة أو العربية أو الإفريقية على الأقل. وحتى لا تكون لدينا أوهام كثيرة وكي نتحلّى بشئ من الواقعية، ينبغي الإشارة إلى أنَّ مناهج التقييم تتباين بين الخطابات التبجيلية التي لا تراعى من أمور السينما سوى الأرقام والكم، وبالمقابل هناك المناهج التحليلية المتصفة بالنقد والنقد الذاتي.
إنَّ دراسة متن سينمائي معيَّن، على الرّغم من تنوُّع ثيماته وتوجُّهاته، تطرح مجموعة من التحديات الأدواتيّة والمفاهيميّة أهمّها:
- مدى مصداقية هذا المتن في تمثيل حقبة تاريخية معيّنة.
- منهجية البحث؛ حيث يُجبر الباحث إمّا على التركيز على منهجيّة معيَّنة دون سواها، وإمّا على خلق نوع من التوفيق في بسط قضايا الفيلم المغربي تحديدًا من خلال حساسيات ومرجعيات متعددة، تجمع حينًا بين ما هو سوسيولوجي في تقريب السلوكيات وأنماط العيش لدى الفئة التي تمثلها الأفلام من خلال العمران والموضة ووسائل النقل وغيرها، ثم ما هو سيكولوجى على اعتبار أنَّ الفيلم عمومًا ينقل أطيافًا متعددة من التمثلات الاجتماعية والنفسية التي تتكشّف من خلال أفعال الشخصيات وأقوالها وشكلها وطموحها.
- قد تدفعنا هذه الرغبة لاستقراء الفيلم كورقة توثق لمجمل الانشغالات التي حملها الفيلم؛ سواء لأفراد أو لجماعات انطبعت بالتحوُّلات الفكرية والثقافية التي شهدتها تلك الحقبة من خلال مجموعة من القواعد الفنيّة والإخراجيّة التي كانت سائدة وقتئذ.
- ضرورة تمثُّل المرحلة للاندماج في شكل الفيلم ومضمونه على الرغم من التباعد الزمنى وتأثُّر ذوق المشاهد بركام معرفي وجمالى قد يعمِّق من المسافة النقدية الضرورة في إدراك الفيلم.
ويمكن القول إنَّ السينما المغربيّة انطلقت مع فيلم "الابن العاق"(1958) لمحمد عصفور بمشهد "كافكاوى" فيه الكثير من العنف والعنف المضاد نتيجة العقوق بسبب الإهمال التربوي، والرغبة في الحصول على المال لتصبح النتيجة، كما جاء في الفيلم، نهج طريق الانحراف وارتكاب الجرائم. وعلى الرغم من قِدَم هذا الأسلوب ومباشرته، فقد كان هو النموذج السائد آنئذ المعتمد لثيمة الفيلم. وتعدُّ تلك البداية لمحمد عصفور انطلاقة بطولية لرجل حمل حلم أمة في مرحلة ما بعد الاستقلال. وسيشهد التاريخ بعبقرية الإنسان المغربي وبمدى عناده في الوصول إلى ما يريد عندما يكون الدافع هو التمسك بعالمه، وإذا كان "شارلي شابلن" قد قام بالتأليف والإخراج وكتابة الموسيقى والتمثيل، فيحق لنا أن نقول إنَّ المغرب استطاع أن ينجب مثل هاته الشخصيات على الرغم من فارق الجغرافيا والثقافة.
تناولت السينما في تلك المرحلة التاريخية مجتمعًا بات مصيره بين يديه مع الاستقلال عن الاستعمار، وهو انعكاس لما شهده البلد مع بروز بوادر تأسيس القواعد الاجتماعية والثقافية والسياسية. واستمر البحث عن الذات وعن صورة جامعة فيها نوع من التقليد للفرنسي وتحذوها أيضًا تلك الرغبة للبقاء والإبقاء على روح مقاومة لثقافة الآخر، مع الرجوع إلى الفكر الأخلاقي ومرجعياته. لكن هذا الصراع خرج من الذوات ليتحول إلى صراع بين أنماط عيش مختلفة أي بين القرية والمدينة.
• خصوبة الإبداع السينمائي
أقيم أول معمل للأفلام (سينيفان) في الدار البيضاء عام 1939، وافتتح استوديو ومعمل سويسري في الرباط عام 1944 وهو ملكية خاصة، وفي العام نفسه تم تأسيس مبنى إداري للخدمات السينمائية بوزارة الإعلام، كما أُسس المركز السينمائي المغربي لإنتاج أفلام تسجيلية إعلامية (خاصة الأفلام ذات الطبيعة السياحية)، وأنتج بداية من عام 1953 الجريدة السينمائية للدولة بالتعاون مع شركة إنتاج فرنسية، وخلال سنوات ما بعد الحرب تم تصوير عدد من الأفلام العالمية المهمّة بالمغرب، مثل فيلم "الباب السابع" لـ"أندريه زفوبودا"، وفيلم "زواج الصحراء" وكلاهما في عام 1948، وفيلم "عطيل" لـ"أورسون ويلز" (1949)، وفيلم "علي بابا والأربعين حرامي" لـ"جاك بيكر" (1954)، ثم فيلم "الرجل الذي عرف أكثر من اللازم" لـ"ألفريد هتشكوك" (1955).
لكنَّ الأفلام التي تم إخراجها من قبل المغاربة أنفسهم تأخرت في الظهور، ولم يستفد صنّاع السينما المغاربة الاستفادة الكاملة من هذه البنية التحتية الموجودة لديهم من دور العرض، حيث استمرت الأفلام الأجنبية المستوردة في هيمنتها على هذه الدور. وبالطريقة نفسها أبدى موزعو الأفلام المغاربة ميلًا أكثر للمساهمة في تمويل الأفلام الأجنبية التي تعبِّر عنهم مثل "علي بابا "، و"المغرب7"، و"ماري شانتال ضد د.خا"، و"قداس للعميل" و"مهمة في الدار البيضاء"، أكثر من مساندة الموهوبين من صانعي الفيلم المحليين، ومع أنَّ المغرب حصل على استقلاله عام 1956، إلا أنَّ اثنتي عشرة سنة مرّت قبل أن تظهر أفلام روائية أنجزها مخرجون مغاربة وأنتجها المركز السينمائي المغربي.
علاوة على ذلك فإنّ الدولة لم تتخذ بعد الاستقلال أيّ تدابير للسيطرة على جلب وتوزيع وعرض الأفلام الأجنبية المستوردة، وتُركت الـ 250 دار عرض المغربيّة للقطاع الخاص، لذا كان من المحتَّم أن تحظى الأفلام الأجنبية بالأفضلية.
إنَّ البداية الحقيقية للسينما المغربيّة كانت في سبعينات القرن الماضي؛ وأقصد السينما المبنية على العمل الاحترافي المنظَّم على مستوى كتابة السيناريو والإخراج والتصوير والإنارة والتقاط الصوت والمونتاج والميكساج، واستعمال الفيلم خام من فئة 35ملم... إضافة إلى إخراج الفيلم من طرف سينمائي مغربي، بموضوع مغربي، موجّه إلى مشاهد مغربي. ففي مرحلة السبعينات استطاع المخرجان المغربيان عبدالله المصباحي وسهيل بن بركة أن ينجزا ثلاثة أفلام روائية، وهما يمثلان قطبين متضادين في السينما المغربيّة، فقد اتَّبع المصباحي الطريق التي فتحها التازي والمسناوي في فيلم "الحياة كفاح" وتبنّى النموذج المصري لأفلام الميلودراما الموسيقية في فيلمه الأول "الصمت، اتجاه ممنوع" (1973)، ثم قدم فيلما تجاريًّا آخر هو "غدًا لن تتبدل الأرض" (1974)، وإنتاجًا مشتركًا مع ليبيا وهو فيلم "الضوء الأخضر" (1976)، وعمل لفترة أيضًا في الاستوديوهات المصرية. وقد سلك محمد عصفور الطريق التجاريَّة نفسها التي سلكها كل من عبدالعزيز الرمضاني والعربي بناني (المخرجين التسجيليين اللذين تعاونا في فيلمهما الطويل الوحيد "عندما يثمر النخيل") فقدَّم فيلمه الروائي الوحيد "الكنز المرصود" عام 1970.
• تأجُّج صراع التحوُّلات
على النقيض، يمثل بن بركة مسارًا فكريًّا استمرَّ خلال تاريخ صناعة السينما المغربيّة كله. فقد تدرّب بن بركة في مدرسة السينما ودرس الاجتماع في روما، وعمل لمدة خمس سنوات كمساعد في إيطاليا للعديد من المخرجين منهم "بيير باولو بازوليني". وكان فيلمه الروائي الأول عام 1972 "ألف يد ويد" هجومًا على تأثير السياحة بتمويل أوروبي وحاز على إعجاب كبير، ثم أتبعه بفيلمين روائيين طموحين يظهر فيهما التأثير الأوروبي بوضوح وهما "حرب البترول لن تقع" (1974) وهو عمل سياسي على طريقة "إليو بيتري" أو "فرانسيسكو روسي"، ومعالجة لعمل (جارسيا لوركا) "عرس الدم" عام 1977.
وقد أظهرت العديد من الأفلام (كالسراب- 1979) مثلًا، كيفيّة هيمنة الأوهام على البطل السينمائى، فهو كي يحسِّن من مستواه المعيشي يحلم تارة بوجود كنز وتارة بربح رهان (القنفودي- 1978) وتارة أخرى بالعثور مصادفة على مال في كيس أو داخل أحشاء حيوان مائي (حكايات مغربيّة- 1993).
وتستمرّ السينما في رصد التحولات السلوكية بسينما الأفكار الملتزمة بقضايا الإنسان للكشف عن معاناة الطبقات المقهورة من عمال وفلاحين مع سهيل بنبركة "غدًا لن تتبدل الأرض"، و"عرس الدم" الذي حاول الانتقام للحب والدعوة للحرية في اختيار الزوجة ولو كان ذلك من طبقة مختلفة. هذا الرصد السينمائي كشف أيضًا عن تشعُّبات المجتمع المغربي حيث برزت البورجوازية ومعها مشاكلها ورؤيتها للواقع، فاقتربت السينما من ثيمات متعددة كتعدد الزوجات (البحث عن زوج امرأتي، والبكارة في بيت أبي) واغتصاب الخادمات أو تعنيف النساء عمومًا.
فى العام 1980 تغيَّر الموقف بشدة عندما قدَّمت الحكومة نظامًا لدعم الإنتاج، مما أثر بصورة عظيمة على تشجيع النشاط الإنتاجي بالمغرب. وقد شهدت الثمانينات طفرة في الإنتاج السينمائي بإنتاج حوالي 50 فيلمًا روائيًّا نصفها لمخرجين جدد. وقد تم تعديل هذا النظام عام 1988 لتقديم التمويل بصورة واسعة على أساس السيناريوهات المقدمة من المخرجين.
ومع نهاية الثمانينات نلمس نتيجة التحولات الطبقية والاجتماعية التي انتقلت من النمط القروي إلى النمط الحداثي وإفرازاته المرضيّة، حيث تظهر فئات من المعوزين والشباب الفاشلين في مسايرة التحولات الاقتصادية والثقافية، التي تصبح مضطرة للبحث عن لقمة عيش بشكل فردي أو من خلال عصابات.
وقد شهدت بداية التسعينات استمرارًا لفيضان الإنتاج، حيث استمر العديد من المخرجين الراسخين في تقديم أعمالهم في العقد الجديد بفاصل زمني طويل غالبًا يفصل بين كل الأفلام.
• ضرورة خلق أفق تشاركي
ويذهب الخيال بالسينمائيين المغاربة نحو أوروبا أو أميركا. كما يأتي من هناك سينمائيون مغاربة باتوا ينظرون إلى القضايا المغربيّة بنوع من المسافة المطعمة بالنقد المزدوج، وهو ما كان له الأثر العميق على كيفية تقبُّل هذه الأفلام (ماروك- 2005) من طرف المغاربة بين رافض وقابل لهذه النظرة الجديدة للسينما المغربيّة (خيط الروح، الراقد- 2004، الرحلة الكبرى- 2004)، ويصبح بالإمكان أيضًا بنوع من الحرية التطرق إلى سنوات الاعتقالات حيث يعتمد على تلك المرحلة كـ"فلاش باك" سينمائي يعيد للمغاربة نوعًا من الاعتبار، ولو من باب التسجيل التاريخى إبداعيًّا ("ألف شهر"، "جوهرة"، "الغرفة السوداء" أو "درب مولاي الشريف"، و"وجهًا لوجه").
أعتقدُ أنَّ بإمكاننا خلق نوع من المصالحة بين مناهج التحليل تلك. وهذا أمر حتمي لخلق نظرة موضوعية وشمولية لتحقيق إقلاع حقيقي. إقلاع يستند من جهة إلى القرائن والوقائع الثابتة كالقرصنة وإغلاق القاعات والعزوف عن الذهاب إلى السينما، وهي معطيات بادية ولا اختلاف حولها، ومن جهة أخرى حول مدى نجاح السينما المغربيّة وانتشارها وقيمتها الجمالية ونضجها الفكرى. وبالنسبة للقرائن الثانية نكون آنئذ أمام معطيات تستوجب أكثر من قراءة بحسب مسافة المواقع من المسؤولية ومن الرؤية العملية المنضبطة وغير المتسرعة في إصدار أحكام أخلاقية أو أيديولوجية أو مناسباتية.
صحيح أيضًا أنَّ السينما المغربيّة تشارك في العديد من المهرجانات ويُحتفى بها كضيف شرف أو بمخرجيها هنا وهناك. إذن نعود إلى كيفيات اختيار معايير نجاح "سينمانا". فهل الأمر موكل لأصحاب النظريات الاستاتيكية أم للواقفين على جودة المنتوج من حيث جديّة الطرح وبلاغة اللغة، وسموّ القضايا وإقبال الجماهير ولو أنَّ المعيار الأخير لا يخلو من مجازفة، فالعديد من الأفلام تحقق مداخيل مثل "سعيد الناصري" و"عبدالله فركوس" وغيرهما.
إنَّ تشخيص ومعرفة المعوقات الذاتية التي قد تراهن عليها السينما المغربيّة يستدعيان إشراك كل الفاعلين السينمائيين لمعرفة ما تحقق من حيث قيمة الإنجازات، وما لم يتحقق على المدى القريب والمتوسط، هذا إذا كنّا قد انطلقنا من رؤية واضحة حول الاستراتيجية السينمائية ضمن المشروع الثقافي المغربي.
ومع ذلك تبقى السينما المغربيّة مثلها في ذلك مثل السينما في معظم البلدان العربية تعاني من هموم كثيرة ومتشعبة، وتواجه تحديات مختلفة؛ منها ما يتعلق بالمؤسسات، ومنها ما يرتبط بالظروف المهنية المحيطة بالعمل السينمائي، ومنها ما يرتبط بتكوين المخرج وقدراته الإبداعية، وهذا التحدي الأخير هو من أهم التحديات التي يجب مواجهتها بالمزيد من الدراسة والعمل. وتحاول السينما المغربيّة أن تكون جزءًا من العالم لتلامس قضايا كبرى كالتعددية والتسامح وحوار الحضارات بنسب متفاوتة في النجاح والانتشار، أمام نسب من الأمية وتراجع الإقبال على الثقافة السينمائية، ممّا يتطلب رصدًا للجهود من أجل خلق أفق تشاركي يجد فيه المغاربة ذواتهم ويقبلون على السينما من منطلق أنها وسيلة ثقافية جادة.
• المراجع:
1- أندريه غارودي، جون بياليل، مفتاح نظرية السينما، ترجمة محمد عبدالفتاح حسان، نورالدين بوخصيبي، بوبكر الحيحي، منشورات الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب، مطبعة الأخوين، طنجة، 2013.
2- د.هدى ميموني، السينما المغربيّة: مشروع طموح في الأفق، دار الشمس، فاس، 2012.
3- خليل الدامون، أشلاء نقدية، دار السليكي، طنجة، 2015.
4- نثريات مختلفة من الدوريات والصحف العربية.
5- Youssef Ait Hammou – L'education aux Medias – La lecture filmique en milieu scolaire –Tanger 2013.