محمد سلام جميعان
شاعر وناقد أردني
mjomian@gmail.com
ثقافة عربية
دونما ندم/ عماد مدانات
يَعْرِفُ القرّاء عماد مدانات فنّانًا تشكيليًا وساردًا ممتعًا وجاذبًا، لكنهم ربّما لا يعرفون اكتواءه بجمرة الشعر. فدونما ندمٍ على الحياة الأشياء ينحاز مدانات إلى مجاز الشعر، فهو في هذا الديوان ينحاز إلى الإيقاع النفسي والشعوري في الحالة الشعريّة، لتكون -من ثمَّ- مجازًا للحالة بعد استبعاد الفائض من القول ليبقي على الجذوة المتوقدة، ليحقِّق المتلقّي تكيُّفًا أمثل مع الإيقاع والصورة المشتمل على اللذة العقلية التي تُولّدها قصائده حين تظهر في كامل أناقتها التعبيرية، بعيدًا عن الجدل العبثي في مشروعية قصيدة النثر.
إنه ببساطة واختزال ينقلنا عبر ديوانه من حياة الشعر إلى شعريّة الحياة بعيدًا عن الكمال الشكلي الذي ينشغل به الطارئون على قصيدة النثر.
ففي قصائد هذا الديوان تجديد يخدم أغراض الحياة العملية التي أضجرت الشاعر من عدم جدوى الكلام الفائض، ودفعته إلى أن يحلّ إشكالية قلقه الوجودي وتوتره تجاه المرحلة التي يعيشها، وهي مرحلة تغيرت فيها القيم التي خلعت طمأنينة الشاعر تجاه الزمن؛ زمنه النفسي المشتمل على انفعالاته، وزمنه الإبداعي، وزمنه الميكانيكي الذي يطحنه بإرهاصات التحوُّل الثقيل والهائل، بحيث يرى القارئ بوجدانياته الشعورية كيف على صعيد المعمار الشعري هنا يمزج مدانات بين قوانين الفن وقوانين الحياة المحلوم بها والمعزوف عنها في آن واحد، عبر (تشعير النثر) و(تقصيد السرد) و(مسـرحة الغناء)، فيربط الموقف التأملي بالطاقة الجمالية التي يفيض بها النص الشعري، فكلاهما: المبدع والمتلقي، يسعيان إلى إشباع رغبات مكبوتة أمام قسوة تراجيديا الحياة.
القصائد في هذا الديوان ينفثها مزاج مأزوم بالقلق والاغتراب، وتكمن فيه رغبات مغلولة محاصرة بالنفي اللغوي والمعنوي، حيث تضيع الذات في خضمّ الخسارات من واقع لا تكفي الإدانة لترقيع ثوبه المهلهل المثقوب.
على الغلاف الأخير يكشف الشاعر عن ذاته ويعرّي الواقع المسبوك بالخيبة، ويحرِّض على الخلاص النقيّ من أتون الفاجعة، فيقول:
(الليلة سأفتح خيباتي على الملأ
كالأشواك النافرة في حديقة عجوز
أعلن حقيقتي دونما خجل
وأصرخُ بملء النهار:
أنا وكرُ الخيبة
وناصية الخديعة
وهامش الفراغ
أنا لعنة اللحظة
وحائط الانهزام
فاتبعوني).
شفتاي مبصرتان... ثغركِ أعمى/ علي شنينات
من المرجّح ألّا يختلف المتلقّون على قوة التأثير البصري الذي تولده مفردتا (الشفة) و(الثغر)، فكاميرا المخيّلة تعمل بأقصى طاقاتها، لأنَّ الصورة البصرية تتوغَّل في العين الباطنية للمتلقي... فثمة تحريض مقصود لفتنة الكون بالمحبوبة، وليس فتنة محبِّها بها فحسب. فالنجاح الفني في هذه العَنونَة مصدره الانزياحات الدلالية، لما هو مبصر وما هو أعمى في لحظات التوق المغفّل أو الغافل عمدًا أو سهوًا.
وهذه الدلالات التي تحملها العَنْوَنة تتشابك علاقاتها التشكيلية والبنائية فتمنح القصائد في الداخل قوة نابضة بالفعالية الشعرية، وتشكل من العادي والمألوف وجودًا فنيًا لا يحس بجماله وفحوى إيجازه إلا مَن تذوّق نكهة التجربة، أو مَن يضعها محلَّ التأمل، لأنَّ فِتْنَةُ الشَّاعِرِ فِي قَلْبِ القَصيْدَة، وَفِتْنَةُ القَصيْدَةِ فِي قَلْبِ الشَّاعِر.
وليتأمل معي القارئ كيف يلعب الشاعر بمخيلة المتلقي ويفاجئه بالنتائج ويدهشه أيضًا:
(مَا أقَلَّنِي دُونكْ !....
هَكَذَا يَقُولُ النَّاسُ وَالْجُلّاسُ
فِي لَيْلِ الْمَدِيْنَةِ،
يُدَخِّنُونَ الْوَقْتَ فِي (الأرَاجِيْل)
وَيَفْرُكُونَ عِطْرَ نِسَائِهِمْ عَلَى طَاوِلاتِ الْقَصَبِ،
وَيَلُوكُونَ نَقْصِي مِنْكِ
وَحِرْمَانِي...!!).
والمتلقي لقصائد علي شنينات، تستوقفه المشهدية المفعمة بالحراك، وكذلك الشعرية البعيدة عن الطنطنة والتَّصَدُّح، فهو يغرف من مخزونه الروحي الغائر، ويتقن توليف البُنى المركبة التي يغوص في مختبرها التذوقي ليزحزح شيئًا من مواقفنا ويعدّل من سلوكنا، ولكنه في الوقت ذاته لا يُنصِّب نفسه عرّافًا أو مصلحًا لواقع يتعاطى الشراسة:
(مَا فَائِدَةُ الشِّعْرِ إذًا
إِنْ لَمْ تَخْلُدْ فِيْهِ الرُّوحُ
وَتَرْتَفِعُ القَامَاتُ.
وَيَصِيْرُ النَّصُّ بِلادًا
تَسْكُنُنَا،
وَالحُلُمُ الوَاقِفُ فِي الحَلْقِ
يَصِيْرُ شَهِيًّا
وَفَسِيْحًا
وَتَعْزِفُهُ النَّايَاتُ.
مَا فَائِدَةُ الشِّعْرِ إذًا
إِنْ لَمْ يَنْبُتْ فِيْهِ الوَرْدُ
وَتَخْضَرُّ الفَلَوَاتُ.
وَيَبْنِي فِي عَتْمِ اللَّيْلِ قُصُورًا
وَيَهْدِمُهَا نَزَقًا
فَتَثُورُ عَلَى النَّصِّ المَلِكَاتُ).
ثقافة عالمية
الفتى الذي أحب/ دورجوي داتا، ترجمة: فاطمة نعيمي
تتناول رواية "الفتى الذّي أَحَبَّ" للكاتب الهنديّ "دورجوي داتا"، الصادرة عن دار الرافدين في بيروت عام 2019، قصة حبّ لمراهق بنغالي يدعى "راغو"، تراوده فكرة الانتحار بطريقة تناسب مخيلته وتفكيره. وهو الذي يعيش في بيئةٍ عائلية مشبعة بقيم أرثوذكسية هندوسية، ويسكنه الحزن الكبير الصامت والبائس معًا، على إثر وفاة صديقه "سامي" أمام ناظريه في حمام السباحة المدرسيّ، دون أن يستطيع مدَّ يد العون له.
يقضي "راغو" حياته متنقّلًا من مدرسةٍ إلى أخرى، باحثًا عن عقابٍ عادلٍ يُكفّرُ عن عقدة الذنب التي يعانيها. فيبتعد عن تكوين الصداقات، ويصبح شبه منطوٍ على ذاتهِ، لتنقلبَ الأمور بعد أن يلتقي في مدرسته الجديدة بـِ"براهمي"، الفتاة التي تشبهه، ولكن بأسلوبٍ مختلفٍ، بذات الميول الانتحارية، والنظرة العدمية للحياة، فيسقط الشابّان في قصة حبّ بريئةٍ، تبدو للقارئ وكأنها المنعطف الرئيس في الرواية.
وتنطوي الرواية على الاختلافات الثقافية والتناحرات العقائدية التي شكّلَتْ نواةَ الحروب، وأودت بحيوات الشعوب، لترسّخ عبر فضاء الرواية عداءً ضاربَ الجذور في عمق الذاكرة المجتمعيّة، لا سيّما بين المسلمين والهندوس.
تتنامى أحداث الرواية فيقع "أنيربان"، الأخ الأكبر لـ"راغو"، في حبّ فتاةٍ مسلمةٍ، ويتزوجها معاندًا طقوس عائلته ورفضهم وجود مسلمٍ واحدٍ بينهم، الأمر الذي يجلبُ الكراهية إلى الجو العام لأسرة "راغو"، تلك الكراهية الصافية التي تُزجى لمن لا نستطيع إلا أن نحبّهم، في حين تجعلنا سلوكاتهم غارقين بالضغائن والكره والرفض. وهنا يوضِّح "راغو" عبر مذكراته التي يسردها، صورة تلك الكراهية التي تُفرض على الأبناء والطبقات في المجتمع، ويوضِّح صورة المجتمع الأبويّ الديني المتزمت، الذي يعيش فيه الأب، إذ تبرر الرواية/ المذكرات عُقَد الأب تجاه التزمت الديني جراء المذبحة التي مُنيت بها أسرته في الحرب الحاصلة بين الهند وباكستان (المسلمين- الهندوس) الأمر الذي يؤجج وبشكلٍ مستمر، دافع الانتقام من كلّ مسلم يصادفه، حتى لو كان هذا المسلم زوجة ابنه التي تحمل بين أحشائها حفيده الأول.
يبدو الضغط الذي يعانيه المراهقون والشباب مغلفًا بالحقد والحنق على التعصب الأرعن الذي تصقله وتَبْرُدَ فكره نيران العادات ومقاصل العرف، ليبدو الفرد أمامها بكل ما فيه من جسد ومشاعر مضمحلًّا، خفيًا، صغيرًا، لا حلّ ليصل صوته المخنوق لمن حوله إلا كما يتوصل "راغو" بالانتحار!
الرواية قصةُ عاطفية لـ"راغو جانجولي" ومعركته مع صعوبات الحياة، واكتئاباته وخاصة بعد موت أخيه إثر نشوب حريقٍ في منزله قبل أن تُجبر زوجته المسلمة على اعتناق الهندوسية لتحصل على طفلها، وتنتهي الرواية بموت "براهمي" ليبقى "راغو" صريع انفعالاته وتخبط شخصيته المحزونة بموتها.