مِثْلُ طَيْرٍ أَخَذَتْهُ الزُّرْقَةُ والجِمَارْ
شعر: أنس مصطفى
شاعر سوداني
asalim.edu@gmail.com
(1)
أَغُسطُسْ،
الشَّوارِعُ التي رَوَّاهَا الحَنَانْ،
البُيُوتُ التي ضمَّدتها العُذُوبَةْ،
أبدًا على هذا النَّحوْ..
أَغْسَاقٌ تَسِيلُ على جَبينِ الفَجرْ،
نَهْرٌ تَعْبُرُهُ الحَيَاةُ سَرِيعًا،
دُرُوبٌ إثرَ أُخرَى،
إثرَ أُخرَى،
ذَوَتْ..
أَعَالٍ ظلَّلَها الغَمَامُ لمرَّةْ..
ثمَّ هَاهُوَ القَلبُ يَأرَقْ،
نَوَاحٍ تَنْزِحُ ثانيةً،
شَجَرٌ بِأسْرهِ في الرِّياحِ الغريبةْ..
وإذنْ،
ثمَّةَ ما أَنْجَبَتْهُ المحطَّاتْ،
غِطَاءٌ أبديّ..
ثمَّةَ ما تَهَبُهُ الحيَاةْ،
قَطرَةً من عُذُوبةْ..
ثمَّةَ ما يَنْطَوِيْ،
ما لا تَقُولهُ أَبَدًا.
(2)
مِثْلُ أيِّلٍ في بَرِّيَّةِ اللَّيلْ،
تقتنصُكَ الجَوَارِحُ في عَتْمَةِ النَّواحيْ..
وكأنَّكَ آخِرُ الطَّرائدِ في الغَمرْ..
وأنتَ أنتَ رُغمَ كلِّ شَيءْ،
مَعصُوبٌ بانطفاءِ الجِهَاتْ،
بالمطَاحِنِ في العُمرْ،
تبحثُ عن مَوْطِئٍ في قَلِيلِ الحياةْ،
حيثُ لا يُرَاوِدُكَ الموتُ أبدًا،
ولا الأملْ..
ثمَّ تَكُونُ حُرًّا،
تعدو في النَّواحِيْ،
حَالمًا بالجِهَاتِ الأثيرةْ،
الجِهَاتِ التي تترقبُّ صَوْتَكْ،
التي أَسْمَتْكَ ضَنَاهَا،
ونُورَهَا..
التي جرَّحتكَ بالخفاءِ
فجرَّحتها بالنُّحُولْ.
(3)
أنا فَقَطْ،
ذلكَ الَّذي التمعتْ عَينَاكِ لِرُؤْيتهِ ذاتَ مَسَاءْ،
ثمَّ عبرتِ بهِ حَيَاةً بأسرِها،
وموتًا بأسرِهْ،
ذلكَ الَّذي لوَّحتِ لهُ من بعيدْ،
فشقَّتْ يَدُكِ الوَاهِنةُ وحشةَ العَالَمْ.
(4)
وما الحَيَاةُ
سِوَىْ وَحشَةٍ في البُيُوتِ القَدِيمَةْ،
سِوَىْ غَسَقٍ في الطَّريقِ القَديمْ.
(5)
ثمَّ لُحتِ لي كخيطٍ مِنْ النُّورْ..
ولَمْ تغطّيني بِجَنَاحكْ،
ولَمْ تَقُولِي لي انتظرْ،
ولَمْ تُنَادي عَليَّ أبدًا،
ولَمْ تَسأَليْ..
فقط راقَبْتِني بِصَمْتٍ ذاهِلْ،
وأنا أمضِي إلى البَعيدْ..
البَعيدِ الأبديّ.
(6)
ذاتَ مَسَاءْ،
كُنتِ القَطْرةَ التي سَالَتْ على صَخْرَةِ الحَيَاةْ،
كُنتِ الممرَّاتَ تُفضِيْ إلىْ النَّهرْ..
كُنتِ الوقتَ الذي اخضرَّ قُربيْ،
كُنتِ الجِهاتَ التي أمْطَرْتُ فيها،
ويداكِ كَانَتَا تُرَبِّتَانِ على وُحُوشِ اللَّيلْ،
فتستحيلُ عَصَافِيرَ وحَنَانْ..
ذاتَ مَسَاءٍ أيضًا،
ها هيَ الوحوشُ سَائِبةٌ في الجِهَاتْ..
ثمَّ
ها هوَ
اللَّيلُ
يَأرَقْ.
(7)
ذَلِكَ البَعيدُ يَا حِبيَبتِيْ..
إنُّهُ العَالَمْ..
أوصدتُهُ مرَّةً وإلىْ الأَبَدْ.
(8)
قلتُ هَهُنَا يَنْتَهِيْ كلُّ شَيءْ،
ثمَّ ذَهَبتُ إلى الفَلَوَاتِ وَحِيدًا..
قلتُ بوسعِيْ المضِيَّ هَكَذَا..
وكانَ الموتُ يَنتابُنِيْ كلَّ وَهلَةْ،
وتذكَّرتُ كلَّ شَيءْ،
ونَسِينَيْ كلُّ شَيءْ..
وكنتُ أَرَىْ الظَّمأَ في كلِّ نَبعْ،
وكنتُ أُطَالِعُ الهِجرَانَ في كلِّ كَائِنْ..
وما عدتُ أُبْصِرُ اليَأسَ وَلا الأمَلْ..
كَمَنْ أَصَابَهُ الموتُ في الشَّغَافْ..
ثمَّ تذكَّرتُ صَوتَكِ في الجِهَاتْ،
عِندَهَا التمعتْ الفَنَارَاتُ بغتةً،
وجاءَنِي الموْجُ مِنْ كلِّ نَاحِيَةْ..
وانتابَنِي الغَرَقْ،
وأسلَمَتنِيْ القُلُوعْ،
وأبصرتُ الانْتِشَالْ..
ثمَّ خَفَقْتُ كَطَيْرٍ يَتِيمْ،
كَطَيْرٍ أخذَتهُ الزُّرقةُ والجِمَارْ.
(9)
ذلكَ الصَّوتُ الَّذِي يَرْوِيْ اليَنَابيعَ في الفَجْرِ
فتندلعُ العُذُوبةُ،
ويَرِفُّ ألفُ طَيْرٍ جَرِيحٍ كَانَ صَوْتُكْ..
ذلكَ الأَمَلُ الغَرِيبُ كِتَابُكْ.