نصرالدين شردال
كاتب وباحث مغربي
"في أزمنة الظّلام، تبدأ عين الشّاعر بالرُّؤية"
(ثيودور ريكتيه)
إنّ المتتبِّع للمشهد العربي في الآونة الأخيرة سيرى أنه أصبح مسكونًا بظواهر (التطرُّف، الإرهاب، القتل، السبي...)، فهل كان الشّاعر غائبًا، أم كان له موقف إزاء هذه الظواهر؟ وهل من قراءة في الشعر لسمات العالم العربي المتشظي؟ وهل من حلول ومقترحات لعيش حياة هادئة هانئة؟ هل من رؤى شعريّة تخلِّصنا من هذه المآزق؟
لَمْ يكُن الشّعر يومًا بمعزل عن التّغيرات الاجتماعية والثّقافية والعقائدية للشعوب، بل كان دائمًا وأبدًا في طليعة الأجناس الأدبية والفنون والعلوم الإنسانية الّتي تناشد التّطور نحو الأفضل، والحق في الحياة الكريمة.
كان الشّعر وما يزال، حامل أسئلة الوجود الأنطولوجي المُلحّ، فإذا كانت الرّواية "ديوان العرب في العصر الحديث" قد استأثرت بالنصيب الأكبر في طرحها وتعاملها مع القضايا الرّاهنة للعالم العربي بشكل لافت للانتباه، ومن بعدها القصة القصيرة، فإنّ الشّعر لم يتخلَّ عن الرّكب، وإن تمّ تغيبه أحيانًا من دوائر القرار الأدبي، الشّعر لم يمُت، وإن قلَّت وسائل تداوله وتلقّيه لصالح أجناس وفنون أخرى. لكنه يتنفس الصّعداء، ويُكتبُ في الأقاصي والعتمات، وتحت الغبار والدّخان وكل أشكال القمع والإرهاب والتّطرف.
والشّاعر العربيّ المعاصر منذ خمسينات القرن المنصرم إلى حدود اللّحظة الرّاهنة، يكتب، يسجِّل، يعبِّر، يقاوم بالكلمة، ويرسم طريق الخلاص.
ومن جهة أخرى، شهد العالم العربي تحوُّلات جذرية في بنياته الثّقافية والدّينية والاجتماعية بوتيرة متسارعة؛ متأثرًا في ذلك بعوامل داخلية وخارجية، هذه التّغيرات كانت بمثابة حافز للذّائقة الفكرية والإبداعية لتقويم المسار الإنساني.
ثمّ إنّ المتتبِّع للمشهد العربي في الآونة الأخيرة سيرى أنه أصبح "مسكونًا إلى حدّ الدوار بظاهرة التطرُّف الديني... فمن طالبان والقاعدة وداعش والجماعات الأصغر. إلى التفجيرات التي تحدث هنا وهناك، إلى أشرطة الذّبح والسّلخ والصّلب والسّبي والتّطهير العرقي..."(1).
قبل هذا الواقع المرّ هل كان الشّاعر يرسم الخطّة؟ والآن هل من تشجيب واستنكار لهذه الظواهر (التطرف، الإرهاب، القتل، السبي، الاعتقال...)؟ وهل من رؤى شعريّة تخلِّصنا من هذه المآزق؟
نفترض أنَّ الشّاعر لم يكن غائبًا، وإنْ كان مغيّبًا، وحتّى المحاولات الإبداعية والفكرية "تشهد منذ مدة محاولات لتحجيم الجهود التنويرية والفعاليات الإبداعية متمثلة في الدّعوة إلى تحريم الفنّ ومحاربة كل إبداع فكري وفني يفتح العرب على العصر وعلى الحداثة"(2). لكن، على الرغم من ذلك، كما يؤكد النّاقد والشّاعر اليمني عبدالعزيز المقالح: "لم تستطع سنوات القرن العشرين المليئة بالغلظة والتّوحش، وسنوات أوائل القرن الحادي والعشرين المفعمة بالكراهية والحروب أن تقلّل من صفاء هذا الشّعر، ولا من براءة رؤيته وتأكيده على الانتماء الإنساني الرّافض لكل أنواع التّعصب والتّحيز لجنس أو عرق أو طائفة"(3).
لكن، كيف يواجه الشّاعر العربي المعاصر التّطرف والإرهاب؟ أكيد أنّ "المثقف لا يملك سلطة مادية لمواجهة آلة التّطرف والإرهاب، ولكنه يملك سلطة الفكر والنّظر، ويملك سلطة المواجهة بالمعرفة، بالقراءة، وبالتّربية، المثقف الّذي يفضح ويعرّي زيف الأفكار وانحرافها عن سياقاتها التّاريخية والنّصية"(4).
نبدأ أولًا من الإشكاليّة التّالية، هل قدَّم الشّعر العربي المعاصر وصفًا للسّمات الهندسية للواقع المتشظي؟ مجمل القصائد نجدها بمثابة وصف دقيق للمشهد المروّع، أولًا، ثم تعطي وجهة نظرها وحلولها المحتملة.
هذا ما تكشف عنه قصيدة "الوقت" للشّاعر أدونيس (علي أحمد سعيد):
"ما الدّم الضّارب في الرّمل، وما هذا الأفول؟
قل لنا، يا لهب الحاضر، ماذا سنقول؟
مزق التّاريخ في حنجرتي
وعلى وجهي أمارات الضّحية
ما أمرّ اللّغة الآن، وما أضيق باب الأبجديّة..."(5).
يبدو مطلع هذه القصيدة أشبه بوصف دقيق للعالم العربي في بداية القرن الواحد والعشرين، حيث صور الدّمار والموت والدّم هنا وهناك، كما تقدم تساؤلات ملحّة ومهمّة حول الأفق المنتظر، لكن تبقى اللّغة عاجزة عن الإجابة، وباب الأبجديّة ضيِّق.
وقريبًا من أدونيس نجد الشّاعر أمل دنقل برؤيته الشّعرية الرّافضة، يصف لنا مشهدًا للإرهابي المتطرف "المنفجر":
"حين سَرَتْ في الشّارعِ الضَّوضاءْ
واندفَعَتْ سيارةٌ مَجنونةُ السَّائقْ
تطلقُ صوتَ بُوقِها الزاعقْ
في كبدِ الأَشياءْ:
تَفَزَّعَتْ حمامةٌ بيضاءْ
(كانت على تمثالِ نهضةِ مصرْ..
تَحْلُمُ في استِرخاءْ)
طارتْ، وحطَّتْ فوقَ قُبَّةِ الجامعةِ النُّحاسْ
لاهثةً، تلتقط الأَنفاسْ
وفجأةً: دندنتِ السّاعة ودقتِ الأجراسْ
فحلَّقتْ في الأُفْقِ.. مُرتاعهْ!...
أيتها الحمامةُ التَّعبى:
دُوري على قِبابِ هذه المدينةِ الحزينهْ
وأنشِدي للموتِ فيها.. والأسى.. والذُّعرْ.."(6).
تبدو القصيدة كمشهد سردي أو سينمائي يصور لحظة زمنية متنامية في الزّمكان لشخصية الإرهابي المتطرف بسيارته المفخخة، وقد عكر فجأة هدوء المكان قصد تفجيره، وبث فيه حالة الخوف والذّهول الّتي تلمست الأحياء والأشياء، كما تحضر رمزية الحمامة البيضاء، بما هي رمز للسّلام والتّعايش، فينقلنا الشّاعر من حالة السّكينة والهدوء إلى حالة الخطر والذّعر والفوضى، إنّ بنية التّحول الّتي أحدثتها القوة الفاعلة/ السّلبية تجعل الحمامة عوض أن تنشد للمحبة والسّلام، تنشد للموت والأسى والذّعر.
ومن إرهاب الشّخصية الواحدة، إلى إرهاب الجماعة، هذا ما ترصده قصيدة "الظّلاميون والشّمس" للشّاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وفيها أوصاف بادية للجماعة الإرهابية (الجهل، الموت، النّسيان...)، ومع تقدُّمنا في القصيدة، نجد كل أشكال وأفعال العنف والتّطرف والقتل المسندة إليها:
"وكانوا يقذفون في الحقول نارهم
وفي المقاهي والبيوت
قالوا لوردة الرّبيع: لا تفوحي
لليمامات الّتي علي الغصون: لا تبوحي
ولنجمة العشية: تلفعي بالغيم أو فاحتجبي
وأسْكَتوا الصبيّة
قالوا لها: لا تكملي الأغنية..."(7).
نجد في مقابل كل الأشياء الجميلة (الحقول، المقاهي، البيوت، الوردة، الربيع، اليمامات، البوح، الغصون، النجمة، الصبية، الأغنية) الأفعال السلبية مسندة إلى هؤلاء (يقذفون، النّار، لا تفوحي، لا تبوحي، تلفّعي، احتجبي، أسْكَتوا، لا تكملي...).
من خلال هذه المقاطع الشّعرية يراهن الشّاعر على الثّقافة الفنية والجمالية: الجامعة، التمثال، النشيد، الأغنية، الحمامة، اليمام، الصبية، الغيم، النجم... تلك الثّقافة الّتي "تحوّل اليأس إلى أمل، والظّلام إلى نور، وتعلّمنا كيف نحبّ في زمن الكوليرا، وكيف نزرع الأزهار في أرض اليباب(8).
يتساءل الشّاعر بحرقة عن إمكانيّة حكم وتسلّط هؤلاء، إنها نتيجة كارثيّة بكل المقاييس، وبداية التّحول نحو الأسوأ في حياة المدينة الخالدة والفاضلة، وحياة النّاس، حيث ضياع الفنّ والشّعر:
".. أواه يا مدينتي، يا خالدة
لو أفرخت في ليلك المؤامرة
أين تبيت الأغنيات السّاهرات؟
أين تهاجر اللّيالي المقمرة؟
أين يغني الشّعراء الأنبياء؟
للحب والإخاء..."(9).
ومن الوصف والمشهديّة ينتقل بنا الشّاعر إلى ذروة القصيدة، حيث وضوح الرّؤية والرّسالة الشّعرية للشّاعر المتجلية أساسًا في الرّفض والتّشجيب والإدانة والتّحدي:
"أقول: لا
للهمج التّتار: لا
لن تطفئوا شمسًا علينا أبدًا..."(10).
ومن جهة أخرى يبدو القتل والتّصفية الجسدية والرّوحية أعلى مراتب الإرهاب والتّطرف في المنظومة الشّعرية لأدونيس، مع الاستفهام الكبير عن مصدر شرعيّة هذا الفعل، وحتميات النّهاية:
"...ضيَّعته الأحجية فانحنى قوسًا من الرّعب على أيامه المنحنية
لي أخ ضاع، أب جنّ، وأطفالي ماتوا
مَن أرجّي؟
هل أضم الباب؟
هل أشكو إلى سجّادة...؟(11).
إنّ بنية الاستفهام لافتة للانتباه في أشعار أدونيس الأخيرة، خاصة تلك الّتي تتناول هذه الظّاهرة، فهو يرصد الواقع وحيثياته، ويطرح الأسئلة الوجوديّة والحارقة، دون أن يجد لها جوابًا!
لكنّنا نجد محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة في قصيدة "إنها تدور" للشّاعر صلاح بوسريف:
"ليسَ اللهُ حجرًا يحْجبُ الرُّؤيةَ
أوْ جِدَارًا عاليًا خَلْفَهُ أودعَ فخاخًا
لصدِّ الكائنِ عن فكِّ حجبِ المجازِ عن اللّفظِ.
بَلْ إنّها تَدُورُ"(12).
يقدِّم الشّاعر صلاح بوسريف جوابًا شعريًّا شافيًا عن إشكاليّة التّطرف ومرجعيّته الدّينية مفاده أنّ الله ليس حجرًا أو جدارًا أو لغزًا أمام الرّؤية المعتدلة لعيش الحياة ودوران عجلتها، أو صدّ الكائن الإنساني عن التّعايش والمحبّة.
لكن ما دور الشّعر والشّعراء أمام زحف الموت، وهيمنة الآلة الإرهابية الّتي تأتي على الأخضر واليابس في زمن السّواد والظّلام؟ هذا ما يجيب عنه الشاعر محمد الفيتوري شعريًّا:
"ومع الظّلمة يصحو الشّعراء
يسقون نفوسًا ميتة
ويضيئون عيونًا عمياء
ويغنّون لفجر آت
فجر بشرى الأضواء..."(13).
وقريبًا من الفيتوري، نجد الشّاعر محمود درويش يضع الشّرط الشّعري الأصعب للمعادلة الشّعرية إزاء هذه المعضلة:
"قصائدنا بلا لون
بلا طعمٍ.... بلا صوتِ!
إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتٍ!
وإن لم يفهم "البُسَطا" معانيها
فأولى أن نُذَرّيها
ونخلدَ نحنُ.. للصمتِ!!"(14).
إنّ دور الشّعر والشّاعر من منظور محمود درويش إزاء هذه الظّاهرة، هو الاحتجاج، والتّنوير والتّوعية عبر الشّعر، وتنزيله من برجه العالي الغامض ليكون في متناول الفهم، وإلّا فلا دوْر للشّاعر، وعليه أن يلزم الصّمت ويدخل زمن العطالة الشّعرية.
وأمام صور الدّمار والموت، نجد الشّاعر المغربي محمد الخضر الريسوني يدعو إلى عيش الحياة ونبذ الاختلاف والتّطرف والإرهاب، والحلم بالغد المشرق والإصرار على المجابهة الفكرية والإبداعية والتحدي في وجه الظلام، وتضميد الجراح وطرد الفكر المعلّب، مع تطهير الأرض من أعداء الأخوّة الإنسانيّة:
"قريتي حبلى بأحلام "الصّباح"
تفرش الدّرب لأنوار السّماء
تنبت الإصرار في كل بطاح
تزرع الصّبوة في عمق الجراح
وتصيح:
اطردوا الفكر المعلّب
طهّروا دربي من أعداء يوسف"(15).
ومن الدّعوة إلى نبذ الفكر المعلّب، إلى دعوة الشّاعر عبدالوهاب البياتي إلى عيش الحياة الكريمة، ونبذ كل أشكال الظّلم والظّلام، وأنّ هذه الحياة جميلة تستحق أن تُعاش في سلام وهناء، وأنّ الأرض العربية بشعوبها الطّيبة الأعراق في منأى عن هذه الهمجية المتوحشة، فما علينا إلّا أن نلغي الظّلام وصانعي المأساة والآلام، وأن نمسح الدّموع ونوقد الشّموع تبشيرًا بالغد الأفضل:
"... يا أخواتي: الحياة
أغنية جميلة، وأجمل الأشياء:
ما هو آت، ما وراء اللّيل من ضياء
ومن مسرّات وهناء
وأجمل الغناء:
ما كان من قلوبكم ينبع من أعماق
شعوبنا الرّاسخة الأعراق
وأرضنا الطّيبة الخضراء
فلتلغوا الظّلام
وصانعي المأساة والآلام
ولتمسحوا الدّموع
وتوقدوا الشّموع
في وحشة الطّريق للإنسان..."(16).
• خاتمة
بناء على ما سبق مناقشته من أمثلة شعريّة متفرقة من العالم العربي، نخلص إلى أنّ الشّاعر العربي المعاصر لم يقف صامتًا إزاء هذه الظّاهرة الخطيرة الّتي تنخر جسد العالم العربي، بل انخرط فيها شعريًّا؛ وصفًا ونقدًا، وإن لم يكن يملك الحلول المادية الملموسة والآنية، لكنه يملك استراتيجية ورؤية شعرية بعيدة المدى، ترسم الآفاق، تنير طريق الإنسان، وتندِّد بالهمجية والوحشية، وتحارب الفكر المعلّب والرّجعي بالفكر التّنويري والإبداع الشّعري الهادف والخلّاق.
إنّ الشّعر اليوم في طليعة الفنون الأدبية وغير الأدبية الّتي كانت دائمًا وأبدًا إلى جانب الإنسان وحقه في الحياة الكريمة والسّلام والأمان بعيدًا عن كلّ أشكال التّطرف والتعصب.
• المصادر والمراجع:
1- عبدالمالك أشهبون، ظاهرة التطرف الديني في الرواية العربية، مجلة ذوات الإلكترونية، ع83، 2018، ص14.
2- محمد سبيلا، الإبداع والهوية القومية، مجلة الوحدة، ع58/59، يوليو/أغسطس 1989، ص9.
3- عبدالعزيز المقالح، افتتاحية مجلة عمان، ع4، أبريل 2008، ص5.
4- صلاح بوسريف، صمت الحملان، صحيفة المساء، ملف "تحديات الثقافة والفن في مواجهة الإرهاب"، الأربعاء 09/01/2019، ع3783، ص20.
5- أدونيس، قصيدة الوقت، كتاب الحصار، منشورات دار العودة بيروت، ط2، 1996، ص5.
6- أمل دنقل، قصيدة: صفحات من كتاب الصّيف والشّتاء، ديوان: تعليق على ما حدث، الأعمال الشعرية الكاملة، تقديم: عبدالعزيز المقالح، منشورات مكتبة مدبولي، القاهرة، ط3، 1987، ص205.
7- أحمد عبدالمعطي حجازي، قصيدة الشّمس والظّلاميون، صحيفة الأهرام الثقافي، 8-10-2013، السنة 138، ع46327.
8- عبدالكريم جدي، رسائل الفن والجمال في زمن الخراب، صحيفة المساء، ملف "تحديات الثقافة والفن في مواجهة الإرهاب"، الأربعاء 09/01/2019، ع3783، ص20.
9- أحمد عبدالمعطي حجازي، مصدر سابق.
10- المصدر نفسه.
11- المصدر نفسه.
12- صلاح بوسريف، خصال الماء، منشورات دار سليكي أخوين، 2019، ص75.
13- محمد الفيتوري، عاشق من أفريقيا، دار العودة بيروت، د.ط، ص39.
14- محمود درويش، قصيدة: عن الشعر، الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات دار الحرية للطباعة والنشر، بغداد، ط2، 2000، ص28.
15- محمد المنتصر الريسوني، على باب الله، مطبعة ديسبريس، تطوان، 1398هـ، ص63.
16- عبدالوهاب البياتي، الأعمال الشّعرية الكاملة، ديوان: المجد للأطفال والزيتون، قصيدة: إلى إخواني الشّعراء، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنّشر، بيروت، 1995، ص202.