د. رشــا الخطيب
الجامعة العربية المفتوحة- الأردن
كان الحكم الإسلامي، الذي امتدَّ في الأندلس لقرونٍ ثمانية، قد طبَع بطابعه الحياة اليوميّة في إسبانيا، فلماذا تغيَّرت التصوُّرات المسيحيّة تجاه التقاليد الإسلاميّة التي كان الناس يُقبِلون عليها ويجعلونها سمةً ونهجًا لحياتهم؟! هذا ما حاوَلَتْ أستاذةُ التاريخ "د.أوليفيا ريمي كونستابل"، تتبُّع مظاهره في كتابها الصادر عن مطبعة جامعة بنسلفانيا في العام 2018 بعنوان "أن تعيش مثل مسلم"، كما حاولت تفسير التغيُّرات التي أصابت تصوُّرات المسيحيين تجاه هويّة المسلمين في إسبانيا العصور الوسطى وبواكير العصر الحديث.
هل يمكن أنْ تتخيَّل أنّ تناول الحمُّص والفلافل أو الكباب والشاورما قد يكون تهمة؟! وأنكَ إذا افترشتَ الأرض بين أهلك وأحبّائك حول طبق كبير، تتناولون بأيديكم وجبتكم المفضّلة بشهيّة؛ قد تقودكَ مثل تلك الجلسة إلى السجن، بل قد تدفع حياتك ثمنًا لها؟! إذا كنتَ تظن أنّ هذا قد يكون خيالًا، فإنّ سجلّات التاريخ المدوّنة تخيّب لك ظنّك؛ لقد حدث مثل هذا في زمنٍ مضى! فقد كان أكل الكسكس والباذنجان في إسبانيا تهمةً يستحق فاعلُها السجن!!
ولم تكن وجبة طعام فقط ما قد يقود إلى السجن، بل إنَّ ثوبًا معيّنًا يرتديه الرجال، أو تصفيف الشَّعر، أو حليةً ذهبيّة ممّا تتزيّن به النساء، أو استعمال الماء والصابون والمعاجين المرطِّبة لإزالة أوساخ الجسد أو تدليك البشرة... كل هذه الأفعال التي يقوم بها الإنسان المعاصر يوميًّا دون أن يُلقي لها بالًا، كانت في يوم من الأيام تقود فاعلَها إلى السجن وقد تودي بحياته!
حدث ذلك في القرن الذي تلا سقوط غرناطة سنة 1492، عندما نقض الإسبانُ عهدهم مع سكانها المسلمين، فأجبروهم على التنصير، وصاروا يُعرَفون بـ"الموريسكيين" تحقيرًا لشأنهم، فعاشوا عقودًا طويلة قاسية من المُلاحقة والتَّضييق، حتى غدت شؤونُ الحياة اليوميّة والرّغبات الصغيرة موضع اتِّهام.
كان الحكم الإسلامي، الذي امتدَّ في الأندلس لقرونٍ ثمانية، قد طبَع بطابعه الحياة اليوميّة في إسبانيا، فلماذا تغيَّرت التصوُّرات المسيحيّة تجاه التقاليد الإسلاميّة التي كان الناس يُقبِلون عليها ويجعلونها سمةً ونهجًا لحياتهم؟! وما الذي طرأ بعد سقوط غرناطة فخلَقَ لدى الإسبان ذلك القلقُ والتوجُّس الذي جعلهم ينفرون من كل ما هو إسلامي؟ فينهضون لنبذه والتخلص منه… إلى أن انتهى الأمرُ بالتخلص من البشر أنفسهم بقرار طرد الموريسكيين من شبه الجزيرة الإيبيرية سنة 1609.
هذا ما حاولتْ أستاذةُ التاريخ د."أوليفيا ريمي كونستابل"(*)، تتبُّع مظاهره في كتابها الصادر عن مطبعة جامعة بنسلفانيا في العام 2018 بعنوان "أن تعيش مثل مسلم"، كما حاولت تفسير التغيُّرات التي أصابت تصوُّرات المسيحيين تجاه هويّة المسلمين في إسبانيا العصور الوسطى وبواكير العصر الحديث. وسبق للمؤلفة أن قدَّمت حول عالم العصور الوسطى بعض الكتب ومنها: "التجارة والتُّجّار في الأندلس" (كامبردج1994)، "إيببيريا في العصور الوسطى: قراءات في المصادر الإسلاميّة والمسيحيّة واليهودية" (بنسلفانيا 1997)، "إسكان الغريب في العالم المتوسطي" (كامبردج2003)، والكتاب الأول والثالث مترجمان إلى اللغة العربيّة في 2002 و2013 على التوالي.
أقامت المؤلفة أطروحتها في كتابها الأخير "أن تعيش مثل مسلم" على ما خلصت إليه المذكرةُ الشهيرة التي أنشأها الموريسكيُّ "فرانثيسكو نونييث مولاي" -وهو من الجيل الأول للموريسكيين- عقب المرسوم الملكي الصادر في 1567، الذي شدَّدت فيه السلطات الإسبانية على ضرورة التزام الموريسكيين ببنوده الخاصة بحظر اللغة العربية مشافهةً أو كتابةً، وحظر اقتناء الكتب العربية، أو ارتداء الملابس الموريسكية والحلي التقليدية، أو الاحتفال بالمناسبات الخاصة، أو ارتياد الحمّامات العامة... أو كل شأن من شؤون الحياة اليوميّة التي تتجلّى فيها هويّة المسلمين الذين اختاروا البقاء في غرناطة عقب سقوطها.
ولم تكن بنود هذا المرسوم جديدة عليهم، بل كانت تأكيدًا لِما سبقها من مراسيم ملكيّة متتابعة طيلة القرن السادس عشر تتقصَّد التخلص من المظاهر التي قد تشي بأصولها الإسلاميّة. لكنّ الموريسكيين كانوا في كل مرَّة يتخلَّصون من تنفيذها بوسائل شتى، إلى أن ضاقت بهم السبل واستنفدوا الحِيَل، ولم يجدوا بُدًّا من الانصياع للمرسوم الجديد، فانبرى "نونييث مولاي" يدافع في مذكّرته تلك -التي كتبها وهو في الثمانين من عمره- عن حق الموريسكيين في أن تكون لهم شخصيّتهم الثقافيّة الخاصة المتميزة، مستندًا إلى أنَّ بنود المرسوم إنَّما تحظر على الموريسكيين شؤونًا شخصيّة وتقاليد ثقافيّة محليّة خاصة بغرناطة لا صلة لها بالإسلام.
وقد التقطت المؤلفة هذه الحُجَّة -التي لم تستمع إليها السلطات الإسبانيّة حينذاك- كي تبدأ رحلتها لتكشف كيف تغيَّرت التصوُّرات المسيحيّة تجاه الهويّة الإسلاميّة في إسبانيا في العصور الوسطى، بعد تحوُّل المسلمين الأندلسيين إلى المسيحيّة ونتائجه في المجتمع الإسباني، التي آلتْ إلى الحساسيّة المفرطة تجاه أيّ تقليدٍ من شأنه أن يُفسَّر بصِلَتِه بماضي أهالي غرناطة عندما كانت المدينة إسلاميّة، وغدت العاداتُ والتقاليد -مهما كانت بسيطة- ذات معنى، فأصبح تناول الطعام بالأيدي مؤشرًا ذا معنى إسلامي، بينما كان استعمالُ أدواتِ المائدة والمناديل علاماتٍ مسيحيّة تشير إلى هويّة مغايرة!
وعلى ذلك ائتلف الكتاب الذي قام على تحريره أحد تلاميذ المؤلفة، التي رحلت عن الدنيا في العام 2014 وهي في نحو الرابعة والخمسين من عمرها بعد صراع مع السرطان، ولما تُـكْمِل مسودات الكتاب، الذي عالجت في فصوله المسائل نفسها التي ناقشها "نونييث مولاي" في مذكرته وهو يدافع عن حقوق الموريسكيين في وجه المرسوم الملكي، الذي يحرمهم من أزيائهم وعاداتهم الخاصة في الاستحمام والنظافة والعناية بالجسد وبالبشرة، وفي أن تكون لهم حرية التعبير في أفراحهم وأتراحِهم وأغنياتهم بلغتهم العربية دون أن يضطروا إلى تعلُّم لغة جديدة... فالتقطت المؤلفةُ هذه المظاهر التي صارت غير مقبولة مع منتصف القرن السادس عشر لتكون مدار فصول الكتاب: الأزياء والمظهر الخارجي، الاستحمام والنظافة الشخصية، استعمال اللغة العربية في التواصل والأشعار والأغاني.
وقد أضافت المؤلفة إلى المظاهر السالفة فصلًا خاصًّا بالمأكولات والأطباق وآداب الطعام في إسبانيا، وهو مظهر لم يتعرَّض له "نونييث مولاي" في مذكّرته، بينما تجده المؤلفةُ مؤشرًا ظاهرًا على الهويّة الفرديّة الخاصة بالموريسكيين، التي رأت السلطات الإسبانيّة أنه ينبغي ضبطها.
وقد استبعد محرر الكتاب "روبن فوز" الفصل الذي كانت المؤلفة تعدُّه عن اللغة العربية والشعر والأغاني؛ لأنه لم يكن ممكنًا بناء الفصل ممّا تبقّى من قصاصات المؤلفة غير الكافية، في حين استكمل تحرير الفصول التي انتظمت الكتاب بناءً على المسوّدات التي أورثتْها المؤلفة، ممهدةً لها بفصلٍ خاص في كيف يمكن أن تكون مسلمًا في إسبانيا المسيحيّة! حاولت فيه استكشافَ الفرق الدقيق بين ما هو ثقافي وما هو ديني في ممارسات الموريسكيين، وكيف تغيَّر موقف المسيحيين تجاه هذه الممارسات التي تعدُّ علامات على الهويّة المسلمة، على الرغم من أنّ العادات والتقاليد الموريسكية كانت جزءًا من نسيج المجتمع الإسباني والعيش المشترك لثمانية قرون بين المسلمين والمسيحيين، وفي كثير من الأحيان لم تكن الفروق بينهما تخلق مشكلة لدى الطرف الآخر، لا بل إنَّ التمايز بينهما هو الذي كان مطلوبًا.
ثم تغيَّرت الأحوال في القرن السادس عشر وصار كل مظهر امتاز به المسلمون خطرًا على الهويّة المسيحيّة للمجتمع الإسباني سواء في الأزياء أو المأكولات أو الموسيقى... أو حتى الاستحمام، حتى أصبح الاعتقاد السائد لدى الإسبان هو أنه من المستحيل أن تكون مسيحيًا وأنت تعيش حياتك اليوميّة بطريقة المسلمين.
وفي الفصل الثاني وقفت المؤلفة على الأزياء والمظهر الخارجي الذي تميَّز به الموريسكيون، وقد رصدت المؤلفةُ فيه التغيُّـرَ الذي لحق الهوية البصرية في إسبانيا في العصور من خلال القوانين المتتابعة التي استهدفت مختلف قطع الأزياء الإسلاميّة، التي كان يُنظر إليها على أنها أكثر من مجرَّد أسلوب أو خيار شخصي، لذا اتَّجهت القوانين إلى إجبار الموريسكيين على تغيير أزيائهم كي يتوافق ظاهرُهم مع باطنهم، فإذا ما كانوا قد وافقوا على التنصير الذي يغيّـر ما في قلوبهم، فإنَّ عليهم أن يجعلوا مظهرهم أيضًا كباطنهم بعدما تحوّلوا من الإسلام إلى المسيحيّة. وقد أدرك الموريسكيون بعد مدة خطورة استمرارهم في ارتداء ملابس لا تجعلهم يبدون كالمسيحيين، مما كان يعرّضهم لملاحقات رجال التفتيش وعقوباتهم.
وتتكئ المؤلفة في العديد من استنتاجاتها حول الأزياء الموريسكية -كما في الفصول الأخرى- على بعض اللوحات الفنيّة التي توثّق المظهر الخارجي للموريسكيين في القرن السادس عشر، وتؤكد اختلاف أزيائهم ومفارقتها لما كان يرتديه مسلمو شمال أفريقية في ذلك الزمان.
وقد شغل الزيُّ النسائي -خاصة الملحفة وغطاء الوجه- اهتمامًا كبيرًا يتَّضح من ذكره صراحةً في المراسيم الإسبانية؛ لأنَّ زيّ المسلمة وزينتها كان مظهرًا لا حياد فيه، وعبثًا حاول "نونييث مولاي" أن يقول إنَّ الزيّ الموريسكي للرجال والنساء لم يكن مؤشرًا على هوية إسلاميّة إنَّما هو عادات وتقاليد محليّة، بدليل أنّ أزياء مسيحيي الشرق هي كأزياء المسلمين هناك، وأنّ أزياء أهل غرناطة تفارق في خطوطها وهيئتها أزياء مسلمي شمال أفريقية القريبة منهم. كما اتخذ "نونييث مولاي" من التكلفة المادية التي تتطلبها الملابس الجديدة حجةً للإبقاء على ملابس الغرناطيين القديمة، بسبب الخسارة التي سوف تتكبدها العائلات التي تنفق على بعض الأثواب مبالغ باهظة كي تتوارثها صبايا العائلة جيلًا بعد جيل.
أمّا عن الاستحمام والنظافة الشخصية، فقد لفتت المؤلفةُ في الفصل الثالث الانتباهَ إلى أنَّ هذا المظهر الذي يعتقد كثيرون أنه قد يكون تقليدًا مستبعدًا من حياة الأوروبيين في العصور الوسطى، لم يكن كذلك للإسبان الذين يشتركون مع الأندلسيين في الاهتمام بالنظافة والاستحمام دوريًّا، إذ إنَّ الحمّامات كانت جزءًا من الفضاء العام للمدينة في إسبانيا في العصور الوسطى توارثوه عن الرومان، كما هو شأن المدن الأندلسيّة في ظلّ المسلمين.
وعلى الرغم من ذلك فقد حوربت الحمامات العامة في غرناطة وضُيِّق عليها الخناق، حتى صدور المرسوم في1567 فلم تعد الحمامات العامة مقبولة، واتُهمت بأنها أماكن لممارسة الشعائر الإسلاميّة ولممارسة الرذائل الأخلاقية. وفوق ذلك كله طال المنعُ كذلك الاستحمام في البيوت، مع أنه قد مرَّ على الإسبان زمانٌ كان يُنظر فيه بعين الإعجاب إلى طقوس النظافة الشخصية والتجميل والعناية بالبشرة لدى الموريسكيات، كما كانت الحمامات العامة شأنًا تجاريًا يدرُّ دخلًا لخزينة الدولة.
وما أصاب الحمامات العامة ومظاهر النظافة الشخصية لدى الموريسكيين، لحق بالأطعمة والمأكولات والأطباق الموريسكية، بل حتى آداب تناول الطعام وطرق تحضيره، وهو ما ناقشته المؤلفةُ في الفصل الرابع والأخير، فبعد أن كانت وصفات المطبخ الموريسكي مرغوبةً ولذيذةٍ وشهية، وبعد أن كانت البهاراتُ الشرقية والحلويات المغربية تُغني الموائد الفاخرة، صارت المأكولاتُ الموريسكية مقرفةً غير مستساغة بل وغير مسيحيّة! كما اختلفت الأذواق وصار إعدادُ المائدة وطريقة تناول الأطعمة كالأكل جلوسًا على الأرض من طبق واحد كبير بلا مناديل طعام ولا أدوات مائدة والحرص على الذبح الإسلامي... وغيرها، علامةً مهمة على الهوية الإسلاميّة التي نبذها الإسبانُ في بلادهم خلال القرن السادس عشر، حتى انتهوا إلى ضرورة التخلص من الموريسكيين؛ كي تصبح إسبانيا دولةً ذات هويّة منسجمة متّسقة، مع أنَّ بعض المسيحيين كانوا يأكلون بالطريقة نفسها!
وهنا نتذكر أسقف غرناطة "تالافيرا" الذي طلب من الموريسكيين "أن يكونوا مسيحيين ليس في قلوبهم فقط بل في مظهرهم وسلوكهم"، وكان من عادته في سبيل ذلك دعوتهم ليعلِّمهم الطرق المتحضِّرة في تناول الطعام: كالجلوس على الكراسي واستعمال أدوات المائدة، حتى إنه كان يتبرَّع للفقراء منهم بهذه الأدوات كي لا يستمروا على عاداتهم في الأكل بالأيدي جلوسًا على الأرض!
أمّا مسألة ملاحقة تنفيذ القوانين المتعلقة بالمأكولات فكانت صعبةً لأسباب عديدة: كالإرث المشترك والثقافة المشتركة بين المسيحيين والمسلمين؛ لأن العادات الغذائيّة للناس تجري عادةً في فضاءٍ خاص وتصعب مراقبتها. لكنّ ذلك لم يكن يمنع رجال التفتيش من التأكيد على أنه "يجب مراقبة كل ما يدخل في فم المرء من طعام، كما تتم مراقبةُ كلِّ ما يخرج من فمه من كلام"، وكان أقصى ما يمكن أن تفعله السلطات هو التحكُّم بذبح الحيوانات، وببيع اللحوم، وحظر مؤاكلة المسلمين على المسيحيين.
***
بقي أن نشير في ذيل هذا التعريف بكتاب "أن تعيش مثل مسلم" إلى أنَّ المؤلفة "أوليفيا ريمي كونستابل" قد اتكأت في عملها على منهجٍ تأتلف فيه مصادر البحث الضخمة المتنوعة التي تجاوزت الأربعمئة وخمسين، وتنوّعت ما بين تقليديّة (كالمدوّنات المخطوطة والمطبوعة والوثائق الأخرى المحفوظة)، إلى الرسومات والصور والآثار العمرانيّة الباقية، إلى غيرها ممّا قد يعضّد أفكارها ويقوم دليلًا عليها.
ويفتح كتابُها هذا آفاقًا جديدة للتنقيب في موضوعات لم تكن تجتذب الباحثين، في حقول ما يُعرف بـ"التاريخ الجديد" التي تؤرّخ للحياة اليوميّة للناس العاديين بعيدًا عن بلاط الحكام وقصور الأغنياء، والاهتمام بما وصلنا من أعمالٍ -مدوّنة وغير مدوّنة- عن الأطعمة والأزياء والأدوات المنزليّة والأثاث... وما شابه.
كذلك يفتح الكتابُ آفاقًا للبحث في العالم المعاصر بمحاولة الإجابة عن أسئلة المهجر الإسلامي في أوروبا المسيحيّة و"الإسلام فوبيا"... وغيرها من ظواهر وقضايا نعيشها اليوم، بما يحتم علينا أن نفهم ما حدث في الماضي وفق مفاهيمهم هم لا وفق مفاهيمنا نحن! فالتشدُّد الذي وجدناه في القرارات الرسميّة الإسبانيّة يدلّ على الخوف والقلق من المستقبل الذي كان يتنامى لدى النخبة الحاكمة، فيما لو استمرّ الموريسكيون مثلًا على ما كانوا عليه من تقاليدهم الخاصة أيام غرناطة الإسلاميّة، ولم يندمجوا الاندماج التام في المجتمع الإسباني كما أُجبروا عليه. وهو ما يطرح إشكاليّات شبيهة بإشكاليات اللجوء والهجرة الإسلاميّة إلى أوروبا في عالمنا المعاصر.
وربّما يدلّ على صدق هذا القلق أنه على الرّغم من التشديد على تطبيق هذه القوانين التي فُرضت على الموريسكيين، إلا أنَّ ذلك لم يقضِ تمامًا على رغبتهم في التمسُّك بعاداتهم وتقاليدهم السابقة، فلقد مرَّ الرحّالةُ الإنجليزي "هنري سوينبرن" بإسبانيا بين الأعوام 1775-1776، فوجد أنه قد تمّت في العام 1726 محاكمة 360 عائلة في غرناطة؛ لأنهم كانوا ما يزالون على دينهم القديم الإسلام! وذلك بعد أكثر من مئتي عام على سقوط غرناطة وعلى القوانين والمراسيم الملكيّة التي دبّجَتْـها السلطاتُ الإسبانيّة للتخلص من ثقافة الموريسكيين ثم للتخلص منهم بأعيانهم.
فلم يكن الإسبان يرضون من الأندلسيين مجرَّد قبول الدُّخول في دين جديد، بل أصبح على المسيحيين الجدد أن يهجروا ما ألِفوه من عادات وما توارثوه من تقاليد سابقة، ليصيروا مؤمنين حقًّا ويصيروا أبناء مجتمعهم الجديد… لم يكن الإسبان يريدون للإيمان أن يكون داخل القلوب فقط، بل كانوا يريدون له أن يدخل المطابخ وخزائن الثياب والحمامات!
- - - - - - - - - - - -
(*)Constable, Olivia Remie, To Live Like a Moor: Christian Perceptions of Muslim Identity in Medieval and Early Modern Spain.
Philadelphia PA: The University of Pennsylvania Press, 2018.