د. عماد زاهي ذيب نعامنة
خبير مناهج اللغة العربية/ إدارة المناهج والكتب المدرسيّة- الأردن
أضْحى مفهوم المصطلح (اللّسانيّ) عِلمًا يدلُّ على كل علم أو نشاط ينتمي بتقنيات التحليل إلى أيّ منهج من المناهج العلميّة التي عُنيت باللغة وقضاياها في القرن العشرين واستمرت ما بعده. وفي واقع الأمر فإنّ الدرس اللّسانيّ في العالم العربيّ شهد حركة نشِطة في المنتصف الثاني من القرن العشرين، يمكن وصفه فيها بأنّه نشاط اتِّباعيّ تطبيقيّ، انتهجَ نهجَ أنظار الدرس اللسانيّ في العالم الغربيّ.
يَنْتَمي النشاط اللسانيّ إلى المرحلة المعاصرة من الفكر اللغويّ بما هو علم عرَف طريقه إلى الكينونة الأكاديميّة مع مطالع القرن العشرين، وانشعبت مدارسه واتّجاهاته على جامع يجمعها من التزام سمات المنهج العلميّ ومعطياته(1). بل لقد "أصبحت اللسانيات علمًا متواترَ الفعاليّة في أنظاره وتقنياته، يرينا من أمر اللغة ما لم نكن نرى، ويَعِدُنا ببصائرَ مضيئة لنظامها الذاتيّ، وسائر الأبعاد النفسيّة والإدراكيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي ترتبط بها"(2).
وما من شكّ في أنّ الدرس اللّسانيّ الذي طالعنا في القرن التاسع عشر غربيّ النشأة، ففي إطلالة سريعة على المشهد اللّسانيّ الغربيّ نجده بدأ في دَرْسِ الظاهرة اللغوية درْسًا تاريخيًّا مقارنًا، وذلك عقب اكتشاف السّنسكريتيّة، ثم توالت المناهج اللسانيّة، بصورة تكاد أقرب ما تكون تكامليّة في ما بينها، إذ يغلب عليها أنْ يستدرك آخرُها على أوّلها، فنشأ المنهج اللساني الوصفيّ ردّة فعل على المنهج التاريخيّ، ليدرسَ الظاهرة اللغوية درسًا تزامنيًّا لا تعاقُبيًّا، إذْ درسَ اللغة بذاتها ولذاتها، ومن حيثُ هي دراسةً علميَّةً، ونظر إلى الظاهرة اللغويّة نظرة سلوكيّة تنطلق من مبدأ المثير والاستجابة، ثمّ جاء المنهج التحويليّ التوليديّ؛ ليتداركَ ما رآه غيرَ قائم ولا بائنٍ في المنهج الوصفيّ، فاللّغة من منظوره لا تقف عند حد المثير والاستجابة، وإنما تتجاوز ذلك مُشَكِّلةً بنية عقليّة تتوالد فيها أمثلة كلاميّة غير مُتناهية، إضافةً إلى المنهج الوظيفيّ الذي امتدّ ردحًا من الزّمن طويلًا آخذًا على المنهج التحويلي التوليدي انكفاءه على المادة الكلاميّة، غير آبِهٍ بملابسات الموقف الكلاميّ وما له من أثر في عمليّة الاتصال والتواصل بين أطراف الموقف الكلاميّ(3).
وليس بمقدور أحدٍ أن ينكر جهود الرُّوّاد من علماء اللّغة المعاصرين في هذا المجال، فقد أسهموا في رفد المكتبة العربيّة بفيض من الدراسات والمقدّمات النظريّة والتطبيقيّة في اللّسانيّات الحديثة، سواء أكانت تلك الإسهامات تتناول الدرس اللّسانيّ بصفة عامة، أو مستوًى معيّنًا من التحليل اللّسانيّ كالأصوات، وغيره من المستويات اللّسانيّة، وهي مع فائدتها، ما زالت دون المبتغى(4).
وفي واقع الأمر فإنّ الدرس اللّسانيّ في العالم العربيّ شهد حركة نشِطة في المنتصف الثاني من القرن العشرين، يمكن وصفه فيها بأنّه نشاط اتِّباعيّ تطبيقيّ، انتهجَ نهجَ أنظار الدرس اللسانيّ في العالم الغربيّ، ومع ذلك، يمكن القول إنّ الصّبغة السّديميّة تطغى على تلك الدراسات، إلا أنّه يمكن لنا أيضًا أنْ نتبيَّن في مجمل المشهد اللسانيّ العربيّ أربعة تيّارات(5):
التيّار الأوّل: برز مع بدايات القرن العشرين، وعني بدراسة قضايا مُنتخَبة من الدرس اللغويّ العربيّ، واتّخذ سمة المحافظة على التّراث، والاعتزاز باللّغة العربيّة الفصحى، والوقوف في وجه المدّ الاستعماريّ ومَن شايعه، ولا سيّما بدعواته إلى العاميّة والكتابة بالحرف اللاتينيّ(6).
التيّار الثاني: التيار الاتّباعيّ التّطبيقيّ، وترسَّم هذا التيار خُطا النّظر اللّسانيّ في العالم الغربيّ، مُزاوِجًا بين المادة، أو الموضوع (اللغة العربية)، والمنهج المُستعار، ولا يرى هذا التيار ضيرًا في استئناف النظر في درس الظاهرة اللّغويّة درْسًا على وفق مناهج النظر اللّساني الغربيّ.
التيار الثالث: التيار المُقارِن، وبرز هذا التيار عقب ازدهار المنهج التحويليّ التوليديّ، فاتّجه نحو مقارنة البحث اللغويّ العربيّ بمَقولات المناهج اللّسانيّة المتعاقبة، باحثًا عمّا بينهما من مَشابِهَ في المقولات الكُليّة أو الكبرى، وهو يستهدف من وراء ذلك إيجاد موقعٍ للدرس اللّسانيّ العربيّ بمقارنته بالتحويليّة.
التيّار الرابع: ويصبو هذا التيّار إلى منح الدرس العربيّ سمةَ الفرادة، وتبويئه موقعًا بارزًا في سياق النظريّات اللّسانيّة واللّغات الحديثة، مستفيدًا من الوعي اللسانيّ العام؛ وإقامة جدل بين المادّة والمنهج؛ للتوصُّل إلى تحقيق اندغام الخاصّ (الدرس العربيّ) في العام (اللّسانيّ).
وإننا لنتطلَّع إلى أنْ يخطو الدرس اللّسانيّ العربيّ خطوات إبداعيّة مُمَنْهجة، متجاوزًا حدَّ الاتِّباعية والتشاركيّة؛ وصولًا إلى إبداع نظريّة خالصة خاصّة بالدرس اللّسانيّ العربيّ. فعلى الرغم من تزامُن التيّارات السابقة أو تعاقُبِها فإنّه يمكن القول -بصورة عامّة- إنّ المشتغلين بالمشهد اللّسانيّ العربيّ غلبت عليهم الاتِّباعيّة، مُراوحين مكانهم عند حدّ ما أنجزه علماء العربيّة القدماء -في الوقت الذي ينحو فيه الدرس اللّسانيّ الغربيّ منحى الصيرورة والتطوّر- فما نلحظه في المشهد اللّسانيّ العربيّ غلبة الدراسات التاريخيّة والمقارنة على علماء العربيّة الذين تتلمذوا على أقطاب المدرسة الألمانيّة، وغلبة الدراسات الوصفيّة على مَن تتلمذوا على روّاد مدرسة فيرث البريطانيّة، وشيوع منحى الدراسات التحويليّة التوليديّة عند أولئك الذين تتلمذوا على أعلام مدرسة تشومسكي، وانتحاء سَمْت الدراسات الوظيفيّة لدى مَن تتلمذوا على أنصار مدرسة مارتينيه أو براغ وسيمون ديك، مع الانتصاف إلى ثلّة من جهابذة العربية المعاصرين وعلمائها الذين ترسَّموا منهجًا وسطًا، من باب المقاربة والمقابلة بين أنظار علماء العربيّة القدماء ومَقولات الدرس اللّسانيّ الحديث؛ إسهامًا منهم في تأثيل كثير منها في لسانيّات التراث(7)، وقد تبدّى ذلك في أعمال عبدالرحمن الحاج صالح في أبحاثه المنشورة في مجلة اللّسانيّات الّتي يصدرها مركز البحث العلميّ والتقنيّ لتطوير اللغة العربيّة في الجزائر، وكذلك جهود الدكتور عبده الراجحيّ، ولا سيّما في كتابه: النحو العربيّ والدرس الحديث. إضافة إلى ما للدكتور نهاد الموسى من إسهامات نوعيّة في هذا المجال، لعلّ أبرزها ما تضمنّه كتابه القيِّم نظريّة النحو العربيّ في ضوء مناهج النظر اللغويّ الحديث(8).
• الهوامش:
(1) مصلوح، سعد عبدالعزيز، في النقد اللساني دراسات ومثاقفات في الخلاف، عالم الكتب، القاهرة، مصر، ط1، 2004، ص225.
(2) الموسى، نهاد، اللغة العربية في مرآة الآخر- مثل من صورة العربية في اللسانيات الأمريكية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ودار الفارس للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ط1، 2005، ص14.
(3) علوي، إسماعيلي حافظ، والعناتي، وليد أحمد، أسئلة اللغات أسئلة اللسانيات، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ومنشورات الاختلاف، الجزائر، ودار الأمان، الرباط، المغرب، ط1، 2009، ص267، 268.
(4) غلفان، مصطفى، في اللسانيات العامة: تاريخها، طبيعتها، موضوعها، مفاهيمها، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2010، ص5.
(5) الموسى، نهاد، حصاد القرن في اللسانيات، موسوعة حصاد القرن- المنجزات العلمية والإنسانية في القرن العشرين- الأدب والنقد والفنون- فكر عربي، مؤسسة عبدالحميد شومان، عمّان، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، والمؤسسة العربية للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 2008، مج/ 2، ص48-49. وانظر أيضًا: المقابلة التي أجريت مع د. نهاد الموسى، ضمن كتاب أسئلة اللغات أسئلة اللسانيات، مصدر سابق، ص269 – 270.
(6) ذكر تمام حسّان أنّه تقدّم باقتراح ضمَّنه أولى طبعات كتابه اللغة العربية بين المعيارية والوصفية، يدعو فيه إلى الاستعانة برموز من الكتابة الإغريقية واللاتينية وإضافتها إلى نظام الكتابة العربية، بأسلوب تتكامل فيها رموز= اللاتينية مع الرموز العربية... ولكنه تراجع عن هذا الاقتراح بطبعات كتابه اللاحقة، حيث قال: "فرجعت عن هذا الاقتراح، وآثرت الإبقاء على التراث بصورته التاريخية". اللغة العربية بين المعيارية والوصفية، ط4، 2004، ص9-10.
(7) وقد سمّى بعضهم مثل هذا الدرس "لسانيات التراث" وفقًا للمادة والمنهج. انظر: غلفان، مصطفى، اللسانيات العربية الحديثة دراسة نقدية في المصادر والأسس النظرية والمنهجية، مرجع سابق، ص92 وما بعدها، وانظر: علوي إسماعيلي حافظ، اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة: نحو مقاربة إبستمولوجية، مجلة اللسانيات واللغة العربية، منشورات مخبر اللسانيات واللغة العربية، جامعة باجي مختار، عنابة، ع2، 2006، ص24 وما بعدها. وانظر له أيضًا: علوي، إسماعيلي حافظ، والملاح، امحمد، قضايا إبستمولوجية في اللسانيات، منشورات الاختلاف، الجزائر، والدار العربية للنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2009، ص281 وما بعدها.
(8) الموسى، نهاد، نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، الأردن، ط1، 1980. وانظر أيضًا: الموسى، نهاد، حصاد القرن في اللسانيات، ضمن موسوعة حصاد القرن- المنجزات العلمية والإنسانية في القرن العشرين، مصدر سابق، ص55، و57، و61.