عِذاب الركابي
ناقد وشاعر عراقي
"كولاج" رواية أصوات ومَشاهد في نسيج متناغم، وباعث للتأمُّل الحُلمي. هي خليط من الواقع والحُلم. وقد وُفِّقَت الروائيّة فتحية النمر في رسم بورتريهات مُتقنة لشخصياتها عبر أسلوب جامع بين الواقع والخيال والفانتازيا في عملٍ فنّي- روائي امتلك سلطة الاحتواء لفنون إبداعيّة؛ مزيج مُموسق من التشكيل، والمنولوج الدرامي، والفلاش باك، والميتافيزيقا، والميثيولوجيا.
السَّردُ بمجموعهِ نثرٌ خرافيّ، وصوْغٌ جماليّ، صورة الواقع التي تعكسُ تفاصيل الحياة، و"ميكروسكوب" شديد الحساسيّة والدقة، يقول "ميشيل بوتور" في كتابه "بحوث في الرواية الجديدة": "إنَّ الابتكارَ الشكليّ في الرواية بعيدٌ كلّ البعدِ عن مناقضة الواقعيّة.. وهو الشرط الذي لا غنى عنهُ لمزيدٍ من الواقعيّة"(ص8). فالسَّرد ينقلُ أعمق مشاعر وأحاسيس الناس، والسارد- الناص textor لا يبدو صانع الرِّواية، بل هي التي "تصنعُ نفسها بنفسها، وما الرِّوائي سوى أداة إخراجها ومولّدها" كما يقولُ "ميشيل بوتور"!
• رواية "كولاج"
ملحمة في نسقها الاجتماعي- الحياتي المتناغم!
رواية "كولاج"(*) نوعٌ من السرد narrative المانح لنفسهِ، والمفتون بها، والكاتبة- الساردة في حالةِ هوس سيكولوجي بالشخصيّة التي تعيشها، وهي تضعها في بورتريه جاذبٍ، فاعل ٍبألوانهِ وخطوطه الفسيفسائيّة في لحظةِ تماهٍ موحٍ بينَ الساردة والمسرود والمتلقي معًا.
ولأنَّ "الرواية فنّ الأصوات البولوفينية، الأوركسترا المتنوعة الآلات" بتعبير "باختين"، فإنَّ "كولاج" رواية أصوات.. ومَشاهد في نسيج متناغم، وباعث للتأمُّل الحلمي، وهو بتقنية الكولاج؛ تقطيع، وقصّ ولصق، فلاش باك، فانتازيا، حوار درامي، ميتافيزيقا، وكلّ ذلك روح السَّرد المتقن..!!
• الشخصيّات المحوريّة
- "جمعة شاهين":
شخصيّة محوريّة، عالية الإيقاع، بخطى فارهة الظلال، قويّة التأثير حتى في لامبالاتهِ واتِّكاله، في سردٍ narrative سلسٍ في لغتهِ الباذخة الإثارة excitation، ومانحٍ في أسلوب "السهل الممتنع"، إذ يبدو فيه البطل "جمعة" السارد والمسرود في تماثل semmetria سحر حكي باذخ في عبقريّة بساطته أيضًا، وهو يكتبُ ويرسم بظلال قاتمة أحيانًا، سردًا- لوحات فنيّة، شبكة لعلاقات أسريّة ممتدة بلا ثغرات إلى شخصيّات أخرى!
وعلاقة "جمعة" بأبيه علاقة من نوعٍ آخر، كيمياء ودٍّ وحنان، وهو في أبسط تعريف "محبوب" من أبيه، وهذا طبيعي، ولكنهُ ليسَ بمستوى طموح "الأب" وأحلامهِ، وهذا ما يُربك سيْر نهر هذه العلاقة، و"الأب" في حالة بحث عن بديل، وإذا برحم القدر يقذف بولادةٍ قيصريّة بـ"زاهد" السوري الباحث عن رغيف العيش خارج بلده التي تأكلها نيران حربٍ مفروضةٍ ومفتعلة.
- "زاهد":
هو صوتٌ خافت الإيقاع في أوركسترا جُمَل السَّرد الأولى، بخطى خبيئة في مثابرته التي بدت للراوي "جمعة" ديكوريّة زخرفيّة، وراءها أهداف أخرى، وهو يراه لا يمتلك قلب "الأب" وحدهُ حسب، بل وقلوب العائلة مجتمعة.
و"زاهد" هو الصوت والصورة والمشهد معًا! فهو صورة فوتوغرافيّة، ناطقة بلغة بصريّة عن الواقع المعيش.. وصوت من الداخل يناديه، في حوار جاد مع نفسه الأمّارة بالطمع والجشع والنفوذ معًا، وروحه وجسده غريقان في بحر حياةٍ طارئة، أمواجه تضطرب غاضبة سعيًا للمزيد من السيطرة والمنفعة، عبر رؤى توسعيّة بشعة، تشتعل في روحه الظامئة إلى التغيير، جمرها ماضيه القاتم، والذكريات الأليمة التي بدت عبر "الفلاش باك" وطابع الحكي الاسترجاعي، محرّضًا على المزيد من المكر.
وفي الجانب الأكثر ظلمة وحلكة من زوايا الوطن- الأمّ، يظهر الأخ "حسين" وهو في سيل شتائم لا تبدو ملائكيّة، بمفردات تأنيب جارحة، لوطن يجدُ نفسه فيه غريبًا! أكثر من أن يكون في غربة وفي مكان آخر.. لا يختلف عن "جابرييل" بطل "جيمس جويس" في قصّة "الموتى": "لقد سئمت هذا الوطن، ضقتُ بهِ ذرعًا"(ص292)... و"حسين" يحصل على فرصة عمل في تركيا، أغضبت "الأم" لأنها ستؤدّي إلى فراقه عنها.
- "سلطانة":
هي حالة الذات الباحثة عن ذاتها المتشظِّية في نسبٍ متشظٍّ مُقلق، ومصدر حيرة مزمنة، بين "الأب" العربيّ الأصل، و"الأمّ" الأجنبيّة "الباكستانيّة"، ولا بدّ لها من أن تقاومَ سهام هذا التشظّي، بالعيش بثمالة أمان، داخل مساحة حبّ ضيّقة مع "أحمد" ابن العم الذي تكفّلَ بها، وضمّها إلى العائلة.. و"أحمد" هذا الفتى الهوائيّ قدْ انتهت رومانسيّته الزخرفيّة بها إلى كارثة، حملت عبئها "سلطانة" في دوّار عنيف للبحث عن خلاص، وتصحيح الخطأ، ومحاولة التخلّص من "الجنين" الذي بدا لها ولغيرها جريمة، إثر هروب "أحمد" واختفائه، وكان لا بدّ من أن تلعب الورقة الأخيرة، وهي الزواج من الأخ الأكبر لـِ"أحمد" الذي لم يحالف زوجته الحظ في الإنجاب، ويحصل هذا الزواج فعلًا، بلا ضمانات حياتيّة، وجاءت الطفلة " غدير".. ويموت "سلطان" وتكبرُ حيرتها في حالة صدام بين أحلامها وأحلام ابنتها "غدير" التي نشأت مضطربة فكريًّا وعاطفيًّا وسلوكيًّا، و منقذ "سلطانة" الوحيد هو "خليل" الفتى الجميل الذي وجدت فيه أيقونة المتعة والأمان والسعادة.. وشارة البدء في حياةٍ جديدة.
• التقنيات الفنيّة الجماليّة في "كولاج"
يقول "ميلان كونديرا": "لا ينفصلُ جمال الرواية عن معمارها"، وفي أسلوب "كولاج" وهو في تقنية اللوحة التشكيليّة، وألوانها الفسيفسائية، فإنّ هذه البعثرة في حركة ورؤى شخصيات الرواية، بقدر ما فيها من متاهة labyrinth، فيها جمال، وعبر الكتابة الصوتية أو " السرد الصوتي"، في الإيقاع المتناغم.. تتعدّد الشخصيات والأصوات والمشاهد المفضية إلى حوارات داخل نفس الراوي "جمعة شاهين" الذي بدا البطل الأوحد، و الكاتبة - الساردة في لحظة تماهٍ مع النصّ- المسرود.. والقراءة التأمليّة الحُلميّة لشخصيّات وأحداث الرواية تؤكّد ذلك..!!
أمّا عن الماضي، وكما يقول "فوكنر": "الماضي لايموتُ أبدًا"، فإنّ الماضي في رواية "كولاج" هو بطلٌ من أبطال الرواية! وعبر "الفلاش باك" وهو "عنصر بنائي من عناصر الأسلوب" بحسب "أمبرتو إيكو"، فإنّ الذكريات واللقاءات الحميمة هي الدواء لما يثقل النفس من هموم دهليزية.. وقد جاءت "د.جيهان" الأكاديمية والكاتبة والمثقفة، لتفجّر نهر الذكريات في صحراء "براء" لتثمر أشجار الغربة ببعض ما يندى بالروح من طعم للبهجة والأمان، تحت قمر سعادة شاحب الضوء، والحديث بينهما، وهو بمفردات الحسرة والألم، حين يعلو صوت الوطن- الأمّ.
ومن جانب آخر، فإنَّ "كولاج" تأخذ شكلًا ملحميًّا دراميًّا، ناتجًا عن غربة الشخصيّة- البطل في واقعهِ المعيش وهو في إيقاعٍ سرياليّ..!! هذا الطرح الدرامي يعتبر سمة عليا في الرواية بحسب تعبير "جورج إليوت" الذي قال: "إنَّ الطرح الدرامي هو سمة ُ الرواية الأعلى".
• رواية "كولاج" خليط من الواقع والحُلم
والتامّل والحدس في نسقٍ متناغم!
أثبتت الكاتبة- الروائية فتحية النمر، عبر مفرداتها المنتقاة، وأدواتها وجملها الرشيقة، وهي تُجسّد أحلام ورؤى كلّ شخصية من شخصياتها التي عاشت تفاصيل حياتهم بتماهٍ وهي تحاولُ بمثابرة تُحسبُ لها، التقمُّص الوجداني والروحي، وهي تسبر غور عوالم هذه الشخصيات، في كبسلولة إبداعها، لا تسمع إلّا أصواتهم، ولا تصغي إلّا إلى حركات خطاهم، تاركتهم يقودونها إلى منابهع همومهم، بشكل مثير للدهشة، ويضفي على النصّ السردي بُعدًا تأمليًّا حالمًا.
• "كولاج "سينما الواقع المعيش في لقطةٍ سرياليّةٍ!
والروائية فتحية النمر في روايتها "كولاج" عاشت حياة أبطالها- شخصياتها التي بدت فيها "الرواية حياة داخل حياة، تدخل فيها لتجدك، وتخرج منها فتجدها داخلك" بتعبير "هاروكي موراكامي".. والسرد خلاصة واقعهم المعيش، عبر أسلوبها الذي هو شخصيّتها، والنصّ الذي هو "أناها" و"ذاتها".. وقد وُفِّقَت في رسم بورتريهات مُتقنة لشخصياتها عبر أسلوب جامع بين الواقع والخيال والفانتازيا في عملٍ فنّي- روائي امتلك سلطة الاحتواء لفنون إبداعيّة، مزيج مُموسق من التشكيل، والمنولوج الدرامي، والفلاش باك، والميتافيزيقا، والميثيولوجيا.
- - - - - - - - - - - - - - -
*" كولاج" رواية، فتحية النمر، دار كتّاب للنشر والتوزيع، الإمارات العربية المتحدة، 2015.