شعر: حميد سعيد
شاعر عراقي
توقظه بغداد صباحًا..
يفتَحُ عينيهِ..
يَراها..
فَيُقَبِّلُ جبهتَها..
ويَشُمُّ عَرارَ جدائِلِها وقُرُنفُلَ ضحكتِها..
وأريجَ صِباها
يسمَعُ وَقعَ خُطاها
في الروح.. من البابِ الشرقيِّ إلى الميدانْ
يا ما كانْ
رافقها من بستان الخسِّ إلى بستان الخاتونْ
ومن خِضرِ الياسِ إلى حَنّونْ
ما زالتْ تَفتَحُ بابَ الأحلامِ.. على الأحلامِ..
فَيغْمُرُها عِطرُ العودِ ورائحةُ الهيلْ
وحكاياتٌ..
يرويها عبودُ الكرخيُّ نهارًا
وتُغنِّيها ليلًا..
بمضيف أبو عبيد صديقةْ المُلايةْ
يتخيَّلُها امرأةً تجمعُ بين بداوةِ طلَّتِها..
وطراوة فتنتِها..
تَسْتَوقِفُها دجلةُ بينَ الضِفَتينْ
تتجلّى في المَوجِ المُتَكبِّرِ..
ساحِرَةً..
تَسْتَبدِلُ ما كان بما سيكونْ
من مُعجَمِها خرجَ ابنُ الجَهمِ عليٌ
وعلى نَقراتِ خطاها
وَقَّعَ زريابُ العودَ..
وأخرجَ من فِتَنِ الأوتار.. الألحانْ
في ليلِ حدائِقِها..
تَتَفَتَّحُ أزهارُ قصائدِ شاعرها المنسيِّ..
فتملأُ أمداءَ العتمةِ .. عطرًا وغناءْ
تتلقاها أوّلُ عابرة من دفء الليل..
إلى الحمّامِ البغداديِّ..
أكانتْ تَعرِفُ أنَّ مفاتِنها.. توقظ حتى رغبات الجدرانْ
أهيَ جنانْ؟
تَصبُّ الماءَ على الماءِ
وينسدِلُ الليلُ على العاجِ..
تُغنّي بين أصابعها الحِنّاءْ
. . . . . .
. . . . . .
تقترِبُ القافِلَةُ البصريَّةُ من باب السلطانْ
يُفارِقُها الجاحظُ في الميدانْ
ويدخُلُ سوقَ الوراقين..
يُحاوِرُ في بيتِ الحكمَةِ..
كتّابَ الهندِ .. فلاسِفةَ اليونان.. مقولات الصينْ
يعاتِبهُ البُخلاءُ..
ويَقرأُ عنه الناسُ روايات التبيينْ
. . . . . .
. . . . . .
دعيني في هذي الليلةِ وحدي..
ابتعدي..
ما عدتُ أراكِ كما كنتِ..
يُساوِرني قلقي.. وأشكُّ برؤياي..
أأنتِ ..
لماذا ما عُدتِ تجيئينَ إليَّ بطلعتكِ العباسيَّةْ؟
ولماذا فرَّطتِ بما أوصاكِ به المنصورُ
أَنْ احتفِظي بالعطر الأندلسيِّ.. وقمصان الشام..
وطلعتكِ المَكيّةْ؟
. . . . . .
. . . . . .
فدعيني في هذا الملكوت.. أُروِّضُ أحزاني..
وأُعلِّمُها .. كيف يكون الحزنُ أخًا
والحنظلُ عسَلًا.. والسُمُ دواءْ
انتظريني.. سأعودُ إليكِ..
معي.. طينُ المشخابِ وعَنبرهُ..
والبَرحيُ البصريُ وخوخ ديالى المسكيُّ
انتظريني..
سَيُرافِقُني شطُّ الحلَّةِ.. يغسِلُ فَرعَكِ والقدمينْ
يُطَيِّبُ ثغرَكِ بالسِعْدِ..
انتظريني..
في سنةٍ سوداءْ
كانَ القرنُ الواحدُ والعشرونْ
يمدُّ يدًا شوهاءْ
تّتلقّاها مدنُ الأرضِ بما يدفعُ عنها الداءْ
تهمِسُ لي..
كيفَ سأدفعهُ عنّي.. وأنا بين وباءٍ ووباءْ
قريبًا من جسر الشهداءْ
بيتٌ تتعلَّم ممن فيه الريحُ..
ويحرسه الماء
تسكنه امرأةٌ لم يرها أحدٌ
تظهرُ حينَ تشاءْ
في أحلام الفقراءْ
وحينَ تمرُّ بها الغيمةُ.. تُوقِفُها
وتخطُّ عليها.. ما أودعَها عبداللهِ
تقول لها.. لا تبتعدي فالناس ظماءْ
واللغةُ الصفراءْ
تُخاصمُ أورادَ العِشقِ.. وتدْني منها أشواكَ الصحراءْ
. . . . . .
. . . . . .
في مجلس بِشْرِ الحافي..
تبدو بغداد مزنَّرةً بفُراتيها..
ومُعَوذةً بالرحمن.. بياسينْ
بأناشيد الصوفيينْ
يَحرسُها النخلُ ويمشي بين يديها بستان التينْ
. . . . . .
. . . . . .
توقِظهُ بغداد صباحًا..
يفتح عينيه..
وحيدًا ..
لا وطنٌ .. لا .. لا..
هربت من صفحات الكتمانِ قصيدتُهُ..
ومضت حافيةً تتعثَّر بالظلِّ..
يحاولُ أن يدخلَ في الظلِّ ليوقفها..
هرب الظلُّ..
وغلَّقَت الأبوابْ
15-5- 2020
0 تتداخل في القصيدة أسماء وأماكن، من الماضي البعيد والماضي القريب، ومن الحاضر أيضًا، يدركها المتلقي في القراءة .