شهادة إبداعيّة: موسى حوامدة
شاعر أردني
في العشرين؛ كنتُ أطمح إلى تحرير الأرض بالكلمات، كنتُ أعتبرُ الكلمة رصاصة في وجه الاحتلال، والقصيدة مقاومة.
في الثلاثين؛ صرتُ أعتبرُ القصيدة معبرًا إلى قلب العالم، وقلب المرأة، ووسيلة لكسب ودِّها، وتكسير التابوهات.
في الأربعين؛ صارت الكلمات حكيمةً، والقصائد خضراءَ، والشعر إشكالًا.
في الخمسين؛ أنشب الموت أظافره في جسد الكلام، كفَّن القصائد باللون الأبيض، وهمس لي: "دع الموتى يعبثون بالمعاني، ولا تلتفت لفضيلة الناجين من الجنون".
بعد الخمسين؛ يستكثرُ الشِّعرُ زراعةَ وردةٍ في أصيص الصباح، ولا يهدئ من نزق العاطفة، وجيشان الروح.
كان الشعر سلاحًا وزهرةَ حب،
صار الشعر بديلًا عن الخسارات
صار النَّقص غابة، والفراغ ملاذًا،
صارت السنوات عجافًا
والقلب يطوي غموضًا شهيًّا،
والقصائد لم تعُد تصلح لرتق خراب الحياة،
فلِمَ لا يعتزل الشعراء حين يبلغون أعالي النقصان؟
***
كثيرًا ما كنت أسألُ نفسي لماذا الشِّعر إذن، ولماذا أحبُّ العناء والألم، وأفسحُ له كل الوقت في تفكيري، ونظرتي، وتعاملي، وتفاصيلي اليوميّة؟ في كثير من الحوارات الصحفيّة التي سُئلت فيها لماذا أكتب الشعر، أو ما هو فهمي للشعر، وجدتُ أنني في كل مرة كنتُ أجيب عن السؤال بطريقة مختلفة؛ مرةً قلتُ إنني أكتب الشعر لأنني أتعالج نفسيًّا، ومرةً قلتُ لأنني أبحثُ عن تعويضٍ عن كلّ الخسارات التي مرّت معي، ومرة قلتُ إنني أكتب الشعر بحثًا عن كمالٍ ما، ومرة قلتُ إنني أكتبُ الشعر لكي أرى الطبيعة متوازنة، فالظُّلم موجود في الأرض، ولعلَّ العدل أقرب للخيال والفانتازيا منه إلى الواقع، ولذا أهرب إلى القصيدة، كي أقيم "مدينتي الفاضلة" أو "كوميدياي الإلهية" أو "فردوسي المفقود" بحثًا عن عدل غير قائم.
قبل ولادتي بسنوات، ضاعت بلادي، بتواطؤ دولي، حين أقرَّت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين عام 1947، إلى دولتين واحدة لليهود والثانية للعرب، اقتُلع الشعب العربي الفلسطيني من جذوره، وصار نصفه لاجئًا ومنفيًّا، وتمَّ طمس الهوية الفلسطينية، وتفتيت فلسطين إلى عدة أقسام، قسمٌ ألحق بمصر، وهو قطاع غزة، وقسم ألحق بالمملكة الأردنية الهاشمية وهو ما سمّي لاحقًا "الضفة الغربية" وفيها القدس الشرقيّة، وحتى قريتي التي وُلدت فيها لم تسلم من الدَّمار، فقد تمَّ هدمها من قبل الجيش الإسرائيلي، حين كنتُ طفلأ صغيرًا، ورأيتُ بيوتها وقد صارت ركامًا وغبارًا، وبعد ذلك بأشهر قليلة، تمَّ احتلال بقيّة فلسطين وهضبة الجولان السوريّة وصحراء سيناء المصريّة، وأجزاء من لبنان والأردن، وذلك عام 1967م.
تمَّ احتلال مسقط رأسي مرَّة ثانية، وبدأ إحساسي بالظلم يتزايد، وإحساسي بضياع هويّتي يكبر. لكنَّ الهوية الفلسطينية بدأت بالتشكُّل منذ النكبة كما يقول المفكر الفرنسي "جيل دولوز".
صار إحساسي بهويَّتي ولغتي أقوى، صرتُ أجدُ التعويض في اللغة، بعد أن بدأتُ أسمعُ رطانة غريبة من جنود الاحتلال، ولذا صار تشبُّثي بعربيَّتي أقوى وأكثر، يقول الشاعر البرتغالي "فرناندو بيسوا": (لا يهمّني حين يتم احتلال البرتغال كاملة، لكن سأصاب بالذعر لو مُسَّت اللغة البرتغاليّة، أو وجدتُ فيها خطأ)، هل كان تمسُّكي وتشبُّثي بلغتي بديلًا عن هزيمتي، وخساراتي المتتالية، لستُ أدري.
لماذا الشعر إذن، هل هو تشبُّث باللغة والهوية، ردًّا على الهزيمة والخسارة، والتشتُّت والشُّعور بخطر الامِّحاء والانقراض، أم نتيجة موهبة سماوية مجانية فقط، أم بسبب الشعور الدائم بالنَّقص في الحياة، النَّقص في الطبيعة، النَّقص في العدل، النَّقص حتى في القصيدة التي أكتب!
في كل إجابة عن سؤال "لماذا الشعر؟"، كنتُ أجد نقصًا، هذا يعني أنني لا أملك إجابة محددة، ولا شافية، أو ناجعة، وفي كل جواب كنت ألحظ نقصًا خلف الكلمات، وهذا النقص لم يتوفر عندي فقط، وجدته يتجلّى بوفرة حتى في تعريف القدماء من "أرسطو" إلى "هوراس" إلى "تي. س. إليوت" للشعر، وتبدَّى في تعريف النقاد العرب القدامى من قدامة بن جعفر وابن طباطبا حتى القرطاجني، ونازك الملائكة، وحتى نقاد اليوم غربيين وشرقيين، ظلوا أسرى هذه الفضيلة، أعني فضيلة النَّقص، والتي أعتبرها الدافع لكل كتابة شعرية ونقدية جديدتين.
في تقديم شهادتي في بيت الثقافة والفنون في عمّان، إثر صدور مجموعتي الشعرية (سأمضي إلى العدم..) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2017 وجدتني أكتب ما يلي:
أعرف أنَّني لم أكتب النص الكامل، لم أكتب القصيدة الكاملة، لم أكتب القصيدة النهائية، فالنص الكامل وهم، والنص النهائي فخّ.
أعرف أنَّ النص الذي أكتبه حتى الآن، والقصيدة التي تجتاحني حتى الآن مريضةٌ بالنقصان، زاهدةٌ في الكمال، متيمةٌ بتمام نقص صاحبها، متأملةٌ الفراغ الذي يعبئ الصدر والروح، متأرجحةٌ بين حنين لن يعود، وأملٍ لن يتحقق، وعدمٍ لم يبلغ كماله في ملحمة الوجود.
أعترفُ أنَّ حاجتي للعلاج، كانت دافعي للكتابة، وطمعي في أوكسجين إضافي، وحياة أجمل؛ كان هاجسي الأول، وطموحي الذي لا تبلغ النشوة مداه، والعمر عاجز عن اللحاق به، أكبر من كلمات تدفع كلمات، وقصيدة تطاول السماء، وتنحني بين يديّ المطلق.
ما أكتبُ إذن، وما كتبتُ من قصائد من "شغب" مرورًا بـ"شجري أعلى" و"موتى يجرّون السماء"، و"جسد للبحر رداء للقصيدة"، وحتى هذه المجموعة "سأمضي إلى العدم"، قصائد قد تعبِّر عن رؤيتي للكون، وهي تنشد أنين المجرّات الصاخب، عناءَ الجبال المحكومة بالصبر حيث تقيم، وجعَ الغيوم الشاردة، من قسوة الظلال، لهْوَ الخفيّ، وترانيم الألم.
لمَ لمْ يكتمل الكمال في حلبة النقصان إذًا؟
لأنَّ كثيرًا من الحضور غياب، وبعض الغياب حضور ساطع، يؤذي البصر قبل البصيرة، ولا تتم الأشياء دون نقصانها، ولا تبتهج الخسارات باختفاء دوافعها.
وهنا أعترف أنَّ الفتنة أشدُّ من الغياب، وأنَّ الغيابَ لعنةٌ تطارد الهديل، وهي تحفر عميقًا في سرداب العتمة، ولذا لا تقوم السماء بغير عمد، وإنْ قيل إنَّها لا تحتاج إلى روافع، فهي لا تعاني من وجع الجاذبية، لكن الأشجار المطرودة من حكمة الخضرة، تعرف أنَّ عذاب التراب لا نهاية له، ومرض الروح لا شفاء منه، وأنَّ الكتمان أبلغ آيات الاحتضار.
"سأمضي إلى العدم"، ليس عدم الفيزيائيين والرياضيين، وليس خلاص الممسوسين بلعنة التَّخيل، وليس عدم الفيزياء، ولا عدم الطبيعة، بل عدم اللافيزياء، عدم المنطق وعدم اللامنطق، عدم الحكمة، وعدم اللاحكمة، فهناك حياةٌ في العدم، أعني عدم القصيدة، ورماد الكلمات التي تضطهدها الحروف، وتثقل كاهلَها الحركات والنقاط والفواصل.
العدم الذي أسعى إليه، لا أعرفه، ولا أحدَ يُمسكُ به، لا أحدَ تذوَّق حلاوته، حتى أجد لنفسي مبرِّرًا للرِّضا، أو قبولًا بالزَّهو، ووقتًا للطمأنينة.
سأمضي إلى العدم، هناك خلَقت القصيدةُ كمالَها وظلالها وغدها، بعيدًا عن شروط الطبيعة، ومنطق الهزيمة، وحكمة الدُّهور.
ومن تلك الفيافي الواسعة الأرجاء، ومن تلك السهوب الشاسعة المساحة، ومن تلك النجوم الذاهلة عن مساوئ الظنون، تغادر القصيدة أرض التوقُّع، وشرفة التأويل، لتسفر عن وجهها الرّائي، وعينيها الحالمتين، بعالم أفضل، وحياة تليق بنشوة العصيان.
في هذه المجموعة "سأمضي إلى العدم" ألمٌ لم يتمِّم نقصه بعد، وعدمٌ لم يحقِّق ماهيّته بعد، وحلم يتبَّشث بما وراء الظلال، وما خلف السَّريرة، وما بين الذبذبات والذرّات، وما في حديقة الحلم المبتور، ونبوءة الهوامش، وهي تجرجرُ، رَداءةَ الحظ، وأعراض الدهشة، ومتلازمة الجنون.
هنا قصائدُ لا تُمسِّد شعر جاراتها، ولا تتأبط ذراع قائلها إلى حفلة سهر لطيفة، بل ميليشيات متمرِّدة حتى على قائدها الثائر، تذكِّر الكمال بدم الضحيّة، والخطوط بغياب الشَّهيد، والسُّطور بذلّ الحبر.
***
لماذا الشعر إذن؟ هل هو لتأكيد النَّقص، أم للبحث عن كمال مفقود، وأمل "لم" أو "لا" يتحقق؟ لا جواب مطلق ولا مؤكد، ولكن يبدو أنَّ هذا الغموض هو الذي يدفع بي دائمًا لكتابة قصائد جديدة، وعدم الرّكون إلى ما كتبته حتى اليوم.
- - - - - - - - - - -
* الشهادة قُدِّمت في قسم اللغة والدراسات العربية في كلية سري نيلا كانتا الجامعية في ولاية كيرلا الهندية بالتعاون مع أكاديمة التميز في الهند.