د. هيثم سرحان
أستاذ الأدب والنّقد وتحليل الخطاب- قسم اللُّغة العربيّة- جامعة قطر
على الرّغم من مركزيّة اللُّغة العربيّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، إلّا أنّ الاعترافَ بالتنوُّع اللغويّ واحترام التّعدديّة اللغويّة والحفاظ على التَّوازن والسَّلام اللغويَّين في العالم، هي أطروحة لها أأصل في التراث العربيّ والإسلاميّ، فهي حاضرة في التَّنزيل: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ". وقد وصَمَ ابن حزم الأندلسيّ دعوى المُفاضلة بين اللُّغات بالسُّخف، ورمى دعاتَها بالزّيغ والضّلال، فوجوه الفضل معروفةٌ وإنّما هي بعملٍ أو اختصاصٍ ولا عملَ للّغة، ولا جاء نصٌّ في تفضيل لُغة على لُغة.
مثّلَت اللُّغة العربيّة -بحسب ابن خلدون (ت 808هـ/ 1406م)- عنوانَ العمران البشريّ الذي خلّدته أعمالُ المسلمين التي لا تزال شاهدة على حضورِهم التاريخيّ، وهويتِهم الإبداعيّة وفعاليّتِهم الإنتاجيّة وخصوبتِهم المعرفيّة. إذ كانت اللُّغة العربيّة -بادئ الأمر- الوسيلةَ التي انتشرَ بها الإسلامُ وتعاليمُه ومبادؤه في بلاد العرب وشبه جزيرتهم، غير أنّ الإسلام غدا، بعد ذلك، حاملًا مباهجَ اللُّغة العربيّة وكنوزَ لسان العرب، ونَاشِرًا علومَهما وآدابَهما في جميع الأمصار التي وصلت إليها حوافرُ خيولِ المسلمينَ، وأخفافُ نياقهم، وصواري سفنهم. ثمّ أصبحت اللُّغة العربيّة بعد ذلك جهازًا في إنتاج المعارف والعلوم والآداب للشعوب والأمم التي تمثّلت العربيّة واكتسبتها بوصفها لغةً ظافرة ولسانًا قابلًا للاستثمار.
يُقصد بالعربيّة اللُّغة العربيّة الفصحى التي فرضت سلطانها بوصفها لغة عُليا في التَّواصل، ولغة أدبيّة في الإبداع في مطلع القرن الخامس الميلادي. واللُّغة العربيّة تُنْسَبُ إلى العرب. والعربُ، في أصل الاستعمال، والكلام لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي (1857- 1924م)، اسمُ قومٍ جمعوا عدّةَ أوصاف: الأوّل: أنّ لسانَهم كان اللُّغة العربيّة. الثاني: أنّهم كانوا من أبناء العرب. الآخِر: أنّ مساكنَهم كانت أرض العرب، وهي جزيرة العرب من بحر القُلزُم (البحر الأحمر حاليًّا) إلى بحر البصرة، ومن أقصى حَجَرٍ في اليمن إلى أوّل الشام؛ فاليمن داخلة في أرض العرب والشام خارجة منها(1).
على أنّ هذه المُحدِّدات تتَّصل بالعرب وأرض جزيرة العرب حين البعثة النبوية وقبلها؛ إذ سرعان ما امتدّت رقعة الجغرافيا مع فتوح الأمصار التي سكن العرب فيها من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، علاوة على شواطئ الشام وأرمينية، وهذه الأمصار والبلدان كانت مساكن الفرس والروم والبربر وغيرهم، وقد انتشرت في هذا الأمصار اللُّغة العربيّة، وامتزجت الثقافات والدماء(2).
أشار اللساني البريطانيّ "نيقولاس أوستلر" Nicholas Ostler في كتابه الموسوم بــِ"إمبراطوريات الكلمة: تاريخ للُّغات في العالم" إلى أنّ انتشار اللُّغة العربيّة، في العالم القديم، استغرق ثلاثة عقود، وهو زمن قصير في تاريخ اللغات. ولعلَّ استطاعة اللسان العربيّ في أن يُحقق حضورًا بارزًا وباهرًا في الجغرافيّات الثقافية التي انتشر فيها الإسلام ليس عبر القرآن الكريم وتعاليمه السّمحة فحسب وإنَّما عن طريق الأدب العربيّ الذي نجح في بسط نفوذه في خراسان وبلاد فارس والشّام والعراق ومصر وأفريقيا والأندلس في غضون ثلاثة عقود لم تَنْجُ فيها اللُّغة العربيّة من صدام اللّغات الذي يحكمُ قوانين التوسّع الحضاري والمُغالبة البشريّة(3).
• حقوق الإنسان اللغويّة
مثّل الإعلان العالميّ للحقوق اللغويّة(4) (Universal Declaration of Linguistic Rights) المنشور سنة 1998 مشروعًا حقوقيًّا تمخّضت عنه وقائع المؤتمر الدّولي لحقوق الإنسان اللغويّة الذي عُقد في مدينة برشلونة الإسبانيّة في صيف 1996، ويُشكّل إنجازًا بارزًا ومُتقدّمًا لجهودٍ ونداءاتٍ سابقةٍ دعت هيئةَ الأمم المُتّحدة إلى إقرار إعلان عالميّ للحقوق اللغويّة، نتيجة ظهور التّمييز اللغويّ واللامساواة اللغوية في أجزاء واسعة من العالم لأسبابٍ تتصل بالحروب والنزاعات السياسيّة والعِرقيّة والهيمنة الاستعماريّة، وجرّاء انتشار الدّعوة إلى لغة عالميّة موحّدة صادرة عن نزعة العولمة ومدعومة من الإمبرياليّة اللغويّة.
تضمّن هذا الإعلان الذي وُقِّعَ وصُودِقَ عليه في جامعة برشلونة في السادس من حُزيران سنة 1996 مطالبةَ الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو بإقرار الإعلان واعتماده رسميًّا ليكونَ دليلًا إرشاديًّا لصياغة سياسات لغويّة وطنيّة وإقليميّة ودوليّة في مختلف المجالات والتّجليات، وميثاقًا أُمميًّا ودوليًّا يقضي بالمساواة بين اللغات، وقانونًا عالميًّا يهدف إلى احترام التنوّع اللغويّ والتّعددية اللغوية والحفاظ على التوازن والسّلام اللغويين في العالم، وبيانًا إنسانيًّا يرمي إلى احترام حقوق الإنسان اللغويّة وحمايتها من جميع أشكال الإقصاء والعنف والهيمنة والتهديد بالإبادة، وعنوانًا عريضًا ينصُّ على توقير حقوق الأفراد والجماعات والمجتمعات اللغويّة في الحفاظ على لغتها والإبقاء عليها واستعمالها في شؤون الحياة المتنوعة وفي مختلف الأماكن التي يعيشون فيها.
• مقوّمات الحداثة في التفكير اللسانيّ العربيّ
إذا كان التّنوّع اللغويّ مفهومًا عابرًا للّغات والأمم، فإنّ التّعدديَّة اللغويّة تُمثّلُ مفهومًا اجتماعيًّا ومرجعيّةً حقوقيًّة مجال نطاقها الدّولة والإقليم؛ إذ يتعيّن على كلّ دولة الالتزام بها ضمانًا لتحقيق شروط العُمران الإنسانيّ، واحترامًا لحقوق الأفراد والجماعات اللغويّة وهويّاتهم وخلفياتهم الثقافيّة.
وتتمثّلُ مقاصد التّنوع اللغويّ في الاعتراف بلغات العالم كلّها وحمايتها من الزوال والاندثار عن طريق تمكين أصحابها اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا ليتمكّنوا من الصّمود والحفاظ على مذخوراتهم الثقافيّة ومدّخراتهم اللغويّة ووقايتها من الموت الذي يُحدقُ بها. وهذا يعني أنّ لغاتِ العالم كلَّها تملك أقدارًا متماثلة ومتكافئة من جهة تمثيلها الاجتماعيّ وتعبيرها عن هُويّة أصحابها، بصرف النظر عن المساحة الجغرافية التي تنتشر فيها أو عدد الناطقين بها ومستعمليها أو القوة الاقتصادية التي يتمتع بها أصحابها أو السّلطة السّياسية التي تحظى بها الدّول المنتشرة فيها.
ولعلّ ما يؤنسُ أنّ لأطروحة التنوّع اللغويّ أصلًا في التراث العربي والإسلاميّ، فعلى الرغم من مركزيّة اللُّغة العربيّة في الحضارة العربيّة الإسلامية إلا أنّ الاعترافَ بالتنوّع اللغويّ حاضرٌ في التّنزيل العزيز بوصفه مُعجزةً وعلامةً من علامات قدرة الله القائل: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ"(5).
كما أنّ نزول الوحي على النبي العربيّ محمد -صلّى الله عليه وسلّم- باللُّغة العربيّة لم يمنع أحد أبرز الأئمة والمحدّثين والفقهاء وهو ابن حزم الأندلسيّ الظاهريّ (ت 456 هـ/ 1064م) من أنْ يَصِمَ دعوى المفاضلة بين اللغات بالسُّخف ويرمي دعاتها بالزّيغ والضّلال قائلًا: "وقد توهّمَ قومٌ في لغتهم أنّها أفضل اللغات. وهذا لا معنى له لأنّ وجوهَ الفضل معروفةٌ وإنّما هي بعملٍ أو اختصاصٍ ولا عملَ للّغة، ولا جاء نصٌّ في تفضيل لغة على لُغة. وقد قال تعالى: "وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان قومه ليُبيّن لهم". وقال تعالى: "فإنّما يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون". فأخبر تعالى أنه لم يُنزل القرآن بلغة العرب إلاّ ليفهم ذلك قومُه عليه السّلام لا لغير ذلك. وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: "إنّ لغة اليونانيين أفضلُ اللغات لأنّ سائر اللّغات إنما تشبهُ إمّا نُباحَ الكلاب أو نقيقَ الضّفادع"(6).
وإذا كان التّفاضل بين اللغات التي نزلت بها الكُتب السماويّة والوحي مقولة ساقطة، فإنّ التّفاضل ودعواه يسقطان بين مختلف اللُّغات بصرف النّظر عن منزلة كلّ لغةٍ ومَنْشَئِها ومصدرها ورصيدها بما فيها اللُّغة العربيّة التي ذهب بعض المُتعصّبين إلى أنّها أفضل اللغات وأعلاها؛ لأنّ كلامَ الله تعالى قد نزل بها. يقول ابن حزم الأندلسيّ: "وهذا لا معنى له لأنّ الله عزّ وجل قد أخبرنا أنه لم يُرسل رسولًا إلاّ بلسان قومه. وقال تعالى: "وإنْ من أُمّة إلّا خلا فيها نذير". وقال تعالى: "وإنّه لفي زبر الأوّلين". فبكلّ لغةٍ قد نزل كلامُ الله تعالى ووحيه، وقد أَنزل التّوراةَ، والإنجيلَ، والزّبورَ، وكلّم موسى عليه السّلام بالعبرانيّة. وأنزل الصُّحف على إبراهيم عليه السّلام بالسّريانيّة فتساوت اللغاتُ في هذا تساويًا واحدًا. وأمّا لغةُ أهل الجنّة وأهل النّار فلا علم عندنا إلّا ما جاء في النّصّ والإجماع، ولا نصّ ولا إجماعَ في ذلك"(7).
إنّ ما يتضمّنه قول ابن حزم الأندلسيّ هو أنّ التنوّعَ اللغويّ أصلٌ في الاجتماع الإنسانيّ، وأنّه لا مزية للغة على لغةٍ أُخرى حتى إنْ كانت لغة التنزيل والكلام الإلهيّة، لاسيّما أنّ التنوّع اللغويّ حاضرٌ في التّنزيل العزيز بوصفه مُعجزةً وعلامةً من علامات القدرة الإلهيّة.
لذلك فإنّ القولَ بأفضليّة لغة على سائر اللّغات يسقطُ لعدم وجاهته، كما أنّ التّنوّعَ اللغويّ يقضي بالفصل بين المُقدّس واللُّغة من جهة والوصل بين المجتمع واللُّغة من جهة أُخرى؛ فكلّ لغة تُعبّر عن مجتمع يملكُ الحقَّ في التّعبير عن حاجاته ومآربه من خلال لغته دون أنْ تمثّلَ حالةُ التوافقِ بين اللُّغة والمُقدّس في بعض اللغات سببًا في هيمنة اللُّغة على اللغات الأُخرى، أو أنْ تُشكّل دافعًا لتفوّق أصحابها على غيرهم. وبالجُملة فإنّ تفوّق اللُّغة الاقتصاديّ أو السياسيّ أو الدينيّ أو الحضاريّ لا يمنحها الحقّ في الهيمنة اللغويّة والقضاء على اللغات الأُخرى وإبادتها.
كما تحضرُ التّعدديّةُ اللغويّة في خطاب ابن حزم الأندلسيّ بجلاءٍ؛ إذ يرى أنّ التّعدديّةَ اللغويّة مصدر ثراء وغنىً وإبداع، وأنّ الأُحاديّة اللغويّة تعرقلُ العطاءَ والتّقدّم وتعطّل التّفاهم. يقول ابن حزم: "وإنّما ظننّا هذا لأننا لا ندري أيَّ سبب دعا النّاس ولهم لغةٌ يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لُغة أُخرى، وعظيمُ التّعب في ذلك لغير معنىً، ومثلُ هذا من الفضول لا يتفرّغُ له عاقلٌ بوجهٍ من الوجوه. فإنْ وُجِدَ ذلك فمن فارغٍ فضوليٍّ سيّئِ الاختيار مُشْتَغلٍ بما لا فائدةَ فيه عمّا يعنيه، وعمّا هو آكدٌ عليه من أُمور مَعاده ومصالح دُنياه ولذّاته وسائر العلوم النّافعة"(8).
إنّ تخلي المجتمعات والدّول عن التّعدديّة اللغويّة وفرض الأُحاديّة اللغويّة لا يٌعدُّ انتهاكًا للغات وحقوق الجماعات حسب، بل إنه هَدْرٌ لقوى الإنتاج وتشويه للمتخيّل الاجتماعيّ ومُصادرة للذاكرة الجماعيّة، وتبديد للعلوم ومُنجزات اللغات الثقافيّة ومحو للهويّات وإجهاض للتقدّم والتنمية والتطور. وبعبارة أُخرى فإنّ الأُحادية اللغويّة إبادةٌ لغويّة واجتماعيّة من شأنها تخريق أواصر المجتمع. يقول ابن حزم الأندلسيّ موضّحًا: "ثُمّ من له بطاعة أهل بلده له في تركِ لغتهم والكلام باللُّغة التي عمل لهم؟ ولكنّا لسنا نجعلُ ذلك مُحالًا مُمتنعًا بل نقول: إنه ممكن بعيدٌ جدًّا. فإنْ قالوا: لعلّ ملكًا كانت في مملكته لغاتٌ شتّى فجمع لهم لغةً يتفاهمون بها كلُّهم. قلنا لهم: هذا ضدّ وضع اللّغات الكثيرة، بل هو جمعُ اللغات على لغة واحدة، ثمّ نقول: وما الذي يدعو هذا الملك إلى هذه الكُلفة الباردة الصّعبة الثّقيلة التي لا تُفيدُ شيئًا؟ وكان أسهل له أنْ يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه، فكان أخفّ وأمكنَ من إحداث لغة مُستأنفة، وعلم ذلك عند الله عزّ وجلّ"(9).
يعزو ابنُ حزم الأندلسيّ ضعفَ اللغات والتّمهيد إلى موتها إلى مجموعة من الأسباب فيقول: "إنّ اللُّغة يسقطُ أكثرُها ويَبْطُل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم"(10). إنّها ثلاثة أسباب تجتمع على اللغات فتؤذن بضعفها وتُنذرُ بموتها: السّبب الأوّل منها ذاتيّ يتمثلُ في فساد العمران الإنسانيّ في الدّولة النّاجم عن العصبيّات وغياب التّخطيط واختلال السّياسات، أمّا السّبب الثاني فراجعٌ إلى عامل خارجيّ يتّصل بالغزو والاحتلال الخارجيّ وسيطرة الغُزاة على مقاليد الدّولة والمجتمع سيطرة استعماريّة احتلاليّة إحلاليّة، وأمّا السبب الأخير فيعود إلى السّياقات القسريّة التي تدفع أهل اللُّغة إلى اللجوء والهجرة إلى بلاد ومجتمعات مُختلفة، واختلاطهم بغيرهم من ذوي الألسنة المُهيمنة في منافيهم ومَهَاجرهم ومواطن لجوئهم.
ويكشف تصوُّرُ ابن حزم الأندلسيّ المُتّصل بضعف اللغات وموتها عن عوامل ذاتيّة وموضوعيّة متواشجة منشؤها فساد الدولة السّياسيّ، وانتشار العصبيّات والنّزاعات المؤدّية إلى شيوع الوهن في مؤسسات الدّولة، وإضعاف روابط البنية الاجتماعيّة، وإشاعة الخَوَر في نفوس الأفراد والجماعات ممّا يدفعهم إلى الهجرة واللجوء إلى بلدان أخرى، ويجعل بلادهم عُرضةً للاستعمار والاحتلال.
ولعلّ رؤية ابن حزم الأندلسيّ المُتصلة بضعف اللُّغة وقوّتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهومين مركزيين هما: الأُمّة والدّولة، فأمّا الأمّة فتتضمّن النَّسَبَ واللسانَ العربيّين؛ فالعربيّ مَن كان نَسبُه ولسانه عربيّين، أو مَن كان نسبُه غير عربيٍّ لكنه عربيُّ اللسان. وبعبارة أُخرى، فإنّ التّصوّر الإسلاميَّ للأمّة سعى إلى ربط العروبة باللُّغة من أجل توسيع مضمار الهويّة واختراق العصبيّة القبليّة وخلخلة محدوديّة مفاهيمها المُتعالية التي حصرت العروبة بالنّسب، ولم يكن ذلك ليتحقق إلا بإجراء "تحوّل في العلاقات الاجتماعيّة من التأكيد على النّسب إلى التّأكيد على الإمكانيّات المادّية... وقيام حركات تدعو إلى العدالة الاجتماعيّة وإلى تحسين الأوضاع المعاشيّة"(11)، علاوة على التطوّر الاقتصاديّ الذي مثّل رافعة بنيويّة في هذه التحوّلات الجذريّة.
وبهذا المعنى، فإنّ الأمّةَ بناءٌ جامعٌ يستهدفُ بناء مُتخيّل عمرانيّ قائم على المساواة والهويّة الجامعة التي تتجاوز النّسَب والعصبيّات والعرقيّات التي يجب عليها تحييد فوارقها من أجل النّهوض الجمعيّ الكفيل بإحداث الّتقدّم والتحوّل والارتقاء لجميع العناصر والمكوّنات البشريّة التي تنتمي إلى الأُمّة.
وأمّا الدّولةُ فهي الشكلُ الذي يُعبّر عن التّنظيم الاجتماعي المتآلف في الحقوق والواجبات بين مختلف أفراد المجتمع، وهي تترجم المساحة الفعليّة التي يتحقّقُ فيها الوجدان الفرديّ وسعي الأفراد إلى تحقيق غاياتهم وتطلّعاتهم وأهدافهم السّامية التي يحيون من أجل تحقيقها، تلك المُتمثّلة في تمكين الأفراد من تحويل قواهم الكامنة إلى غايات ماديّة تتجلّى في تنمية الفكر والمعرفة والرّفاهيّة والسّعادة، وتحقيق ما يصبون إليه من سدّ الحاجات البدنيّة والفكريّة المُتنامية باستمرار، على أنّ غايات الأفراد وتطلعاتهم وأهدافهم لا يُمكن أنْ تتحقّق إلا بالتّعاون النّاتج عن القوّة الجماعيّة.
وبعبارة أُخرى، فإنّ على الدّولة تهيئة شروط الاجتماع الإنسانيّ المولّد للقوّة والفاعليّة الجماعية الكفيلة بتحقيق الغايات والتّطلّعات والأهداف التي ستثُمرُ التحوّلَ في الإنتاج والرفاهيّة والتّقدّم. أما إذا اقتصر دور الدّولة على توفير الحاجات الماديّة الأساسيّة دون أنْ تنهضَ بتحقيق شروط التّفاعلات الاجتماعيّة فإنّ وجودَها يتناقضُ مع قانون ولادتها فيتعارضُ، إذْ ذاك، حضورُها مع المجتمع والأفراد، نتيجة أخطاء إنسانيّة مُتعمّدة تؤدّي إلى نشوء الدّولة الاستبداديّة الظّالمة التي تشيع فيها المظالم والمفاسد والاضطرابات(12).
واستنادًا إلى هذه التصوّرات، فإنّ تصدُّع الدّولة مؤذنٌ بانهيار الأمّة وموت اللُّغة وانحلال عرى الرّابطة الاجتماعيّة وتداعي هِمم الأفراد وفتور عزائمهم وتراخي دافعيّتهم. يقول ابن حزم الأندلسيّ: "فإنّما يُقيّدُ لغةَ الأُمَّة وعلومَها وأخبارَها قوّةُ دولتها ونشاط أهلها وفراغهم. وأمّا مَن تَلِفَت دولتُهم، وغلب عليهم عدوُّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذّل وخدمة أعدائهم، فمضمونٌ منهم موتُ الخواطر. وربّما كان ذلك سببًا لذهاب لُغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيود علومهم"(13).
امتلاك اللُّغة العربيّة أسبابًا ذاتية للبقاء وقيم ثبوت راسخة وقوة تحوّل فاعلة -بحسب الأستاذ الدكتور نهاد الموسى- لن يشفع لها في الصّمود في حرب اللغات المُرتقبة، ذلك أنّ تصدّع مشروع الأُمّة الحضاري، وتهاوي أنظمة الدّول الوطنيّة، وتعطُّل مشروعي النهضة والتّنمية هي أقوى المخاطر التي تُحْدق باللُّغة العربيّة وأبنائها.
• الهوامش:
(1) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، الجزء الأوّل، تحقيق: محمد بهجة الأثري، المطبعة الرحمانية، القاهرة، 1929، ص11.
(2) نفسه، ج1، ص11.
(3) نيقولاس أوستلر، إمبراطوريات الكلمة: تاريخ للُّغات في العالم، ترجمة: محمد توفيق البجيرمي، دار الكتاب العربي، بيروت، 2011، ص25.
(4) للوقوف على ترجمتنا موادّ الإعلان العالميّ للحقوق اللغوية ينظر: الإعلان العالميّ للحقوق اللغويّة، مجلة التخطيط والسياسة اللغويّة، ع11- السنة السّادسة، مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخدمة اللُّغة العربيّة، الرياض، أيلول/ سبتمبر 2020، ص145-178. ترجمة: هيثم سرحان، وعذبة المسلمانيّ.
(5) القرآن الكريم، سورة الرّوم، آية 22.
(6) الإحكام في أُصول الأحكام، ج1، تحقيق: أحمد محمد شاكر، تقديم: إحسان عبّاس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980. ص33-34.
(7) نفسه، ص34.
(8) الإحكام في أُصول الأحكام، ج1، ص33.
(9) نفسه، ص33.
(10) نفسه، ص33.
(11) انظر: عبدالعزيز الدّوري، الجذور التّاريخيّة للشّعوبيّة: دراسة في الهُويّة والوعي، ط4، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2003، ص96-98.
(12) انظر: عبدالله العرويّ، مفهوم الدّولة، ط9، المركز الثّقافي العربيّ، الدّار البيضاء- بيروت، 2011، ص13-17.
(13) الإحكام في أُصول الأحكام، ج1، ص32.