هزاع البراري
أديب وروائي - أمين عام وزارة الثقافة الأردنيّة
الثقافة نتاج إنساني عابر للجغرافيا وللزَّمن، في حالة من المراكمة التي تتعاضد فيها الأمم، وإن اختلفت في مشاربها ومرتكزات تراثها ومراحلها التاريخيّة، وهذه الثقافات في اجتماعها على ما تحوي من تنوُّع وغنى، هي مَن يكوِّن الحضارة البشريّة على امتداد واستدارة الكرة الأرضيّة. وعلى مَرِّ الزَّمن وتعاقُب الحقب التاريخيّة، كانت الثقافة مساحة الوصل ونقطة الملتقى، والميدان الواسع لتلاقح الأفكار وتكامل المشاريع النهضويّة، فكل أمّة تأخذ ممَّن سبقها وتنهل ممَّن جاوَرَها، لتبنِيَ مشروعها الثقافيّ، الذي يأخذ مكانته في فسيفساء الحضارة الإنسانيّة، وهو المكان الأمثل لبناء مساحات التقبُّل والعيش المُشترك والتنوُّع الثقافيّ.
إنَّ التاريخ المُشترك بين الأتراك والعرب على امتداد قرون طويلة، والإقليم الجغرافي الذي جمعهم ويجمعهم إلى الأبد، وعوامل الدّين واللّغة والتراث والتاريخ المُشترك والمُتداخل في كثير من المواقع، والمصير الواحد الذي جمعهم عبْر حقب مختلفة، جعل من الثقافة اللُّغة الجامعة التي لا مناص من اتقانِها وممارستِها في تمتين الحاضر وبناء المستقبل، ولعلَّ هذا يُسهم، وبشكل حاسم، في استقرار راسخ في المنطقة، وتشييد بنىً اقتصاديّة ووشائج اجتماعيّة، من شأنها دفع عجلة التنمية في كلِّ المجالات، ومُواجهة عوامل التطرُّف ومسبِّبات التوتُّر، وبناء مستقبل مزدهر للمنطقة برمَّتها.
شكَّلت الثقافة العلاقة الأبرز بين الأردن وتركيا، وترسَّخت الصِّلات في مجالات الآداب والفنون، وأصبحت لغة الإبداع هي السّمة الأبرز بين البلدين، ناهيك عن العلاقات الاقتصاديّة، فازداد البناء الثقافي المشترك متانةً وعلوًّا؛ حيث نشهد حراكًا في مجال المعارض الفنيّة، ومعارض الكُتُب، وحركة التَّرجمة الآخذة بالنموّ، والمُشاركة في المؤتمرات المتعدِّدة، وحضور الدراما اللافت، ومهرجانات السينما والمسرح وغيرها، التي تتواكب مع حراكٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ كبيرين.
لا شكَّ أنَّ ظلال جائحة كورونا كانت قاتمة على العالم بأسرِه، وقد أثَّرت سلبًا على مجمل برنامج عام الثقافة الأردني- التركي، لكنَّنا نعي أنَّ الثقافة ليست فعلًا مناسَباتيًّا، بل هي فعل شموليّ متواصل، يتَّصف بالنموّ الطبيعي، خاصة مع توفُّر العوامل المشجِّعة والبيئة المناسبة والإرادة لدى الطرفين، لذا، فإنَّنا في وزارة الثقافة الأردنيّة ننظر بتفاؤل أكبر للمرحلة القادمة، متوقِّعين مزيدًا من التقدُّم والنُّهوض في العلاقات الثقافيّة بين البلدين، فكلّ موجبات هذه النهضة متوفِّرة وراسخة في التاريخ والحاضر، وتؤشِّر على مستقبل يتَّصف بالثَّراء والتميُّز.
يُعدُّ هذا الملف الذي تنشره مجلة "أفكار" نافذةً واسعةً للاطِّلاع على مسارات من الثقافة والتراث التركيّ المشرقيّ، فالثقافة ليست تاريخًا وأدبًا وفنًّا وحسب، إنَّها حالة متكاملة تتداخل فيها البنى الاقتصاديّة من سياحة وتجارة وصناعة وحِرَف، مع علاقات سياسيّة ناضجة ومستقرَّة، مع عوامل مشتركة تجذَّرَت عبْر قرون طويلة، وهي بادرة من وزارة الثقافة الأردنيّة سيُناظرها نشر ملفّ أردنيّ في مجلة تركيّة أو أكثر، ممّا يفتح المجال واسعًا لمزيد من التبادل الثقافي والعمل المشترك في مجال الثقافة والفنون والفكر، فالثقافة هي البوّابة الكبيرة التي تعبُر منها علاقات الشُّعوب، وهي العتبة الأساسيّة في تشييد الحضارة الإنسانيّة الجامعة.