الحسين أخدوش
كاتب ومترجم مغربي
لئن كانت الفلسفة مُرتبطة بالمدرسة والجامعة بسبب ارتباطها بصفوف الدِّراسة في سياقِنا الثقافيّ، فذلك لا يلزم منه حصرها داخل أسوار تلك المؤسّسات؛ بل ينبغي انفتاحها على ضفاف الحياة العامّة كي يتأتّى لها مُساءلة قضايا الناس الآنيّة والفعليّة، قدر الإمكان. ومن هنا، سيكون من المتاح تجاوُز مسألة نخبويّة الفلسفة المزعومة للوصول إلى أكبر قدر ممكن من تجارب الناس الفعليّة: أي معيشهم اليوميّ.
للوهلة الأولى، يبدو سؤال "ما معنى الحياة؟" شبيهًا بذلك النوع من الأسئلة التي على غرار "ما لون العاج؟"، لكن هل هو كذلك حقًّا؟ هل يمكن أن يكون أقرب إلى سؤال "ما مذاق الهندسة؟".
معنى الحياة- تيري إيجلتون
ما معنى الحياة اليوميّة؟ قد تعني هذه الحياة "مجموعة من الوظائف الحيويّة التي تُقاوم الموت"(1)، وقد تُشير إلى الشكل الذي يتَّخذه مجرى الأمور الاعتياديّة في اليوميّ، إلخ. تدلّ الحياة بهذه المعاني على المعيش اليومي للإنسان، إنّها هذا الذي يشكّله النشاط البشري وتصوغه الفاعليّة الإنسانيّة: الطريقة التي يتصرَّف بها الناس، ويشعرون ويفكرون بشكل عام كلّ يوم، أو خلال دورة الـ"24 ساعة" الدائمة. لذا، فالمَعيش اليومي يتميَّز عن الحياة، بكونه حصيلة الوعي بها(2)؛ إنّه يتَّخذ مظاهر الحياة اليوميّة التي نتصرّف وفقًا لها على شكل عادات وذكريات وتصرُّفات. ولذلك فهو ما يمثّل محتوى الحياة اليوميّة للإنسان.
لا تقتصر الحياة اليوميّة للناس كلّها على الالتزامات والقيود، وإنّما أيضًا هناك أنشطة تلقائيّة وترفيهيّة وحتى عبثيّة. ويَطرح معنى هذه الحياة الأسئلة الأكثر أصالةً وعمقًا، حيث الوجود البشري يبحث عن معناه الغائي والميتافيزيقي. غالبًا ما تُطرح القضايا الميتافيزيقية في شكل سلسلة من الأسئلة البسيطة والشائكة معًا: "من نحن؟"، "من أين نأتي؟"، "إلى أين نصير؟"، إلخ. خلال مسار الثقافات البشريّة، تناول العديد من التيارات الدينيّة والفكريّة والفلسفيّة والعلميّة والفنيّة هذه الأسئلة، وذلك في سبل تقديم معالجة لها بحسب كلّ تصوُّر وفهم وتأويل لمجرى الأحداث في هذه الحياة. ولقد أدّى كلّ ذلك إلى ظهور العديد من الأساليب والاستجابات المختلفة لقضايا هذه الحياة في تجانسها وتناقضاتها.
تمثِّل الحياة اليوميّة موضوعة للعديد من الدراسات العلميّة وغير العلميّة، ويمكن الإشارة إلى بعضها على سبيل المثال؛ دراسة "كلود جافو" حول "سوسيولجية الحياة اليوميّة"(3)، ودراسة "هنري لوفيبر" حول "نقد الحياة اليوميّة"(4)، كما توجد هنالك دراسات قيّمة للطبيب النفسي "سيجموند فرويد" تحت عنوان "علم النفس المرضي للحياة اليوميّة"(5). وبالإضافة إلى ذلك، هناك محاولات فلسفيّة تقارب موضوع الحياة اليوميّة، أبرزها دراسة "بيير ماشيري" بعنوان "اليومي موضوعًا للفلسفة"، حيث يعرِّف الحياة اليوميّة بكونها "مخطّط ينعقد على ضوئه لقاء الكوني بالخصوصي الذي يأخذ شكل تَعارُض مكشوف بدلًا من وضعهما مع بعضهما بعضًا بشكل توافقي مستمرّ، فيأخذ شكل تعارُض مكشوف على خلفيّة الغرابة المقلقة لأيّ انقلابات فجائية"(6).
لئن كانت الفلسفة مُرتبطة بالمدرسة والجامعة بسبب ارتباطها بصفوف الدِّراسة في سياقنا الثقافي، فذلك لا يلزم منه حصرها داخل أسوار تلك المؤسّسات؛ بل ينبغي انفتاحها على ضفاف الحياة العامّة كي يتأتّى لها مساءلة قضايا الناس الآنيّة والفعليّة، قدر الإمكان. من هنا، سيكون من المُتاح تجاوز مسألة نخبويّة الفلسفة المزعومة للوصول إلى أكبر قدر ممكن من تجارب الناس الفعلية: أي معيشهم اليومي. في هذه الحالة، سيكون فيلسوف مثل "سبينوزا" قادرًا على شرح جموح استهلاكنا اليومي عبْر مبدأ الـ"conatus" الذي يحكم تصرُّفاتنا وأفعالنا دون وعي منّا؛ حينها، سيكون عمل هذا الأخير تقريب الفلسفة إلى أكبر عدد من الناس، فيدركون أهميَّتها في حياتهم اليوميّة. وربَّما ستحصل لديهم بعد ذلك الرّغبة في التفكير بمفردهم في مسائل هذه الحياة.
من وجهة نظر "هيغليّة" صرفة، يلزم أن تشمل الفلسفة كل ما هو واقعي، وأن تفهم الواقعي في كليّته عبر التفكير في التاريخ والوقائع. لذلك كلّ فلسفة تفكّر في الحياة تستحق أن تكون كونيّة، وستكون الفلسفة بهذا المعنى هي التفكير في الحياة بشموليّتها. وأيضًا، سيكون هنالك، من وجهة نظر أخرى ممكنة، أنّ مَن يريد ممارسة الفلسفة، يتوجّب عليه أن يفهم المسألة على النحو الآتي: "أن يتفلسف المرء، يعني أن يفكّر في حياته، ويعيشها بأفكاره"(7).
وفقًا لهذه الدعوى، يتحوّل الفكر إلى نمط من الحياة أكثر نشاطًا ووضوحًا وحريّة؛ أي أنّه يستحيل إلى نوع من التمرين الفلسفي الروحي كما عند "بيير آدو". والواقع أنّ هذا الأمر ليس من قبيل المصادفة، ذلك أنّ الاهتمام بالحياة اليوميّة هو في حقيقته رجع صدى دعوى أخرى مضادة للفلسفة، وهي أطروحة نهاية الفلسفة. وبالفعل، فمع بروز هذا القلق من انحسار دور الفلسفة، وبالأخصّ طريقة معيَّنة في التفلسف، بدت فكرة التمارين الفلسفيّة الروحية تهيّء الظروف لإحياء نهج فكري قديم ظلّ على هامش التاريخ الرَّسمي للفلسفة (تحديدًا النَّهج التأمُّلي العملي لدى بعض المدارس الفلسفيّة القديمة: الرواقية، الكلبية، الأبيقورية، إلخ).
يمكن استثمار المفهوم الفلسفي للحياة اليوميّة في مسألة تربويّة مهمّة، وهي ربط الدرس الفلسفي بالتمارين الروحيّة من خلال مختلف أشكال التمارين الفلسفيّة. وقد يفيد هذا الأمر في وصل الفلسفة بالحياة الفعليّة للمتعلّمين، وفي الوقت نفسه تحقيق قدر إيجابي من تعليم الفلسفة من خلال الاهتمام بصور الحياة، كما تحدّث عنها "لدفيغ فتجنشتين"، وجعلها هدفًا أساسيًّا لممارسة التمارين الفلسفيّة. لكن أيضًا يمكن للفلسفة المدرسيّة أن تقلق بشأن الحياة اليوميّة بالقول إنّ في ذلك تحوير مجازف لدور الفلسفة في المنهاج الدراسي، وإنّ الحياة اليوميّة في حركيّتها المستمرّة والمتنوّعة قد يؤدّي بها إلى التخلّي عن تميُّزها النظري وقيامها على مسافة نقديّة من الأشياء المتبدّلة والمتغيّرة.
إنّ ما يجعل موضوع الحياة العادية مهمًّا من الناحية الفلسفيّة هو أنّه لا ينكشف ولا يظهر إلاّ عبر رفع حُجُب الجهل التي تغطّي غرابته وأصالته(8). هذا الإظهار للأشياء، برفع "حجب إزيس" عنها، هو ما يتأتى بالتحديد عبر ممارسة التمارين الفلسفيّة كنشاط فكري روحي يُعيد للأشياء البسيطة والتافهة طابعها الغامض والعميق أيضًا. وهذا ما يجعل مفهوم التمارين الفلسفيّة مترابط مع مفهوم الحياة، وبالأخص الحياة اليوميّة التي تتكشّف عبرها كلّ التوترات التي ينطوي عليها الوجود البشري.
هذه الطريقة في رؤية الحياة العاديّة، كمجال واقعي للمعيش الإنساني، هو ما يعهد إلى الفلسفة مهمّة استكشاف هذا المعيش اليومي عبر فعاليّتها النقديّة والمفهوميّة(9). لكن في سبيل القيام بهذه المهمّة، لا يمكن تجنُّب مواجهة صعوبة المسألة الآتية: كيف يمكن ممارسة فعل التفلسُف على الحياة البشرية العادية علمًا أنّها لا تنحصر في صورة محدّدة؟
تمثّل الحياة توليفة واقعيّة، إلّا أنّها تبقى غير متناهية، فهي في تحوُّل دائم في الفعل والفكر. لذا، فمفارقة حضورنا في هذا العالم هي ما يجعلنا لا نألف نمط عيش معيَّن فيه، حتى نتخلّى عن تجريب كلّ محاولة أخرى. فهل يلزمنا التوقّف عن التفكير للعمل وتصبح الحياة بذلك خفيّة؟ أم أنّه يلزم التوقُّف عن العمل للتفكير، فتتكشّف الحياة على ضوء هذا الموت المترتب عن عدم المشاركة فيها؟ وكيف لنا بالخروج من هذه الازدواجيّة؟ هل نستطيع الكلام عن الحياة اليوميّة دون تحطيم شأنها في الوقت نفسه؟ ما السبيل إلى إظهار الحياة دون أن تفقد جوهرها؟ هل من الممكن رفع كل الحجب عن إيزيس دون تعنيفها؟(10)
تثير هذه المسألة اهتمام بعض الفلاسفة بالحياة العادية وبتفاصيلها الدقيقة، غير أنّ شكوكًا أخرى قد تجعل المرء يعتقد بسهولة أنها لا يمكن أن تكون الموضوع الراهني للفلسفة. فالشُّروع في ممارسة التفلسف بصدد اليومي هو مخاطرة بالتفكير في عدم الاستقرار، والتحوُّل والغموض لدى بعضهم، حيث تحدث فقط توليفات جزئية نتائجها لا يمكن أن تكون موضوعًا لتوليف كلّي. إنَّ عالم الحياة اليوميّة مجال لما هو غير متوقع، بالتالي ليس قابلًا لأن يتلاءم مع مجموعة منهجيّة من الممارسات الخاضعة للانتظاميات الثابتة للفكر والمعرفة.
إنّ الحياة اليوميّة معرَّضة دائمًا لخطر المخالفات، وهذا ما يجعلها شكلًا غير محدود، ونمط وجود ذاتي متغاير ومتمايز من فرد إلى آخر. من هنا، سيكون التواجد المشترك الدائم وغير المحدود في اليومي مصدر مفاجأة وتوتر للأفراد، وهذا الذي يشكل نسيج حياتنا اليوميّة، هو ذاته الذي يجعل الحياة كما نفكّر فيها، لا كما نريدها. في هذه الحياة يتشابك اليقين والشكّ بشكل لا يقبل للتحديد(11)، ولذلك يتوجّب على التفكير الذاتي الاستجابة، بقدر حجم الأسئلة الفلسفيّة اللصيقة بالمعيش اليوميّ.
• الهوامش
1- André Comte-Sponville, Dictionnaire philosophique, Éditions PUF, 2013, p.3451
2- Ibid, p.3405.
3- Claude Javeau, Sociologie de la vie quotidienne, édition puf , Collection: Que sais-je, Paris, 2003, p. 13.
4- Henri Lefebvre, Critique de la vie quotidienne, t. I (Introduction), éd. L’Arche, 1958, p. 224
5- Sigmund Freud, Psychopathologie de la vie quotidienne, tr Abraham A. Brill, éd Prospekt, 2015, p.56.
6- Pierre Macherey, « Le quotidien, objet philosophique ? », Articulo - Journal of Urban Research, 2005, Online since 24 October 2005, connection on 04 May 2020. URL: http://journals.openedition.org/articulo/871 ; DOI: https://doi.org/10.4000/articulo.871
7-André Comte-Sponville, Dictionnaire philosophique, Éditions PUF, 2013, p1120.
8- Pierre Dulau, Thierry Formet, Martin Steffens, Une journée de philosophie: les grandes notions vues à travers le quotidien, éditions ellipses, Paris, 2013, p7.
9- Daniele Lorenzini, La vie comme ”réel” de la philosophie. Cavell, Foucault, Hadot et les techniques de l’ordinaire, Variétés du perfectionnisme moral, Presses Universitaires de France, pp.469-487, 2010. halshs-00742693, p.474.
10- Ibid, p.8.
11- Pierre Macherey, « Le quotidien, objet philosophique ? », op, cite, p.15.