د. ضياء خضير
قاص وناقد عراقي
في مسار التطوُّر الذي ترسمه هذه القصيدة- القصة، يتأمّل حميد سعيد التحوُّلات التي تشهدها الشخصية هنا: طفلة، ثم صبيّة، ثم امرأة تكبر وتخفي مفاتنها، ثم امرأة تحمل طفلها. هذه القصيدة حصيلة تجربة حقيقيّة عاشها الشاعر بمعتزلِه في العاصمة الأردنيّة عمّان. وتختلف
شخصيّة الفتاة التي يدور السَّرد حولها هنا عن تلك الشخصيّات الروائيّة التي كتب عنها حميد سعيد في ديوانه (أولئك أصحابي)، فالسارد هنا لا يتماهى مع هذه الشخصيّة، ولا يتخذ منها رمزًا أو معادلًا موضوعيًّا يرى نفسه أو بعض جوانبها من خلاله.
تندرج قصيدة "تحوُّلات" للشاعر حميد سعيد في إطار النصوص التي تتخذ طابع السرد القصصي الذي نتابع فيه رسم حالات ومصائر شخصيات ونماذج بشرية، وما تنتهي إليه في تحوُّلاتها التي يلعب عامل الزمن دورًا في تحديد المساحة التي يتحرك فيها الفعل السردي، وما ينتهي إليه من فراغات يُناط بالقارئ ملؤها.
فالقصيدة ليست كالقصة أو الرواية في نوع أداتها اللغوية المستخدمة، أو مساحتها الكتابية والزمانية المتوفرة، وطريقتها الموجزة في السرد، ونوع العقدة التي ينتهي إليها الحدث، وما يتصل به من تطوُّر درامي نصل معه إلى منطقة الذّروة التي تُبقي القارئ عند حدود الاندهاش والتساؤل عن حقيقة ما يحدث على صعيد الفعل السردي والنوايا الخبيئة المرافقة له.
القصيدة، كما أخبرني راويها الشاعر، حصيلة تجربة حقيقيّة عاشها بمعتزلِه في العاصمة الأردنيّة عمّان، والمقهى التي كان يختلف إليها قريبًا من بيته هناك.
وشخصيّة الفتاة التي يدور السرد حولها تختلف عن تلك الشخصيات الروائية التي كتب عنها الشاعر نفسه في ديوانه (أولئك أصحابي) الصادر عام 2015، وفِي دواوين أخرى متفرقة. فالسارد لا يتماهى مع هذه الشخصية، ولا يتخذ منها رمزًا أو معادلًا موضوعيًّا يرى نفسه أو بعض جوانبها من خلاله، والتعبير عن رؤيته لها وما تنطوي عليه من قيم سردية أخلاقية وفكرية مهيمنة.
الشخصية التي رصد الشاعر هنا ملامحها وتحوُّلاتها السردية السريعة من طفلة صغيرة إلى صبيّة، وامرأة جميلة ناضجة "تزهو بما اكتنزت من عجائب أمر النساء"، حتى اللحظة التي رآها فيها تحمل طفلًا، تختلف، كما قلت، عن تلك الشخصيات الروائيّة المصنوعة من الخيال، بصرف النَّظر عن تاريخها ومصادرها وإيحاءاتها الواقعيّة. فهي شخصية حقيقية ملتقطة من واقع الحياة ومليئة بحرارته، وليست مستلّة من الورق أو من محض المتخيّل السردي؛ شخصية حيّة من لحم ودم، ومن تلك النماذج البشرية العربية المتروكة في العراء بسبب الفقر والحرب ومخيمات اللجوء والهجرة القسرية، والتي نصادفها هذه الأيام مقذوفة في شوارع المدن العربية تدور بين مقاهيها وأسواقها وحاراتها بحثًا عن لقمة العيش.
والحوار شبه الصامت الذي كان يدور طوال الوقت بين الشاعر في مجلسه اليومي، في تلك المقهى، وبين تلك الفتاة الصغيرة التي تأتي لتبيعه أشياء لا يريدها، وتأخذ منه ما توفّر في جيبه من نقود قليلة، ينطوي على مُفارقات لا تخلو من طرافة وقوّة في دلالتها.
اذْ على الرغم من الفارق في العمر بين رجل كبير وطفلة صغيرة، نجد أنَّ هناك توحّدًا قد لا يكون مُعلنًا في المشاعر مصدره كون الشخصيتين كلتيهما تعيشان واقع الحال نفسه على مستوى فقر الحال وغنى المشاعر، والنَّفي خارج البلاد فيما يتَّصل برجل المقهى.
والارتباط الخارجي الخفيف بينهما على صعيد العلاقة المحدَّدة في حيّز المكان حيث الأصدقاء والأصحاب، والمدى الزمني الذي تستغرقه زيارة الفتاة العابرة للمقهى، صار يتعدّى العلاقة الاعتباطية المتصلة بالبيع والشراء الزائدة، والمال القليل الذي يأتي ولا يأتي به الغيب للرجل الواهب، على الرغم من قلة ذات يده، إلى نوع من الارتباط الحميم بين ذاتين بشريّتين تتعاطفان بحكم وضعهما الإنساني المشترك، مع بعضهما بعضًا، وتتخذان من ذلك المال القليل والبضائع التي يعرفان كلاهما أن لا نفع فيها تعلّةً ووسيلة لدوام العلاقة واستمرار سببها، قبل أن نكتشف ما يخبِّئه الغيب من مفارقات سردية أخرى لم تكن تخطر على بال الرجل الجالس في مقهاه، مراقبًا نموّ جسد تلك الطفلة وتحوُّلها الدراماتيكي الغريب، دون تمهيد، إلى امرأة تحمل طفلًا على صدرها.
ولنستعرض قصة هذه العلاقة في مقاطعها أو تحوُّلاتها ومراحلها الأربع:
طفلة،
وصبيّة،
وامرأة تكبر وتخفي مفاتنها،
ثم امرأة تحمل طفلها وتفاجئ صاحبها بالقول إنه أبٌ طيّب لهذا الطفل!
"حيثُ يجلسُ كلَّ صباحٍ..
تَمُرُّ به طفلةٌ
لتبيعَ له أيَّ شيءٍ
سيتركهُ حين يغدو إلى البيتِ
يمنحها.. كلَّ ما كان في الجيبْ
وهو قليلُ قليلٌ
ويعرِفُ.. أنْ ليسَ شيئًا من المال..
يأتي به الغيبْ".
وكما نرى، لا تنطوي لغةُ هذه القصيدة في ظاهرها على أيّ تعقيد لفظي أو بلاغي يتساوق مع طبيعة العلاقة القائمة بين الشخصيتين الموصوفتين في واقعهما الملموس. وقد يكون السبب في ذلك أنَّ هذا التعقيد لا يظهر، هو الآخر، على سطح هذه العلاقة في نسختها الواقعيّة. فهي تنطوي عليه، أو على شيء منه في بنيتها الداخليّة المتموِّجة كتموُّج العلاقة الصامتة أو المسكوت عنها بين طرفيها.
والخصام الذي يحدث بينهما حين يقول لها: "لا مال عندي" يمثِّل نوعًا من المُناكدة والمُناكفة الشخصيّة، ويعكس قوّة العلاقة وطبيعة ما وصلته من (ميانة) أكثر ممّا يصف ضعفها أو انعدامها.
فالفتاة تخاصم الرجل بسبب عدم إعطائها المال، وتخرج دون أن "تترضّاه"، ولكنها "ستعود" إليه في اليوم التالي على الرغم من ذلك. وكأنَّ ما تريده منه كان شيئًا أكثر من المال، وأكثر من بيع تلك الأشياء التي تعرف أنه سيتركها حين يغادر موضعه في تلك المقهى.
"يومَ يقولُ لها بالإشارة.. لا مالَ عندي
تخاصمهُ وتغادرُ
تخرجُ من دون أنْ تترضّاهُ
لكنها.. ستعود".
وثمّة فراغات زمنيّة مفهومة في هذه القصة التي تمتد سرديّاتها المتقطّعة، من وجهة نظر راويها، لسنوات، وليس لأيام وشهور. وحين يحدّث الرجل أصحابه في المقهى عن طفلة الأمس حين تطلُّ عليه بعد غياب طويل وهي تخفي مفاتنها، وتزهو بما اكتنزت من عجائب أمر النساء، فإنه يركِّز، كعادة الرجال، على الجانب الأنثوي الذي تحمله هذه الطفلة- المرأة دون أن تكون مسؤولة عنه.
فهي تتطوَّر وتنضج وتصبح مثل وردة عطرة أو فاكهة شهيّة تستثير الآخرين بشكلها وطعمها بفعل الطبيعة، وليس بإرادتها الخاصة. غير أنَّ ذلك لا يتعدّى الملاحظة الموضوعيّة، أو الطبيعية المهتمّة برؤية التحوُّل في وضع هذه المرأة وجسدها خلال هذه المدة الزمنية الطويلة، وما يتخلّلها من انقطاع وتواصل يحدث في المكان نفسه، وليس أكثر من ذلك.
"يقول لِمَن معهُ..
وهي تخفي مفاتنها..
هذه طفلةُ الأمسِ
تزهو بما اكتنزتْ من عجائب أمر النساءْ".
وكل ذلك يبدو طبيعيًّا في مسار التطوُّر الذي ترسمه هذه القصيدة- القصة. غير أنَّ ما يأتي في المقطع الأخير منها هو الذي يبعث على الانتباه والتأمُّل:
"كُنْتَ أبًا طيِّبًا..
وكلُّ الذي كان بيني وبينكَ..
يا سيدي.. إننا فقراء".
فهذا المقطع الأخير من مقاطع القصيدة هو الذي يفجِّر المفاجأة، ويرسم آخر فصول تحوُّلاتها الواقعيّة والمجازيّة. فهو يجسّد مأساة واقعنا العربيّ في قمّة صورتها الميلودرامية الفاضحة، حيث قسوة الظروف والذئاب البشرية المترصدة التي لا بدّ أن تكون قد عبثت بجسد الفتاة ودنّست نقاء هذه الطفلة- المرأة، وانتهكت عرضها وأولدتها هذا الطفل الذي لا أب معروفًا له فيما يبدو، ويبقى مع أمِّه في صورتهما الرّاهنة وهما يدوران بين المقاهي والشوارع مثل علامة استفهام حيّة عمّا حصل ويحصل في بؤس واقعنا السياسي والاقتصادي العربي.
وهو، في الوقت نفسه، تحوُّل مجازي؛ لأنَّ الفتاة لا تعرف نسبة طفلها الوليد إلى أب غير هذا الرجل الكبير الطيِّب الذي كانت تأتية كما تأتي غيره، وهو في مجلسه الأبديّ في هذه المقهى لتسأله العطاء لنفسها ولعائلتها التي لا بدَّ أن تكون موجودة في انتظارها في مكانٍ ما من أحد مخيّمات اللّجوء أومدن الفقر في العواصم العربيّة.
والقول الأخير المستخدم للتَّبرير:
"يا سيدي إننا فقراء"
لا يخلو من مفارقة ساخرة، على الرّغم من صحَّته. فهو يوحي للقارئ بأنَّ هذا الرجل (الغنيّ) لا يريد الاعتراف بأبوَّته لهذه المرأة وطفلها الوليد بسبب فقرها واختلاف موقعها منه باعتباره مانحًا، ومن طبقة أخرى تختلف عن طبقتها الاجتماعية باعتبارها ممنوحة ومتسوّلة من طبقة أدنى.
ونحن نعلم أنَّ هذه (الأبوّة) مجازيّة كما هو واضح، على الرّغم ممّا يمكن أن تحمله هذه العبارة الأخيرة من خداع وتضليل تحاول الفتاة اليائسة أن تغطّي بهما على ما حصل لها في مكان وزمان وشخص أو أشخاص آخرين، لا علاقة لصاحبها الجالس في هذه المقهى قرب بيته به من قريب أو بعيد، وعلى الرّغم من وعي صاحبها الرجل بما حصل لها واهتمامه بما صارت إليه.