محمود منير
كاتب وصحافي أردني
mahmoudmunir@gmail.com
يتسيَّد الفضاء الإعلامي؛ التقليدي والافتراضي، في جميع أنحاء العالم، والأردن ليس استثناء في ذلك، كتّاب أعمدة وناشطون في الشأن العام وأكاديميون يتمتعون بـ"نجومية" تتيح لهم التحدّث في كلّ القضايا من الحوادث السياسية والاجتماعية وصولًا إلى صناعة الذرّة، وباتوا يمثّلون نموذجًا راسخًا في آلية توظيف المعرفة في تشخيص المشاكل التي نعيش وإطلاق الأحكام عليها، وبالضرورة تقديم حلول لها.
تنهل هذه النُّخبة من مقولات وفرضيّات هدفها تأطير أيّ مشكلة في سياق محدّد سلفًا، فيكون التفكير فيها مبرمجًا يقود إلى خلاصات مقرّرة مسبقًا، ما أنتج مشهدًا ثقافيًا لا وجود فيه لحراك حقيقي يقوده أفراد وقوى اجتماعية ومؤسسات أهلية تشكّل جزرًا معزولة عن مكانها الذي يفترض أنها تعيش فيه، وعن سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، وينصبّ تفكير هؤلاء الأطراف على إيجاد "اعتراف" بهم، وتقديم اجتهادات تكرّس المنظومة التي رسمت أدوارها.
ومقابل تلك الهيمنة الرسمية شبه المطلقة على آليات توظيف المعرفة، يتخلّى "المثقف" عن مسؤوليته الأخلاقية في نقد الظواهر الاجتماعية باعتبارها نتاج متلازمة الاستبداد والتخلّف، محيلًا المسؤولية إلى رجل السياسة والأمن والاقتصاد، الذين تخضع أفعالهم للمحاسبة، بينما يمنح ذاته حقّ إبداء الرأي "العالِم" أمام الجمهور، وإصدار مواقف تجاه الأحداث قد تؤّثر فيهم، لكنه يُعفي نفسه من المُساءلة على كيفية استخدامه للمعارف التي يمتلكها، فهو يريد من الوظيفة التي يمارسها الأجر والأضواء.
يتأسّس هذا النمط من المثقفين بعد عقود طويلة من انحسار الثقافة ضمن حدود وقيود لا تعدّ ولا تحصى، حيث تُهمّش العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق مناهجها الحديثة، وتُقصى من حقل دراسة الفضاء العام، كما تغيب الفنون التشكيلية والموسيقية والمسرحية، ما يعني انحدار ذائقة ملايين المواطنين وافتقادهم الإبداع خارج منظومة تشجّع أشكالًا رديئة من الأغنية والشعر والكتابة.
وهنا تكمن العلّة في انفصال المثقّف عن واقعه والسياقات التي دفعت إلى حالة التردّي والانحطاط التي نعيش، فما ناله من تحصيل علمي كان مجرّد معلومات وأفكار "معلّبة" دون أن يقبض على أدوات تؤهِّله لاتِّخاذ مسافة حقيقية للنقد والتحليل والاستقراء، والقدرة على استيعاب أزماته كفرد وأزمات الجماعة التي ينتمي إليها ضمن وعي يحيط بتحوّلاتها المستمرة على مرّ الزمن، ويفقد كذلك أن يتفاعل مع الحداثة في تعبيراتها الأدبية والفنية.
هذه الوضعيّة هي التي تخلق مثقفًا يعاين أحوال مجتمعه بالقطعة، دون أن يراها مترابطة، ويعجز عن قراءةٍ تُحيط بالتغيُّرات المستمرّة في طبيعة علاقته بمكانه وهويّته وتراثه ومستقبله، ويغلب عليه تفكير رغائبي يعكس أهواءه ومصالحه من جهة، وانحيازاته الإقليمية والمذهبية والطائفية وغيرها، ما يخلص إلى فشل ذريع في ما يتَّصل بدوره الأساسي الذي يفترض أن يجمع العلم بمناقبية أخلاقية، وبمعنى أدق أن يشكلّ ضمير المجتمع.
في ظلّ غياب هذا الضمير، أو تراجعه الدائم على أقلّ تقدير، تحوّل المثقف إلى "خبير" يقدّم خدماته/ مواقفه غبّ الطلب، بينما يمعن في اغترابه عن مجتمعه وما يواجه من مآزق ويعزف عن إنتاج فعل فكري نقدي يمزج بين البعد النظري والقدرة على اختراق السائد الاجتماعي ومحاولة التأثير فيه، وعدم الرضوخ لفكرة قاتلة تتمثّل في الانسحاب إلى خطاب مثالي طوباوي أو توفيقية تبرّر الوضع القائم، وهو ما يحاول هذا الملف تسليط الضوء عليه في ما يخصّ علاقة المثقف بالسلطة، وأدوات إنتاج المعرفة، وسؤال الهوية، ومعاينة الحداثة كمنتج عربي، واستيعاب اللحظة الراهنة بتجلّياتها في السياسة والمجتمع والثقافة.
هنا، وحتى لا نغرق في التنظير، تجدر العودة إلى لحظة تأسيس الدولة الأردنيّة قبل مئة عام حين برزت نماذج ثلاثة للمثقف؛ أوَّلها اشتبك مع السلطة الجديدة معارضًا بنيتها وتكوينها وسياساتها وكان مصطفى وهبي التل (عرار) خير تعبير عنها، بينما آمن تيّار آخر بالمنظومة الرسمية باعتبارها النموذج الوحيد القادر على الوصول إلى دولة مستقرّة وحديثة، وكان أبرز ممثّل له الشاعر عبدالمنعم الرفاعي، ووضع فريق ثالث لنفسه مهمّات رسوليّة تتعلّق بموقع الثقافة ودورها في صياغة الهوية والمجتمع، وكان في مقدّمته روكس بن زائد العزيزي وعيسى الناعوري.
عبَّر هؤلاء المثقفون على اختلاف توجُّهاتهم عن إرادة حرّة في طرح رؤاهم حول نشوء الدولة الوليدة وتحديث مؤسساتها، واستندوا في ذلك على تمثيل حقيقي انعكس في فاعليّتهم التي تمحورت أساسًا في سلك التعليم والصحافة والمشاركة الثقافية/ السياسية في الشأن العام، ليقدِّموا مقارباتهم بتبايُن استجابتها لردّ فعل السلطة الجديدة، في لحظة لم تشهد كل هذا الانفجار المعرفي وتطوّر وسائط التواصل الاجتماعي ومهارات الاتصال والعلاقات العامة. عاش مثقف تلك المرحلة متحرّرًا إلى حدٍ كبير في معارضته وموالاته من شروط الاستلاب.