موسيقى كْناوَة

محمد العساوي

باحث في التراث والتاريخ الاجتماعي- المغرب

elaissaoui-mohamed@hotmail.com

 

في العام 2019 سجَّلت اليونسكو فنّ "كْناوَة" كتراث إنساني عالمي، حيث تُغذّي موسيقى ‏‏"كْناوَة" الزاخرة بتاريخ‎ ‎وتراث إنساني عريق، مُخَيلة المغاربة التي تستحضر فنًّا تطبعه ‏بساطة وروحانيّة العيش، إذْ تغوص الذاكرة في ثنايا وأنغام الفن الكناوي بأحاسيس ملؤها ‏الفرح والانصهار في أناشيد روحانيّة ذات جذور أفريقية تُذَكِّر بالتنوُّع العرقي والثقافي ‏للمغرب.‏

 

قامت اللجنة الدوليّة الحكوميّة لصون التراث الثقافي اللامادي المنضوية تحت لواء منظمة ‏الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) خلال اجتماعها المنعقد ما بين (9 و14 كانون ‏الأول/ ديسمبر 2019) بالعاصمة الكولومبية بوغوتا، بتسجيل فنّ "كناوة" كتراث إنساني ‏عالمي، وبذلك يكون هذا الموروث المغربي قد دخل إلى العالميّة بأصوله الأفريقية.‏

 

كْنَاوَة.... التاريخ وأصل التَّسمية

تعود جذور هذه الموسيقى الفريدة إلى جنوب الصحراء الكبرى، فمعظم الكناويين ترجع ‏أصولهم إلى إمبراطورية السودان الغربي التي تضم السينغال ومالي والنيجر وغينيا، ولكن ‏مدلول كلمة "كْنَاوَة" ليس معروفًا لحد الآن، ويقول في هذ الصدد المؤرخ الفرنسي "موريس ‏دولافوس" مفسّرًا أصل الكلمة: "يوجد تشابه لفظي مع العبارة الأمازيغية (أَقَالْ – نْ – ‏إِغْوِينَاوِينْ)، وهي تعني أرض الزنوج، وقد نتج عن هذا المصطلح، ولادة صفة غينيا ومنها ‏غْنَاوَة أو كْنَاوَة".‏

وعلى الرّغم من انعدام المعطيات التاريخية التي تدعم هذه الأطروحة، وخلافًا للعديد من ‏الأفكار السائدة عن الموسيقيين الكناويين، فهم ليسوا كلهم عبيدًا تحوّلوا إلى الإسلام، وإذا كان ‏معظمهم من أصل الأفارقة السود، وينتمون إلى جنوب الصحراء الكبرى، فهناك في الواقع ‏فئات منهم من العرب أو الأمازيغ، أي من ألوان وجماعات عرقيّة مختلفة، وذات أصول ‏اجتماعية مركّبة، إلّا أنَّ الموسيقى وجماعاتها وَحَّدَت هذه الأعراق وجعلتها تؤسس مدارس ‏عائليّة سهرت على رعاية الفن الكناوي والمحافظة عليه أبًا عن جدّ.‏

 

كْنَاوَة... من الأدغال الأفريقيّة إلى البلاد المغربيّة

تتحدَّث بعض المصادر التاريخية عن تاريخ استقدام الزنوج إلى المغرب من الإمبراطورية ‏الصحراوية القديمة إلى القرن (16م) من طرف السلطان السعدي "أحمد المنصور الذهبي"، ‏في إشارة إلى حملاته الناجحة إلى "تمبكتو" وحصول قادته على كميات كبيرة من الذهب، كما ‏جلب من بلاد السودان الغربي حوالي (12.000) عَبْدًا، استخدمهم كقوّة عاملة في مزارع ‏قصب السكر بمنطقة "حَاحَا" القريبة من مدينة "الصويرة" حيث استقرّت وأنشأت سلالتها في ‏هذه المنطقة، بينما جزء آخر من العبيد ضمَّهم السلطان إلى الجيش وشكّلوا بعد تدريبهم ‏الحرس الزنجي الخاص به، وقد أسَّس المنحدرون من الجيل الأوَّل ما سيسمّى فيما بعد ‏‏"كناوة"، على الرغم من أنهم سمّوا أنفسهم في مرحلة أولى "غَنْغَاسْ" أو "كَانْكْا" نسبة إلى ‏الطبول التي كانوا يستعملونها في ذلك الوقت.‏

وخلال فترة حكم السلطان العلوي "المولى إسماعيل"، في القرنين (17-18م) جاءت الموجة ‏الثانية من العبيد، الذين انضمّ عدد كبير منهم إلى الحرس السلطاني تحت اسم "عَبِيد البُخَارِي"، ‏وهذا اللقب هو الذي سيحتفظون به حتى بعد وفاة مولاي إسماعيل عام (1727م)، وقد ساهم ‏جزء منهم في إقامة أسوار مدينة الصويرة الملقبة حينذاك بـِ"مُوكَادُور"، والتي اعتبرت ‏الموطن الأول لكناوة، قبل أن ينتشروا بعد ذلك في مدن أخرى مثل فاس ومكناس والدار ‏البيضاء وطنجة والرباط. والملاحظ أنَّ الكناويين بعد دخولهم إلى المغرب بقيوا منغلقين على ‏أنفسهم، ومحافظين على نمط عيشهم وطقوسهم الغنائية، التي تذكرهم بمعاناتهم وظروف ‏مغادرتهم وحنينهم لأوطانهم، وعن طريق هذه المجموعات العبيدية بدأ هذا الفن ينتشر ويعمّ ‏مختلف مناطق المغرب، ويتجذّر عند مختلف العناصر السكانية بفضل التعايش، حتى أصبح ‏فنّ كناوة فرجة شعبيّة تشدُّ إليها الجميع.‏

 

كْنَاوَة... بين الولع الموسيقي والطابع الميثولوجي

ترتبط موسيقى كناوة في المخيال الشعبي المغربي بطابعها العلاجي والروحاني الخاص، ولكن ‏يصعب تصنيفها على أنها موسيقى صوفية، والسبب في ذلك يرجع إلى النسق الرمزي الذي ‏يميز هذا اللون الموسيقي، فالطابع الكناوي هو طابع "ميثولوجي" بامتياز، إذ تعتبر "اللَّيْلَة" أو ‏‏"الحَضْرَة" مناسبة طقسية يجتمع فيها موسيقيو كناوة والمرضى الذين يشتكون من مشاكل ‏صحية نفسية أو عضوية وغيرها، وبحسب اعتقادهم فهذه الموسيقى تشفي المريض الذي ‏يعجز الطبيب عن علاجه، وكل هذه الطقوس كانت تُقام داخل فضاء الزوايا الدينية، وهي ‏بذلك لا تختلف كثيرًا عن أنماط موسيقية روحانية مغربية أخرى مثل "عِيسَاوَة" أو "حْمَادْشَة"، ‏وتنقسم "الليلة الكناوية" إلى ليلتين، الأولى خاصة بعشاق هذه الموسيقى، والثانية للمريض، ‏الذي يتبع فيها مجموعة من الطقوس المتعارف عليها ويؤدّيها كاملة طلبًا للشفاء، وتتمثَّل في: ‏الذَّبيحة، بخور وشموع، ورقص على أنغام هذه الموسيقى حتى الإغماء للوصول إلى النشوة ‏والاكتفاء، وهذا ما يسمى بالدارجة المغربية "الجَّذْبَة"، وهنا يُعتقد أنَّ المريض قد شُفِي من ‏مرضه، ومن الكلمات الزجليّة التي تُرَدَّدُ صحبة الإيقاعات المُرتفعة أثناء الليلة الكناويّة نذكر: ‏

الله آ بَابَا مِيمُونْ

آبَّا وَبَّا آشْ كَانْ سْبَابِي مْنْ غِيرْ صْحَابِي

الله الله آ بَابَا مِيمُونْ

وَالكْنَاوِي السَّلْبْنِي هَاهُوَ جَا آ بَابَا مِيمُونْ

هذا حَقّْي فالله والنْبِي

يَالَحْبِيبَة صَلِّي عْلَى النْبِي

‏............‏

آ مُولاَتْ الكِيفَانْ آ لالَّة عِيشَة

آ مُولاَتْ الوِيدَانْ آ لالَّة عِيشَة

أَنَا دَاخْلْتْ عْلِيكْ بْالْقَاضِي عِيَّاضْ

بْمُولاَيْ عْلِي الشْرِيفْ

آ عِيشَة قَنْدِيشَة

‏............‏

يَا عِيشَة يَا عِيشَة

مُولاَتْ الوَادْ

كَاعْدَة في الجْبَالْ

تْسِيحْ كِي الغْزَالْ

‏............‏

 

 

آلات ومجموعات موسيقيّة تنهل من التراث الأفريقي

يعتمد الفن الكناوي على الآلات الموسيقية الإيقاعية والوترية، وفي المقابل تغيب عنه الآلات ‏النفخية، كما يحضر فيه نظام متناسق من القرع على الطبل المعروف محليًّا بـِ"الكَانْكَا" ‏و"القَرَاقِبْ" التي تحاكي إيقاعات روحانيّة، غير أنَّ ما يميِّز هذا النمط الموسيقي هو ‏‏"الكْنْبْرِي"؛ وهي آلة وترية تُصدر نغمات عميقة ذات تردُّدٍ عالٍ، حيث يمكن أن تُسمع من ‏بعيد دون الحاجة إلى مكبرات صوت، ويطلق أيضًا عليها محليًّا اسم "الهَجْهُوجْ".‏

وتتكون فرقة كناوة من مُغَنٍّ رئيس يُسَمَّى "لَمْعَلَّمْ"، يعزف على آلة الكمبري، وإلى جانبه باقي ‏أعضاء الفرقة، يُسَمَّون "الكُويُو"، وهم موسيقيون يقرعون الكانكا والقراقب، ويرقصون على ‏الإيقاعات الكناوية بحركات خاصة، كما يرتدون أزياء فلكلورية مميّزة بألوان فاقعة وقبعات ‏مرصّعة بالأحجار، وتحمل كل فرقة رايات ملوَّنة، ومن أشهر الأسماء التي طبعت موسيقى ‏كناوة نذكر: احْمِيدَة بُوسُو، عبداللطيف المخزومي، مصطفى بُقْبُّو، حميد القَصْرِي، محمود ‏كنية، حسن حكمون...‏

 

الصويرة.... مهد الفنّ الكناوي

كانت مدينة الصويرة النّواة الأولى لهذا الفن الشعبيّ، والمقصد الأوَّل لكبار الموسيقيين ‏العالميين القادمين من عوالم الجاز والبلوز والروك الذين رغبوا في توظيف الإيقاعات الكناوية ‏وإدماجها في ألوان موسيقيّة أخرى، ومنذ عام (1997م)، وهذه المدينة المصنَّفة كتراث ‏عالمي، تحتضن مهرجانًا سنويًّا يحتفي بهذا الفن تحت شعار "كناوة وموسيقى العالم"، وخلاله ‏تستقبل آلاف الجماهير للاستمتاع بهذا الفنّ النبيل.‏

بهذا، باتت كناوة اليوم نمطًا موسيقيًّا عابرًا لعالم العبيد، وصار لها عشاقها ومريدوها من ‏مختلف الأقطار، كما أصبح لها مهرجان دولي يحتفي بها سنويًّا، وهو ما جعلها تمتدّ وتؤثر ‏في ثقافات أخرى مجاورة لتشمل موسيقى الديوان في الجزائر، وستانبلي في ليبيا وتونس.‏

 

‏* المراجع:‏

‏- الركوك علال، مادة "كناوة"، موسوعة معلمة المغرب، المغرب، مطابع سلا، الجزء18، 2003. ‏

‏- بوكرامي سعيد، "موسيقى كناوة... الأصول والامتدادات"، مجلة الثقافة الشعبية، البحرين، العدد37، ‏ربيع 2017. ‏

‏- الموقع الإلكتروني لمهرجان الصويرة "كناوة وموسيقى العالم"، متاح على الرابط:‏

https://www.festival-gnaoua.net/ar/anthologie-musicale-des-gnaoua

الصور: مأخوذة من الموقع الإلكتروني: ‏www.pinterest.com