د. خلدون امنيعم
شاعر وناقد أردني
rakeen7@hotmail.com
ليس المفتتحُ وعنوانه نصًّا علائقيًّا أو حفرًا معرفيًّا أو اشتباكًا ضديًّا مع مدوّنة إدوارد سعيد البليغة: "صُور المثقّف- محاضرات ريث، 1993"، بلْ إنّه تكثيفٌ استعاديٌّ لأبرز طروحاته المركزيّة في تشكّل أخطر المفاهيم وتمثيلاتها: مفهوم المثقّف وصوره في السّياق الثّقافي والاجتماعيّ والسّياسيّ للحضارة الغربيّة من خلال نماذج محدّدة ومنتقاة؛ لِتُشكّل الاستعادة أرضيّة لطرح السّؤال المُلحّ في حضوره، على أرضيّة ثقافيّة وحضاريّة مغايرة: الثّقافة العربيّة الرّاهنة وسياقها الحضاريّ؛ دون نفي اشتباكه الخلّاق في تناول السّياقات الحضاريّة المختلفة لتشكُّل المفهوم، من ضمنها ثنائيّة العروبة والإسلام، والسّؤال، هنا، كيف تشكَّل مفهوم المثقّف، وما الخلفيّات والمرجعيّات المعرفيّة له، وما توجُّهاته، وما طبيعة علاقاته مع الهويّة والسّلطة والمجتمع، وكيف انعكس كلّ ذلك على الهويّة الثّقافية العربيّة المعاصرة، في سياق الديمقراطيّة، والمواطنة، والمدنيّة، والحريّات، وإنتاج المعرفة؟ تاركًا الإجابة معلّقة ومفتوحة، يمكن قراءتها أو استنتاجها في ملف هذا العدد المعنون بــ"المثقّف ومآلاته".
يطرح إدوارد سعيد تصوُّرين متناقضين، في الجوهر، للمثقّف، بين أنطونيو غرامشي في "دفاتر السّجن"، وجوليان باندا في "خيانة المثقّفين"، فتصوُّرات غرامشي تعمّم مفهوم الثّقافة، ليشمل جميع النّاس، غير أنّه يعود ليحصر مفهوم المثقّف في القدرة على أداء وظيفة فكريّة في المجتمع، بما يتّفق مع سيرته الشّخصية، وسعيه لتشكيل بنية ثقافيّة متكاملة تقوم على فكرة الوظائف والأدوار اجتماعيًّا، ويميِّز، كذلك، بين المثقّف التّقليدي الذي يؤدّي أدوارًا فكريّة ثابتة، مثل: المعلم ورجل الدّين، والمثقّف العضويّ الذي أفرزه النّظام الرأسمالي، ويُستخدم لمصلحة طبقة أو مؤسسة لزيادة قوّتها وسيطرتها، ما يجعله دائم التّشكُّل والتّنقُّل والتّحوُّل، ويرى سعيد أنّ تحليل غرامشي الاجتماعيّ للمثقّف هو الأقرب للواقع، دون أن ينفي احتماليّة اختفاء وجه المثقّف أو صورته، ليتحوَّل، وفق هذا الفهم، إلى مجرّد مهنيّ آخر، أو أحد الوجوه في تيّار اجتماعيّ ما.
بينما يرى أنّ تصوُّر باندا للمثقّف تصوُّر جذّاب وآسر، إنّه يقيم مفهومه على ضديّة مع العوام/ المثقّف المزيّف الذي يطمح إلى تحقيق المنافع والمطامح الماديّة، ويتنازل عن سلطته الأخلاقيّة لمصلحة الرّوح الطّائفيّة أو المصالح الطبقيّة، أو المشاعر الجماهيريّة، أو الشّوفونيّة القوميّة؛ تلك هي خيانة المثقّفين، أمّا المثقّف الحقيقيّ، فهو مخلوق نادر جدّا، لأنّه يدعم المعايير الأزليّة لمبادئ الحقّ والعدل النزيهة، يشجب الفساد بكلّ أشكاله، ويتحدّى السّلطة المعيوبة أو القمعيّة، ويمتلك القدرة على قول الحقّ في وجهها، ولا يرى أيّ قوّة دنيويّة، مهما كانت مَهيبة، لا يمكن انتقادها أو توبيخها على سلوكها، وطريقته في قول الأشياء: "مملكتي ليست من هذا العالم".
ويطرح تصوُّر ميشيل فوكو، الذي يرى أنّ المثقّف العالميّ، الذي يعادل المثقّف الحقيقيّ في فهم باندا، قد أخلى موقعه ومكانه للمثقّف الخصوصيّ، الذي يعادل المثقّف العضويّ في فهم غرامشي، مقدّمًا الكاتب الفرنسي سارتر، نموذجًا للمثقّف الملتزم، الذي يمتلك القدرة على المجابهة والنّقد والرّفض، للصّراع الاجتماعيّ، والاستعمار: الجزائر مثالًا، وأن يكون عصيًّا على التّدجين أو الاحتواء، من ذلك رفضه جائزة نوبل عام 1964.
ويمضي، سعيد، إلى استعراض الكثير من المؤلّفات والأسماء في الثّقافة الغربيّة، في سياقات تاريخيّة متنوّعة، وفي نماذج أدبيّة روائيّة متعدّدة، شكّلت علاماتٍ فارقة في تحديد مفهوم المثقّف وصوره، وتوجُّهاته، كذلك، يناقش فكرة المثقّف المغترب والمنفي والهامشي، ويقيم فروقاتٍ دقيقة بين المثقّف الهاوي والمحترف، ويطرح أبرز الضّغوط التي يُجابَهُ بها المثقّف المعاصر، عالميًّا، مثل: التّخصّص، والخبرة، والسّلطة، التي تشكّل في الوقت ذاته اختبارًا لمناعة إبداعه وإرادته، ويخلص، من وجهة نظره، إلى أنّ المثقّف، في إحدى تجلّياته، والذي يهمّ في النهاية، هو الذي يتمتّع بالصّفة التّمثيليّة -إنسان يمثّل وجهة نظر ما، بوضوح وجلاء، قولًا أو كتابةً أو تعليمًا- وينطوي على الالتزام والمجازفة، وعلى الجسارة وقابليّة الخطأ، على السّواء، ولا يمكن للمؤسّسات أو السّلطة احتواءه أو تدجينه، ليكون أفق العلاقة موتورًا في تعاطيه المستمرّ معها.
لكنّ السّؤال الذي يطرحه إدوارد سعيد نيابةً عن المثقّف، سؤالٌ جوهريّ، وهذا ما يجب أن يكون قائمًا وفاعلًا في ذهنيّة المثقّف العربي واشتغالاته: كيفَ يقول المرء الحقّ؟ وأيّ حقّ؟ ولمَن، وأين؟