إعداد وتصوير: إيمان مرزوق
كاتبة أردنية
eman_marzouq@yahoo.com
كالفسيفساء الصغيرة الملوَّنة تنتشر أسواق عمّان القديمة في قلبها الذي تُغذي عروقه دماء عديدة جعلته نابضًا بالحُبّ لكلِّ مَن عاش هنا في "فيلادلفيا" مدينة الحب الأخويّ. هذا التنوُّع الذي صبغ تلك الأسواق بطابع خاص ليرتبط كلٌّ منها باسم مَن أنشأه.. "البخاريّة"، "اليمنيّة"، "البلابسة"، "منكو"، "السُكَّر"، "الشابسوغ"، "الشوام"، "عصفور"، "البشارات"، وغيرها من الأسواق القديمة الشعبيّة التي عكست بصدق وعفويّة ألوان النسيج العَمّاني الفريد.
• "البُخاريّة" أقدم أسواق عمّان
يُعتبر "البخارية" أقدم الأسواق التي أنشئت في مدينة عمّان. أقيم بدايةً في ساحة الجامع الحسيني الكبير (مقابل الموقع الحالي) وغُطِّي سقفه بصفائح (الزينكو) وذلك في منتصف العشرينات من القرن الماضي، وكانت المعروضات توضع في صناديق خشبيّة (بسطات) وتُغطّى بالزُّجاج، ومن تلك البضاعة كانت المسابح، والخناجر، والمصنوعات الجلدية مثل "الجزادين" والأحزمة، ولوازم الخياطة كالخيطان والمقصّات، والعطور وغيرها. ويعتبر كمال الدين البخاري الذي جاء إلى عمّان من مدينة بخارى في أوزبكستان واستطاب الإقامة فيها في بداية العشرينات أحد مؤسّسي السوق في تلك الفترة، إضافة لمجموعة من التجار البخاريين الذين وجدوا في عمّان ملاذًا آمنًا للعيش والاستقرار والعمل في الوقت الذي دخلت بلادهم فيه تحت السيطرة الروسية الكاملة.
ومن أشهر هؤلاء التجار: هاشم البخاري وعبدالمجيد البخاري وحامد البخاري. وبعد تعرُّض السوق للحريق في موقعه الأصلي تمَّ هدم السوق القديم واستئجار المحلّات في المبنى الذي يمتلكه فوزي المفتي مقابل الجامع الحسيني عام 1942، وعُرف حينها باسم "سوق البخاريّة الجديد"، وكان المبنى سابقًا عبارة عن (خان) تستريح فيه قوافل التجار والحجاج، وكانت الطوابق الأرضية فيه تستخدم إسطبلات للخيول والدّواب. وقد امتاز السوق في بداياته بوجود عدة مداخل ومخارج له، وقد كان الملك عبدالله المؤسس (الأمير حينها) يعتمد زيارة سوق البخارية فقرةً أساسيّةً ضمن برنامج ضيوف جلالته.
يقول محمود محمد البخاري، أحد أصحاب محلات التحف الشرقية في سوق البخارية: "أنا في هذا المحل منذ 27 عامًا، وقد اخترتُ أن أستمر مع والدي في هذا السوق الذي كان ملتقى لكل أهالي عمّان في الماضي، أمّا في الوقت الحالي فقد قلّت أعداد الزبائن بنسبة 50-60% بسبب انتشار الأسواق والمولات في جميع مناطق عمّان؛ ممّا جعلهم يرتادون الأقرب لهم توفيرا للوقت والجهد".
ولا يُخفي البخاري عتبه على المنظِّمين للجولات السياحية الجماعيّة "الجروبات" لعدم إدراجهم للسوق على برنامجهم للسيّاح الأجانب، فمَن يرتاده منهم فقط بعض السائحين وبشكل فردي غير منظَّم، بحسب تعبيره.
يخبرنا أسامة أبو حميدان (أبو أحمد)، الذي يعمل في محل لبيع لوازم الحلاقين وتركيب الزيوت العطريّة، عن ميزات المكان قائلًا: "أوَّل مَن أسَّس هذا السوق هم التجار البخاريون، الذين كانوا يمرّون من هنا أثناء ذهابهم للحجاز في موسم الحج، وكانوا يحملون من بلادهم كل شيء.. العسل، الخيطان، الأدوات المختلفة.. ولم يكن السوق دائمًا بل موسميًّا (قبل وبعد الحج).. وموقعه كان مقابل الموقع الحالي في ساحة الجامع الحسيني وكان عبارة عن "براكسات"، وفيما بعد تمَّ نقل السوق إلى هنا، وشهدت فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي العصر الذهبي للسوق، وفيه كان يجد المواطن كل ما يحتاجه.. من الإبرة والخيطان والأزرار والأثريّات والأنتيكا والعطور وأدوات الحلاقين، ولوازم المناسبات و"المطبقانيّات" وهنا تُباع بضائع ونثريات لا يمكن أن تجدها في أيّ مكان آخر. ولكن بمرور الأيام قلّت أعداد روّاد السوق بشكل كبير لأسباب كثيرة، ومع جائحة الكورونا أصبح الوضع أصعب بكثير فقد "انضرب" موسم الحج والعيد والسياحة والأعراس.. وهي كلها مناسبات ومواسم كانت تزيد من الحركة في السوق قبل الوباء".
• سوق "البلابسة"
يعتبر هذا السوق بمثابة الأخ الأصغر لسوق البخارية؛ فهما يتجاوران في موقعهما في شارع الملك طلال مقابل الجامع الحسيني الكبير، ويتشابهان في شكل المحلات وفي طبيعة البضاعة، حيث يتم بيع الإكسسوارات ومواد التجميل ولوازم الخيّاطين والعرائس والنثريات والتحف، وكثيرًا ما يخلط الناس بين هذين السوقين.
وفي صيف عام 2009 عندما شبَّ حريق في السوق إثر تماس كهربائيّ.. شاع الخبر بين الناس وفي بعض وسائل الإعلام حينها أنَّ سوق "البخارية" قد احترق، بينما الذي احترق وتضرَّر كان سوق "البلابسة" الملاصق له!
بوجه بشوش فوق العادة وروح دعابة عالية يحدِّثنا طارق الدجاني، صاحب محل أزرار في سوق البلابسة، وهو منهمك في تلبيس القماش للأزرار المعدنيّة بواسطة أداة يدوية قديمة "مكبس"، يحدِّثنا عن ذلك الخلط الدائم بين سوقي البخارية والبلابسة.. ويضحك قائلًا:
"هناك جانب إيجابي وآخر سلبي لهذا الأمر.. كثير من الزبائن تدخل للتسوُّق هنا ظنًّا منهم أنه سوق البخارية، فنكسب نحن الزبائن! وعندما حصل الحريق ظنَّ الجميع أنه أصاب البخارية بينما كُنّا نحن المتضررين! فقد احترقت محلاتنا بالكامل، ولكن بفضل من الله والقيادة الهاشمية أمر سيدنا بترميم السوق كاملًا، وإعادة المستأجرين ذاتهم لمحلاتهم ولمواقعهم القديمة نفسها، حفاظًا على خصوصية هذا السوق الشعبي العريق الذي يُعتبر أحد معالم عمّان القديمة".
ويضيف الدجاني: "زمان الرزقة كانت أفضل. بعد عام 2000 تغيَّرت الأوضاع العامّة، وعلى الرغم من ذلك نحن باقون في هذا السوق وراضون بالربح القليل".
بشغف وحماسة عبَّرت "أم سعيد"، واحدة من زبائن "البلابسة"، عن علاقتها بهذا السوق قائلة: "أنا أرتاد هذا السوق منذ أكثر من 40 عامًا، والتسوُّق هنا له روح ومتعة خاصة تشعرني بالفرح، كل ما أريده أجده في المكان نفسه بأسعار قليلة، وأصحاب المحلات هنا أعتبرهم إخوتي".
أمّا عن نشأة السوق وتسميته يخبرنا خالد علي الفحماوي: "والدي كان أحد مؤسسي السوق في أوائل الخمسينات من القرن الماضي تقريبًا عام 1952، مع عدد من التجار القادمين من يافا من عائلة عياد وغيرها.. وقد تمّت تسمية السوق بهذا الاسم نسبة لسوق البلابسة القديم في يافا، وليس نسبة لعائلة البلبيسي كما يعتقد بعضهم، ويضيف: لقد ظُلم هذا السوق كثيرًا خاصة بعد الحريق والتعويض الذي حصلنا عليه كان أقل بكثير من خسائرنا الكبيرة!".
ولدى البحث أكثر حول أصول التسمية تبيَّن أنَّها نسبة إلى أبناء مدينة "بلبيس" في محافظة الشرقية المصرية، حيث وصلت نسبة كبيرة منهم إلى يافا هربًا من التجنيد، الذي فرضته سلطات الاحتلال البريطاني على أبناء مصر، أبان الحرب العالمية الأولى (1918 ـ 1914).
• سوق "اليمنيّة"
يحمل هذا السوق اسم مَن أسَّسوه وهم مجموعة من اليمنيين الذين ذهبوا إلى فلسطين متطوعين للقتال عام 1948 وشاركوا في عدد من المعارك ضدّ العدو الصهيوني، وخصوصًا في القدس، وعادوا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فاستقروا في عمّان، وأقاموا سوقهم في شارع الملك طلال بعد أن استأجروا الأرض من أملاك وصفي ميرزا باشا، وبدأوا ببناء حوانيتهم من الخشب، ومنهم: قاسم ناصر العديني، عبدالله اليماني، أحمد العزامي، ناصر علي غازي، وصالح اليافعي. لكنَّ السوق لم يقتصر على التجار اليمنيين فقط، وكانت الملابس القديمة (البالة) أوّل ما تاجروا به، إلى جانب محلات تفصيل الملابس العسكريّة، والبدلات الرجاليّة، وخدمة تصليح الملابس.
• سوق "السُكَّر"
يقع على مقربة من الجامع الحسيني ويبيع المواد التموينية، وتعود نشأته إلى بداية الأربعينات من القرن الماضي، وسمّي بذلك نسبة لصاحب السوق يوسف السكر، ومن التجار الذين ساهموا في تأسيسه: طاهر الهدهد، أبو رصاع، أحمد كلبونة، أبو جاسر، صبحي عصفور، وطاهر الجقة. وهو متصل بسوق الخضار والفواكه المعروف بوسط البلد وعلى مقربة من سبيل الحوريات المعلم الأثريّ الشهير.
• سوق "شارع السَّعادة" (سوق الشّوام)
سوق شارع السعادة أو (سوق الشوام) كما كان يسميه بعضهم لوجود عدد من التجار ذوي الأصول الشاميّة مثل: عزيزيّة والديرانيّة والنشواتي وأبوقاعود، وقد اشتهر هذا الشارع الصغير الواصل بين شارع الملك فيصل وبين الجامع الحسيني ببيع الأقمشة ولوازم العرائس.
وعلى الرغم من كل معالم الحداثة والانتشار الكبير لمراكز التسوُّق الضخمة التي باتت تنتشر في كل مناطق عمّان، ما يزال لوسط البلد وأسواقها رونقًا خاصًّا، يجعل أفئدة الناس تهوي إليها.. خاصة يومي الجمعة والسبت؛ بحثًا عن سعادة ومتعة خاصة يروِّحون بها عن أنفسهم بالمشي بين أسواقها الشعبيّة، وتناول المأكولات في مطاعمها القديم منها والحديث، وشراء ما يحتاجونه أو حتى ما يشتهونه من أسواقها الأثيرة إلى النفس.
- - - - - - - - - - - -
* المراجع:
-"عمّان.. ذاكرة الزمن الجميل"، فؤاد (محمد أمين) البخاري، وزارة الثقافة، 2014.
- "عمّان تاريخ وصور"، أرسلان رمضان بكج، أمانة عمّان الكبرى، 2002.
- موقع عربي 21.
- مجموعة من اللقاءات الميدانيّة.