نصوص: إنتصار عباس
كاتبة أردنية
susanabbas@gmail.com
* يوميّات لاجئ
أسكُنُ الفراغ.
أُداري وحدتي بتعشُّق شجر الكلام.
أسافرُ بين تيه وتيه.
أجلسُ في المسافة المحظورة.
أحملُ الذّاكرة وجسدًا ينهشه الجوع والخراب.
مسافرٌ بلا متاع. شهادة ميلادي وجواز سفري دُفنوا في فناء بيتي هم وجيراني وأهلي. جئنا أنا وأقوام الناس هذه هربًا من القتل والدّمار، ليس خوفًا على أنفسنا، بل على صغارنا. أنا لا أعرفهم، لكنَّ المكان جمعني بهم لنحملَ المصير نفسه، والمعاناة نفسها.
ها نحن نحاول العبور للجهة الأخرى.
بيننا وبين الجهة الأخرى بوّابة مكتوب عليها "ممنوع الدُّخول أو الاقتراب" وبندقيّة وُجِّهت نحونا.. في البدء كُنّا نبحث عن كسرة خبزٍ في سلال المهملات، الآن كلّ ما في وسعنا فعله هو الجلوس والانتظار.
بتنا صورًا لتماثيل خشبيّة نبني بيوتًا من (الـ… خ… ر...).
طفلي يحبو يقترب من البوّابة. آه يا صغيري أيّ حياة ترتجي وأنتَ تقبع خلف ثقبٍ لبابٍ مخلوع...؟
طفلٌ آخر يركض في المسافة المحظورة. رجلٌ يحاول التسلُّل خلسة. رصاصة تدخل عبر الكوّة المفتوحة بيننا. أرى وجه ابنتي مغسولًا بالدّم، تجفل دميتها الصغيرة التي على صدرها وتطير، نقترب من البوّابة، أصوات تنهرنا لا نفهم ما تقول، لكنَّنا نعرف أنَّها تمنعنا. تختلط الأصوات لا نسمع لا نرى لا لا لا..
* جوع
(1)
توقَّفَ أمام المخبز ينظر الخبز بلهفة العاشق للقاء محبوبته، وجيوبه الفارغة تمنعه من الاقتراب. أطال الوقوف أمام الأرغفة يحدِّق بها وقد فاحت روائحها وهي تشتمّ النار، يبلع ريقه وقد انزوى على جانب الحائط قبالة الفرن، وبينما هو على هذه الحال لمح ظلّ امرأة يعبُر الشارع، أمعن النظر فيها، تكاد تكون أمه، يمسك صغيرها بثوبها وهي تنهره ليتوقف عن شدّ الثوب والبكاء، تمامًا كما كان يفعل أخوه الصغير، ربّما كان يريد شراء لعبةٍ ما...
أخذ نفسًا عميقًا وابتسم، ثم راح يركض بعنفوان خلفهما متجاوزًا أزمة السير الخانقة. تعالى صوت أبواق السيارات وزعيق عجلات سيارة سرعان ما التهمت جسده.
لم يكُن ليرى سوى وجه أمِّه وألعاب أخيه الصغير، كانا يدغدغان آماله الراحلة حيث الحياة.
(2)
تلعثَمَ الدَّمعُ في عينيه وارتجفَ الكلامُ والمُعلِّم يوبِّخه لأنه لم يكن يردِّد نشيد الطابور الصباحيّ مع الأولاد. وما درى المعلم أنَّ الجوع كان يطحن لسان الصغير، وأنَّ معدته الخاوية التهمَت ما تبقّى فيه من ذاكرة.. فاضت عيناه بالدَّمع وأصابع المعلم تنهال على وجهه تصفعه.
في صبيحة اليوم التالي، وبصوت مرتجف ردَّد الصغار نشيد الطابور الصباحيّ وقد وتَّد الخوف مساميره في أرواحِهِم..
وردَّد الوطن: آه كم أنا حزين ….
* حنين
كان هادئًا يبعث الحياة في النفوس، يُبحر بالأحلام الكبيرة والصغيرة. ضمَّت الصغير إلى صدرها، طوَّقهما الأنين بذراعين من فولاذ، مضى الماء بهم، رَمَت الشمس بضيائها في وجوههم المُسافرة، تهتزُّ صورهم في الماء تُنذر بالموت القادم، وقد فرّوا من الموت إلى الموت.
هبَّت موجة خفيفة تلثم وجه الصغير وقد تركَت قطرات الماء على وجهِه، شدّته أمه إلى صدرها تُشعره بالأمان، وقلبها يكاد يفرّ من صدرها، لكنَّ الموج كان طمّاعًا، لم يكن ليكتفي بقبلة، بل عاد أكثر ضراوةً وشراسة، يهزّ القارب ويقترب، علت الأصوات فزعة تستنجد: "يا الله"، لم يكن قلب الصغير ليحتمل كل هذا الشوق الهائل وهذا الجنون، وكذلك الجميع، ظنّوا الحياة ستبقى حياة ولن تخذلهم.. أو علَّ أقدارهم تُسكت البحر عنهم؛ فيغدو يباسًا وينجون..
لكنَّ الواقع كان أقسى من كل الظنون، ولم يعُد بمقدورهم فعل أيّ شيء.
في الصباح كانت أجسادهم تُزهر ورودًا على وجه الماء كما تُزهر الزنابق على شواهد القبور.. وراحت أرواحهم تُكمل الطريق …