د. يوسف ربابعة
رئيس التحرير
نحن اليوم وبعد مئة عام من عمر الدولة الأردنيّة السياسي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الأسئلة الكبرى، لأنَّ الزَّمن عادةً يدعونا لمُراجعات كثيرة، ويضعنا أمام استحقاقات يفرضها الواقع والتغيُّرات التي تتجدَّد وطنيًّا وعالميًّا، ومطلوب منّا أن نقف على أرض صلبة حين يتعلّق الأمر بمستقل الأجيال في ظلِّ ظروف ليست سهلة وتحدِّيات عليهم مواجهتها في قادم الأيام، فماذا أسّسنا لهم؟
إنَّ المتطلّبات القادمة كبيرة في المجالات كافة، ومن أهمها إنجاز مشروع ثقافي يؤسس لحالة جديدة ووعي بالذات والآخر، مع الاعتراف بأنَّ هذا المشروع لم يُنجز خلال المئة عام الماضية، وهناك محاولات لم تؤسّس لحالة عامة ومشروع دولة، وبقيت المؤسسات الثقافيّة جزرًا معزولة عن الواقع، حتى وزارة الثقافة لم تتمكَّن من فعل الكثير بسبب قلة الإمكانات ونقص الموارد، وعدم تحوُّل نشاطاتها الثقافيّة إلى مشروع منظَّم تتبنّاه الدولة بكل مؤسساتها، بل العكس بقيت النظرة للثقافة عاجزة عن فهم عمقها، إذْ إنَّ أغلب الحكومات تنظر إليها على أنَّها من نافلة القول، وأنَّها من الكماليّات وذلك بالنَّظر للثقافة من منظور أنَّها لمجموعة من الأدباء والشعراء والفنانين، وهناك قضايا أهم تتعلق بأرزاق الناس ومعيشتهم وأمنهم، لذا كان التفكير دومًا منصبًّا على الجوانب الاقتصاديّة بوصفها الحال الأسلم لإرضاء الناس وضمان استقرارهم.
إنَّ تعريفنا الذاتي للثقافة قلَّل من أهميّتها ولم ينظر إليها على أنَّها تشمل كل السلوك الناتج عن الفرد والجماعة، والقِيَم التي تسيِّر حياتهم وتدفعهم للعيش ضمن رؤية مشتركة تعزِّز من شعورهم بقيمة الأشياء وقيمة العلاقات وقيمة الوطن وقيمةالاقتصاد وقيمة الاستقرار وقيمة التطوُّر، وتعظِّم القيم المشتركة الجامعة لبناء الهويّة والانتماء. كما أنَّ السلطة بقيت تنظر للمثقف بوصفه نخبة معارضة، ويعمل ضدّ السلطة، فتعاملت معه على قاعدة بقائه محايدًا بالتَّرغيب والتَّرهيب، وكان من نتاج ذلك أنَّ النُّخب الثقافية لم تشكِّل حالة، ولم تشارك أو تساعد في بناء مشروع ثقافي وطني. ولا نستطيع أن نتغافل أيضًا عن الفكرة المتكاملة لمشروع النهضة، فلا نتصوَّر مجتمعًا ينعم بالسلام الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي بدون وجود مشروع نهضوي متكامل تكون الثقافة أحد أركانه، فلا حضارة بدون ثقافة والعكس صحيح.
إنَّ تشخيص الحالة جزءٌ من الحلّ، ولسنا مجبرين على البقاء في الماضي ومحاكماته، لأنَّ ذلك قد يكون سببًا في التأخير عن النَّظر نحو المستقبل، ولذا فمن المفيد اليوم -ونحن نحتفل بمئويّة الدولة- أن نملك الشجاعة للاعتراف بجوانب التقصير، لننطلق نحو القادم بثقة وثبات، ونؤكد أنَّ الدولة -أيّ دولة- تحتاج إلى مشروع ثقافي متكامل ورؤية ثقافية منسجمة مع الواقع ومع التطوُّر الذي حصل ويحصل، ولأنَّ ثقافة المجتمع هي المظهر الدالّ على قوة المبادئ والمعتقدات والحضارات؛ فالثقافة هي أساس بناء الحضارات وهي العنصر الأهم في عملية التنمية والتطوُّر والبناء، فبمقدار شمولية الثقافة وتوازنها واستقرارها وصحة قواعدها يرتفع عمود الحضارة، وتترسخ أركانها في المجتمع، وليس لقوّة مهما بلغت أنْ تهزمَ أو تهدمَ حضارة قائمة على ثقافة صحيحة سليمة، ويصبح ذلك ذا أهميّة كبرى حين نرى التغيُّر والاتِّجاهات والنَّوازع والرَّغبات التي يتعرَّض لها الجيل الحاضر والأجيال القادمة، في الوقت الذي نرى فيه تغيُّرًا جذريًّا في أدوات العصر وأساليب العيش، فالثقافة أصبحت من أساسيات العصر وتحدّياته، وأغلب مظاهر الحياة مرتبطة بها بشكل مباشر أو غير مباشر، لأنَّها تضرب في الأعماق وننسى أحيانًا قدرتها على التأثير حين لا نتلمّس أثرها الواضح أمام أعيننا، فالحرب اليوم لم تعُد عسكريّة أو اقتصاديّة فقط، إنَّما هي حرب ثقافيّة بالدرجة الأولى يسعى فيها الطامعون في البلاد وخيراتها إلى الغزو الثقافي، وذلك لخلق ثقافة تتقبَّل الواقع الجديد.
إنَّنا اليوم -قبل غد- نحتاج مشروعًا ثقافيًّا للدولة التي تدخل مئويّتها الثانية، لنطمئنَّ أنَّنا قادرون على تجاوز النَّقص، وأنَّنا قادرون على تطوير دولة يمكنها مواكبة المتغيّرات في مستقبل ستكون أدواته ورياحه جارفة، ولا يقف في وجهها إلا دولة وشعب يملك مخزونًا ثقافيًّا مشتركًا وجامعًا، يجعله متجذِّرًا في تاريخه، وباسقًا في مستقبله.