سلمى فرود
باحثة وكاتبة مغربية
خصَّصَ مشروع الجينوم البشري منذ بداياته الأولى 3% من ميزانيّته لدراسة المضامين الأخلاقيّة والاجتماعيّة والقانونيّة للأبحاث الوراثيّة. فهل نعتبر ذلك مصدرًا للثقة بالنسبة للبُعد الأخلاقي للبحث العلمي؟ أم هو إتاوة ماليّة يجب على العلماء دفعها لإبعاد علماء الأخلاقيّات الحقيقيّين عنهم؟ وكيف ينظر الفيلسوف والمفكر الأميركي "فرانسيس فوكوياما" لسياسات المستقبل ذات العلاقة بالتقنية الحيويّة؟
أدَّت التطوُّرات التي تحقَّقت في مجال التقنية الحيويّة إلى خلق فجوات واسعة في النظام الحالي لتنظيم الطب الحيوي البشري تتسابق الجهات التشريعية والهيئات الإدارية في جميع أنحاء العالم لسدِّها. فليس من الواضح، على سبيل المثال، إذا كانت القوانين الخاصة بإجراء التجارب على البشر تنطبق على الأجنّة خارج الرّحم. ومن جانب آخر، فقد تطوَّرت أيضًا طبيعة اللاعبين وتدفُّق المال داخل المجتمعات الطبيّة الحيويّة والصيدلانيّة، ممّا يحمل مضامين مهمّة بالنسبة لأيّ نظام تشريعي في المستقبل. والسؤال المركزي هنا؛ كيف ينظر الفيلسوف والمفكر الأميركي "فرانسيس فوكوياما" لسياسات المستقبل؟
في كتابه "مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية"(*) يرى "فوكوياما" أنَّ مجتمع علماء الأخلاقيات الحيوية الذي تطوَّر بالترادف مع صناعة التقنية الحيوية، يمثِّل سلاحًا ذا حدّين في كثير من جوانبه. فهو من ناحية قد لعب دورًا بالغ الأهمية في إثارة الشكوك والتساؤلات حول حكمة وأخلاقية ابتكارات تقنية بعينها؛ ومن الناحية الأخرى، تحوَّل كثير من علماء الأخلاقيات الحيوية إلى مجرَّد مبرِّرين متكلفين (ومغالطين) لكل ما يرغب المجتمع العلمي في فعله، فلديهم من المعارف اللاهوتيّة الكاثوليكيّة، أو ميتافيزيقا كانْت، ما يكفيهم للردّ على الانتقادات التي قد يوجِّهها إليهم أي شخص من خارج هذين التقليدين، والذي قد يعترض بصورة أكثر عنفًا من غيره. وقد خصَّص مشروع الجينوم البشري منذ بداياته الأولى 3% من ميزانيّته لدراسة المضامين الأخلاقية والاجتماعية والقانونية للأبحاث الوراثية(مستقبلنا بعد البشري، ص250،251).
ويمكننا أن نعتبر هذا الأمر اهتمامًا جديرًا بالثقة بالنسبة للبُعد الأخلاقي للبحث العلمي، أو أن نعتبره إتاوة ماليّة يجب على العلماء دفعها لإبعاد علماء الأخلاقيات الحقيقيين عنهم. يقول "فوكوياما": "وفي أية مناقشة حول الاستنساخ أو أبحاث الخلايا الجذعية أو هندسة الخط الجنسي أو ما شابهها، عادة ما يكون عالِم الأخلاق الحيوية المحترف، من بين جميع الحاضرين، هو مَن يمكن الاعتماد عليه في اتِّخاذ أكثر المواقف تساهلًا، لكن إذا لم يخبرك عالم الأخلاقيات بأنك لا تستطيع أن تفعل شيئًا ما، فمن عساه يخبرك؟"(ص252).
هنا يذكر "فوكوياما" أنه في عام 1990 أقرّت بريطانيا قانون الإخصاب الذي رسّخ واحدًا من أكثر الأطر العملية القانونية في العالم وضوحًا في مجال فرض القيود على الأبحاث المتعلقة بالأجنّة والاستنساخ. وقد اعتُقد أنَّ هذا القانون يحظر الاستنساخ التكاثري، بينما يجيز الاستنساخ البحثي، على الرغم من أنَّ محكمة بريطانيّة أصدرت سنة 2001 حكمًا يقضي بأنه من الممكن فعليًّا السماح بالاستنساخ التكاثري لوجود ثغرة في هذا القانون، ممّا أدّى إلى تحرُّك الحكومة على الفور في محاولة منها لسدِّها. ونظرًا لعدم وجود إجماع عبر القارة بشأن هذا الموضوع، فلم يُتَّخذ أي فعل على المستوى الأوروبي لتنظيم أبحاث الأجنّة، باستثناء إنشاء المجموعة الأوروبية للأخلاقيات في العلوم والتقنيات الحديثة(ص253).
ولا تمثِّل بحوث الأجنّة سوى البداية لسلسلة من التطوُّرات الحديثة قادت إليها التقنية، وسيتعيَّن على المجتمعات أن تتَّخذ قرارها بشأن القوانين التنظيمية المتعلقة بها، وتتضمَّن تلك القوانين التي ستظهر عاجلًا أو آجلًا ما يلي:
* التشخيص والتحرّي قبل الانغراس
سوف تصبح هذه المجموعة من التقنيات التي يتم فيها تحري عدد من الأجنّة وراثيًّا بحثًا عن العيوب الخلقية وغيرها من الخصائص، نقطة الانطلاق نحو "الأطفال حسب الطلب"، وستظهر قبل هندسة الخط الجنسي البشري بكثير.
والواقع أنَّ مثل هذا التحرّي قد أجري بالفعل بالنسبة لأطفال آباء معرّضين لأمراض وراثية معيَّنة. هل سنرغب في المستقبل أن نسمح للآباء بتحرّي الأجنّة وغرسها انتقائيًّا في الرّحم على أساس الجنس والذكاء والشكل ولون الشعر أو العينين والجلد والتوجُّه الجنسي وغيرها من الخصائص، بمجرد التمكُّن من التعرُّف عليها وراثيًّا؟(ص254).
* هندسة الخط الجنسي
إذًا، وعندما تصل الأمور فعليًّا إلى هندسة الخط الجنسي البشري، فستثير القضايا نفسها التي يثيرها التشخيص والتحرّي قبل الانغراس، ولكن بشكل أكثر تعقيدًا؛ فالتشخيص والتحرّي قبل الانغراس محدود بحقيقة أنه سيكون هناك دائمًا عدد محدود من الأجنّة التي يمكن الاختيار من بينها، وفقًا لجينات الأبوين. لكنَّ هندسة الخط الجنسي ستعمل على توسيع الاحتمالات الممكنة لتشمل تقريبًا كل سمة أخرى تحكمها الوراثة، شريطة أن يمكن تحديدها بنجاح، بما فيها تلك السمات التي تأتي من أنواع أخرى من الأحياء(ص254).
* صنع الخيمر باستخدام جينات بشريّة
ذات مرَّة صرَّح "جيوفري بورن" المدير السابق لمركز الرئيسيات التابع لجامعة إموري، بأنه: "من الأهمية بمكان -من الناحية العلمية- أن نحاول إنتاج هجين بين القرد والإنسان"، كما اقترح باحثون آخرون أن تُستخدم النساء كـَ"مُضيفات" لحمل أجنّة الشمبانزي أو الغوريلات. وأعلنت إحدى الشركات التقنيّة الحيويّة، وهي شركة التقنية الخلوية المتقدمة، أنها قد نجحت في نقل (DNA) بشري إلى بويضة بقرة، وأنها أنمتها حتى مرحلة الكيسة الأريمية قبل تدميرها. وقد امتنع العلماء عن إجراء البحوث في هذا المضمار خوفًا من تشويه سمعتهم، لكن مثل هذه الأبحاث ليست مخالفة للقانون في الولايات المتحدة الأميركية، فهل سنسمح بتخليق مخلوقات هجينة باستخدام جينات بشريّة؟(ص254،255).
* فوكوياما: أين نرسم الخطوط الحُمْر؟
علاقةً بكل هذا يتساءل "فوكوياما": أين نرسم الخطوط الحُمْر؟ وهو يرى هنا أنَّنا بمجرد اتفاقنا، من حيث المبدأ، على حاجتنا إلى القدرة على رسم الخطوط الحمر، فلن يكون من المُجدي أن نقضي وقتًا طويلًا في المجادلة حول أين بالضبط يجب أن تُرسم هذه الخطوط. فكما هي الحال في المجالات الأخرى للتنظيم، يجب اتخاذ كثير من هذه القرارات على أساس التجربة والخطأ، وتنهض بذلك الهيئات الإدارية بناءً على معارف وخبرات لا تتوافر لنا في الوقت الحاضر. أمّا الأهمّ فهو التفكير في إنشاء المؤسسات القادرة على صياغة القوانين وتنفيذها؛ وعلى سبيل المثال، استخدام التشخيص والتحرّي قبل الانغراس لأغراض علاجيّة لا تعزيزيّة، وكيفيّة توسيع نطاق هذه المؤسسات على الصعيد الدولي(ص260).
لا بدَّ أن يبدأ الفعل بالمشرِّعين، ليضاعفوا جهودهم ويضعوا القوانين وينشئوا المؤسسات القانونية المعنيّة. لكنَّ هذا أمر قوله أسهل من تطبيقه؛ فالتقنية الحيوية موضوع معقد فنيًّا ويحتاج متطلبات خاصة، كما أنها -بالإضافة إلى ذلك- تتغيّر كل يوم، وتتضمّن تشكيلة واسعة من جماعات المصالح الذين يجذبونها إلى اتِّجاهات شتى. ولا يمكن تصنيف المناورات السياسية للتقنية الحيوية ضمن الفئات السياسية المألوفة؛ فكون المرء محافظًا، أو اشتراكيًّا يساريًّا ديمقراطيًّا، لا ينبئنا على الفور بالكيفيّة التي سيصوِّت بها على قانون يجيز ما يسمّى بالاستنساخ العلاجي، أو بإجراء أبحاث الخلايا الجذعيّة. لهذه الأسباب يفضّل الكثير من المشرّعين تجنُّب الموضوع آملين حلّه بطريقة أخرى(ص260).
إذًا، إنَّ أية هيئة تنظيمية لا بد أن يكون لها التفويض اللازم، ليس فقط لتنظيم التقنية الحيوية على أسس أوسع من مجرّد الفعاليّة والسلامة، بل ويجب أن تتمتَّع أيضًا بالسلطة القانونية على جميع عمليات البحث والتطوير، وليس فقط على الأبحاث المموَّلة اتحاديًّا. ومن هذه الهيئات "هيئة الإخصاب والأجنة البشرية"، قد تمّ تشكيلها بالفعل في بريطانيا لهذا الغرض.
إنَّ توحيد القوى التنظيمية في هيئة واحدة جديدة سيُنهي ممارسة الإذعان لتقييدات التمويل الاتحادي بالبحث عن جهات راعية من القطاع الخاص، وسيُلقي بأضواء أكثر انتظامًا على قطاع التقنية الحيوية برمّته.
* بداية التاريخ ما بعد البشري
يرى "فوكوياما" أنَّ العالم ما بعد البشري قد يصير عالمًا أكثر هرميّة تنافسيّة بكثير من العالم الموجود حاليًّا، وبالتالي سيعجّ بالصراعات الاجتماعية. وقد يصبح عالمًا تضيع فيه أية فكرة عن "الإنسانية المُشتركة"؛ لأننا مزجنا الجينات البشرية بجينات أنواع أخرى من الأحياء بحيث لم تعد لدينا فكرة واضحة عن ماهيّة الإنسان.
قد يكون عالمًا يدخل فيه الإنسان الوسطيّ قرنَه الثاني من العمر، وهو يجلس في دار لرعاية المسنّين يتطلَّع إلى موت يصعب الوصول إليه؛ أو ربّما كان ذلك النّوع من الطغيان الناعم الذي تخيَّله كتاب "عالم شجاع جديد"، والذي يتمتَّع فيه الجميع بالصحة والسعادة، لكنهم جميعًا ينسون ما يعنيه الأمل أو الخوف أو الصِّراع.
واختتم "فوكوياما" بالقول: ليس علينا قبول أي من هذه العوالم المستقبليّة تحت شعار زائف عن الحريّة، سواء كانت تلك حرية الحقوق الإنجابيّة غير المحدودة، أو حريّة إجراء البحث العلمي بلا قيود. ولا يتعيَّن علينا اعتبار أنفسنا عبيدًا للتقدُّم التقني المحتوم، عندما لا يخدم هذا التقدُّم غايات الإنسان. إنَّ الحرية الحقيقية تعني حرية المجتمعات السياسية في حماية أغلى قيمها؛ وتلك هي الحرية التي نحتاج إلى ممارستها فيما يتعلّق بثورة التقنية الحيويّة اليوم.
- - - - - - - - - - - - - - - -
(*) مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية، فرانسيس فوكوياما، ترجمة إيهاب عبدالرحيم محمد، إصدار مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، ط1، 2006.