قصة: د. زياد أبولبن
قاص أردني
z.laban@yahoo.com
كانت تقول له: "زواج المجانين في كوانين". لم يكن شهر كانون ذاك العام مثل كوانين الأعوام السابقة، فالبرد القارص يشقّ وجه الصباح إلى نصفين؛ وجه كوخز الدَّبابيس في وجوه المارّة في أزقّة المخيّم، ووجه يصافح بياض الثلج الذي خطّى بيوت الصفيح.
انتظر "بسام" كل هذه الشهور بصبر فرّغ حمولته في أوصاله المرتجفة. كان حرصه الشديد يقطع أنفاسه في كل صباح، فغدًا حفل زفافه على حبيبته "سلوى"، التي انتظرته ثلاث سنوات، فلا يرى في "سلوى" أكثر ممّا رأى مجنون عبس في "عبلة"، وبلاد الخليج أضاعت من عمره ثلاث سنوات مرّت كحصاد زَرْع تذروه الرِّياح.
نظر بطرف عينه، وقبّلَ يديها الرّخوتين، وقال: "يمّه، قد أكون آخر المجانين في كوانين". ابتسمَتْ، ورفعَتْ يديها إلى السماء في دعاء تستمطر فيه فرحًا يملأ أركان بيتها، كان المطر الذي أعقب دعاءها، بصوته المتراقص على ألواح الزينكو، بُشرى خير يلفّ زوايا البيت، كما أسرَّت في نفسِها، فرحًا يساوي ثمانين سنة مضت من عمرها.
رقص "بسام"، ورقص أهل بيته حتى ساعة متأخرة من الليل، وزغاريد أمّه العجوز تضيع مع صوت الريح الذي عصف بالبيوت، وتطايرت أسقف بيوت أخرى، وانشغل الناس في إصلاح ما يمكن أن يستر حالهم، وضاع صوت أمّه بين أصوات تبحث في رجع صداها عن مأوى يحمل أنفاسًا دافئة إلى أوَّل ساعة من نهار يمزِّق عتمة الليل ووحشة المكان.
نام "بسام"، وهو يحلم بيوم ميلاده من جديد، يوم يحمل عروسه "سلوى" إلى بيت ينوء تحت شتاء مرير، ويردِّد في صمت يخالطه الخوف والفرح: "الله يستر".
كان ذاك النهار يمزِّق وحشة العاصفة التي خَفَتَ خبطُها على السقوف والأبواب، والصمت يملأ الفضاء، وكأنَّ الناس قد ماتوا أو رحلوا! وحركة البيت أصابها شلل يزحف خلف الأبواب المُغلقة، ورائحة رماد المدفئة يلفظ أنفاسه الأخيرة، لم يسمع صوت أمّه أو حركة قدميها التي تزحف لصنع إبريق من الشاي بالميرميّة، وتسخِّن خبز "مترتر"، (أي ناشف) من شدة البرد.
فتح باب غرفتها، أحسَّ بهواء بارد يصفع وجهه، جسد أمّه متكوِّر تحت اللّحاف، نادى بصوت مرتجف يخرج من حلقه الجاف، وهو يبلع ريقه بصعوبة: "يمّه.. يمّه.. يمّه"، سَحَبَ اللّحاف عن وجهها المتورّد، وعينيها الجاحظتين، صرخ بأعلى صوته: "يمّه.."، ودموعه تسابق الريح خارج البيت.
كان يومًا حزينًا. الوجوه تنظر الجسد المسجّى على أرض الغرفة. سار النَّعش في جنازة اخترقت أزقّة المخيَّم، وودّعها الناس بالدُّموع، وعاد "بسام" يجرّ أذيال الفاجعة. بكى طوال الليل، وهو يحضن وسادة أمّه، وأنينه ينفرط كحبّات مسبحتها، ويمزّق سكون العاصفة. هدأت الريح، وتوقّف صوت المطر، وكأنَّ الطبيعة تنازعه حزنه الأسود. تمنّى أن يطول الليل، بل تمنى أن لا يأتي النهارأبدًا، ويبقى ظلام الليل يطارحه وحدته، وقسوة كانون، و"سلوى" أبعد من سماء تنذر بعاصفة جديدة.