د. خالد الزغيبي
باحث ليبي
ينظر حنفي إلى التراث ليس بوصفه نمطًا سلوكيًّا ماضيًا، بل هو "نظريّة للعمل وموجِّه للسلوك وذخيرة قوميّة يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقـته بالأرض". فالتراث هو جزء من المكوِّن النّفسي للمجتمع العربي، وبالتالي فإنَّ أيّ تعامل معه يجب أن يحوز على المشروعيّة التي تُجيز إعادة تأويله في ضوء الإشكاليّات الفكريّة والأيديولوجيّة التي تواجهه على صعيد الواقع. وإذا كان مشروع التجديد والتحديث مشروعًا أيديولوجيًّا بالأساس، فكيف أمكن لحسن حنفي أن يؤسِّس لمشروعه؟ وكيف استطاع ضمن مشروعه (اليساري) أن يخوض غمار التراث؟
أفضى السؤال النهضوي إلى مأزق ثنائي حاد يتلخص في موقفين: الأوَّل يستميت في الدفاع عن الهوية ويصون قلعتها التاريخية ضدّ خطر الأفكار الهدّامة والمذاهب المستوردة، والآخر يشخِّص حالة التخلف، في التمسك بالمعتقدات الماضية التي أصبحت تشكل حاجزًا أمام التقدُّم. في مقابل هذين الموقفين، يبرز مشروع المفكر (حسن حنفي) الذي يحاول تجاوز هذه الوضعية الخطيرة في اتجاه (تـثوير التراث). ويطلق حنفي على مشروعه اسم (اليسار الإسلامي)، الذي يعبِّر بشكل مباشر "عن الأغلبية الصامتة المقهورة بين جماهير المسلمين ويدافع عن مصالح الناس، يأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء وينصر الضعفاء على الأقوياء ويجعل الناس كأسنان المشط"(1).
إنَّ قراءة حنفي للتراث تتأتّى في إطار مشروع حضاري -(التراث والتجديد)- عبر ثلاثة محاور هي: موقفه من التراث القديم، موقفه من التراث الغربي، نظريَّته في التفسير، وعلى الرّغم من أنَّ إعطاء فكرة كافية عن مشروع حنفي هو نوع من (المجازفة) العلمية نظرًا لسعة الموضوع وتشعُّبه، فإنَّ من الممكن رصد أهم سماته بما يأتي:
- ضرورة تغيـير الواقع عبر الاستعانة بالتراث.
- استحالة التغيير من دون الاعتماد على الجماهير.
- خضوع الجماهير لمُوَجِّهات دينيّة تحكم سلوكها وحركة فعلها.
- المُوَجِّهات الدينية المؤطرة للفعل الجماهيري هي مُوجِّهات سنيّة أشعريّة في معظمها.
- التأويل الأشعري للعقيدة (الوحي والسنّة) هو تأويل محافظ انتهى إلى تركيز السلطة في يد الفرد الواحد ضدّ الأغلبية من جماهير الشعب.
وفق ذلك يحدِّد حنفي منهجًا تجديديًّا يرتكز على:
- إعادة بناء أصول العقيدة بناءً مغايرًا يخدم قضية الجماهير لا قضية السلطة المركزية.
- إعادة بناء الشعور التاريخي ومن ثم الوعي التاريخي.
- إذا كانت أصول العقيدة هي التي تؤسِّس وعي المؤمن وتحدِّد تصوُّراته حول الواقع الاجتماعي، فإنَّ إعادة بناء الأصول العقائدية يصير بمثابة إعادة بناء للوعي.
إذن، كيف يؤصِّل حنفي (للأنا) من خلال نظرته إلى التراث القديم؟
وكيف يقضي على أسطورة المعلِّم الأبديّ (الغرب) من خلال مشروعه؟
ينظر حنفي إلى التراث ليس بوصفه نمطًا سلوكيًّا ماضيًا، بل هو "نظرية للعمل وموجِّه للسلوك وذخيرة قوميّة يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقـته بالأرض"(2). فالتراث هو جزء من المكون النفسي للمجتمع العربي، وبالتالي فإنَّ أيّ تعامل معه يجب أن يحوز على المشروعيّة التي تُجيز إعادة تأويله في ضوء الإشكاليات الفكرية والأيديولوجية التي تواجهه على صعيد الواقع.
يقول حنفي: "إيماننا هو (التراث والتجديد) وإمكانية حل أزمات العصر أو فكّ رموز العصر دفعة جديدة نحو التقدم، فالتراث هو المخزون النفسي لدى الجماهير، وهو الأساس النظري لأبنية الواقع"(3). غير أنَّ إعادة قراءة التراث يجب أن لا تتجاهل الجانب الأيديولوجي، ذلك أنَّ مشروع التجديد والتحديث هو مشروع أيديولوجي بالأساس، وعليه أن يتسلّح بمفاهيم عصرية مثل: يمين، يسار، "فالمعتزلة يسار والأشاعرة يمين، والفلسفة لها يسار ويمين، فالفلسفة العقلانيّة الطبيعيّة عند ابن رشد يسار، والفلسفة الإشراقيّة الفيضيّة عند الفارابي وابن سينا يمين، والتشريع به يسار ويمين، فالمالكيّة التي تقوم على المصالح المرسلة يسار، والفقه الافتراضي عند الحنفيّة يمين، وفي التفسير: التفسير بالمعقول يسار والتفسير بالـمأثور يمين، والحسين سيد الشهداء يسار، ويزيد والأمويون يمين"(4).
ويرى حنفي "أنَّ الله قد تمّ الدفاع عنه عند القدماء، وانتصروا في قضيّتهم إثباتًا للتنزيه، فإننا ندافع عن الأمة التي اعتراها التفتُّت وأنهكها الضياع، وتوالت عليها الهزائم، وانتابها العجز، وعمَّها القعود"(5).
ويبقى السؤال المُلحّ: كيف أمكن لحسن حنفي أن يؤسِّس لمشروعه، وكيف استطاع ضمن مشروعه (اليساري) أن يخوض غمار التراث؟
ينطلق حنفي من مسلَّمة مفادها، (أنَّ الدين يُقاس بوظيفته)، فالإسلام جاء لخلاص الإنسان ولتنظيم حياته وعمله، وعلاقته بالله وبالآخرين، فهو لا يقرّ الظلم والاستغلال والتعسُّف. غير أنَّ وظيفة الدين تتغيَّر بتغيُّر القائمين عليه، فالدين بشكل عام "لدى الشعوب التاريخية هو مصدر قيمها ومنبع فكرها وأصل تراثها وموجه سلوكها، تلجأ إليه ساعة الشدة وتتجه نحوه في اللحظات الحاسمة من تاريخها، وهو أيضًا عامل في تقدمها أو تأخرها طبقًا للوظيفة التي يؤديها فيه، وطبقًا لاستعمال مختلف الطبقات الاجتماعية له، تـثور به الجماهير، وتتحكم به السلطة، تواجه به الشعوب في مقاومتها المحتل، ويستغله المحتل الأجنبي من خلال السلطة الدينية طلبًا لطاعة الجماهير"(6). ويرد حنفي تلك الحالة المأساوية التي يزخر بها الواقع العربي، إلى استغلال السلطة للدين وتوظيفه لصالحها، وهو الأمر الذي لم يكن ممكنًا قبل القرن الخامس الهجري، وهي المرحلة التي أفرز الاجتهاد فيها عقلانية (المعتزلة). ولكن بانتصار الاتجاه الأشعري وتسيُّده على مستوى الفكر الرسمي للدولة السُنيّة، قُدِّر للأشعريّة أن تفرض سيادتها بعد أن كانت مجرَّد حركة تحريفيّة للفكر المعتزلي ومراجعة لها ونكوصًا عنها.
ولئن كان الإنسان من وجهة النظر الأشعريّة قاصرًا سواء على مستوى العقل أو الإرادة، فقد اقتضى ذلك أن يظلّ العقل تابعًا للنقل، وأن تظلّ الإرادة الإنسانية تابعة للإرادة الإلهية، وهو الأمر الذي يقود في النهاية إلى ترسيخ سلطة الحاكم باعتبارها امتدادًا لسلطة الله. "ومن هذا التصوُّر المركزي للعالم جاءت فكرة الزعيم الأوحد، والمنقذ الأعظم، ومبعوث العناية الإلهية... وتحوَّلت سلطوية التصوُّر إلى تسليط النظم والإعلاء من شأن القمّة على حساب القاعدة، بل يوجد أمر وتنفيذ، سمع وطاعة"(7). فأهل السنة -بحسب رأي حنفي- فصلوا بين العمل والإيمان، اكتفوا بالإيمان وأرجأوا العمل إلى يوم القيامة، وبذلك ساد الفساد والنفاق، في حين اعتبر المعتزلة والخوارج الإيمان بلا عمل كفرًا صارخًا، وقد ترتَّب على ذلك موقفهم السياسي الذي لا يجيز الإيمان في حالة وجود سلطة طاغية. لذلك "استطاع المعتزلة معارضة النظم اللاشرعية القائمة وتكوين جبهات معارضة وفكر معارضة، كما استطاع الخوارج تنظيم المقاومة الفعلية والخروج على النظم اللاشرعية القائمة بالسيف"(8).
وتجدر الإشارة قبل الاسترسال في عرض آراء حنفي حول آليته المقترحة في التعامل مع التراث، إلى مدى تأثير الواقع وما يشهده من إشكالات على فكره، الأمر الذي أسهم في خلق حالة من الامتعاض لديه بحيث لم يعُد يرى ثمة بديلًا عن إحداث ثورة فكرية للخلاص. ولكن الثورة تحتاج إلى مرتكز ونقطة انطلاق؛ فمن أين يبدأ؟ هل يبدأ بالثورة على الواقع أم على التراث الذي يشكل الأساس المرجعي لهذا الواقع؟ أم يعيد بناء التراث ليتمكن من معالجة الواقع؟
تُعدُّ هزيمة (حزيران/ يونيو 1967)، بداية فعلية لسيطرة الهاجس (الثوري) على فكر حسن حنفي؛ فقد أصبح التنظير الثوري شاغله الوحيد، لاسيما بعد أن خلق واقع الهزيمة وما ترتب عليه من صدمات وإحباط في داخله إدراكًا مباشرًا بـ"أننا حاولنا أن نقيم مجتمعات ثورية دون وعي ثوري ودون نظرية ثورية فعكف كثير من المفكرين على التعرف على مقدمات الثورة وشروطها، ولمّا كان الحديث عن الثورة حديثًا مباشرًا ما زال يخضع للرقابة الشديدة في مجتمعاتنا إبان الثورات العربية الأخيرة، لجأت إلى التراث الغربي كوسيلة للحديث عن الثورة والتقدُّم والوعي والجماهير"(9). بيد أنَّ هذا الإحباط قدِّر له أن ينجلي بعد انتصار الثورة الإسلامية في (إيران)، وهو الأمر الذي حقق نقلة فكرية نوعية في فكر حسن حنفي. حيث أثبتت له الأحداث أنَّ (النظرية الثورية) إنَّما تنبع من تراث الأمة ذاته وأنَّ المهمة تكاد تنحصر في (تثوير التراث).
• الهوامش:
(1) حسن حنفي، "ماذا يعني اليسار الإسلامي؟"، مجلة اليسار الإسلامي، ع1، (القاهرة، 1981)، ص9.
(2) حسن حنفي، التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم، ط1، القاهرة، المركز العربي للبحث، 1980، ص11.
(3) حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ط1، المجلد الأول، بيروت، دار التنوير، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1988، ص7.
(4) حسن حنفي، "ماذا يعني اليسار الإسلامي؟"، مرجع سابق، ص8.
(5) حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، مرجع سابق، ص30.
(6) حسن حنفي، الثورة العرابية- مائة عام (1881 ـ 1981)، د.ط، القاهرة، دار الموقف العربي، 1981، ص34.
(7) حسن حنفي، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1981، ص185.
(8) حسن حنفي، التفكير الديني وازدواجية الشخصية في فكرنا المعاصر، ط1، بيروت، دار التنوير، 1981، ص13.
(9) لسنج: تربية الجنس البشري، ترجمة وتقديم وتعليق حسن حنفي، ط1، بيروت، دار التنوير، 1981، ص7.