مجدي دعيبس
كاتب أردني
ما بين الواقع واللاواقع تأخذنا رواية "ماندالا" إلى عوالم ملتبسة بين الحياة والموت، وبين الحلم واليقظة والهلوسة، وبين الأسطورة والتاريخ والحكاية الشعبيّة. رواية تحفر في الصخر لغة وبناءً وخيالًا وتبحث عن مكان في ذاكرة مثخنة بالظلال وأنصاف الأشياء. وقد اعتمد الكاتب مخلد بركات بقصديّة واضحة في مقاطع محدَّدة من الرواية على الهلوسة والهذيان؛ وهذا طقس سوريالي معروف، وربَّما يكون الهدف منه الوصول إلى العقل الباطن وما يخبِّئه الإنسان هناك ولا يجرؤ حتى على التفكير به، وربَّما كي يُبقي الاحتمالات قائمة ولا يقطع بحدوث الأمر على وجه ما، ليظلّ التّأويل مفتوحًا على مصراعيه.
إنَّ الحديث عن رواية كرواية "ماندالا" للرِّوائي والقاص وكاتب الدراما مخلد بركات أمر مربك ومحيِّر؛ خاصة إذا ما قرَّرنا إهمال التّخوم والتّوجُّه مباشرة نحو المركز، ولعلَّ مردّ هذا الارتباك وهذه الحيرة هو تحطيم النماذج البنائية السائدة للفعل السردي والخروج ببناء مغاير اعتمد عليه الكاتب وبسط ظلاله على أحداث ومجريات الرواية ابتداء بالعنوان "ماندالا" وانتهاء بالفقرة الختاميّة التي كان من المفترض أن تروي عطشنا لكنّها على العكس تمامًا زادت من التياحنا وظمئنا. رواية مغيظة؛ ما تلبث أن تعطيك حتّى تأخذ منك وتعيدك إلى المربع الأول. تراوغك وتراوغك حتّى تظن أنّها مجرَّد فعل عبثيّ لا هدف منه سوى المراوغة المجرَّدة من أيّ معنى، لكنّ هذه الوطأة تخفّ كثيرًا في الأقسام أو اللوحات الأخيرة من الرواية والتي بلغ عددها 22 قسمًا. ولا أقول إنَّ رواية الفنتازيا جديدة على الأدب العربي أو العالمي، بل أقول: كم من هذه الروايات التي تنتمي إلى هذا النوع -على قلّتها- تأتي متماسكة ومقنعة وخاصة على صعيد اللغة والخيال.
البحث عن الاختلاف رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر؛ لأنّها قد تؤدي إلى نهايات غير متوقّعة. الخروج من دائرة الذائقة المألوفة والوصول إلى المساحات الرّماديّة القابعة في أعماقنا والابتعاد عن الحكاية المركزيّة التي يقدمها السّارد للقارئ حتى يقنعه بمواصلة القراءة، أمور تشي بروح متمردة لا ترضى بتكرار الحوارات المتوقعة والحبكات البالية والمشاهد الرخيصة. قد يظهر الأدب الجيد بعيدًا عن السياق العام والمزاج السائد، فيبدو مثل سهم طائش أطلقه صاحبه نحو القمر ظانًّا أنّه طائرٌ فضّي سمين.
البداية الصادمة التي استهلّ بها الكاتب سرده جاءت لتحضّرنا لأجواء الرواية الغرائبية، وربما تحيلنا بعض الشيء إلى بداية رواية المسخ لكافكا عندما يصحو "جريجور" من نومه ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة بغيضة، لكن ما يحدث في مقدمة "ماندالا" أنَّ الصدمة جاءت بأسلوب مغاير وهو عدم تيقننا إن كان الذي يتحدّث حيًّا أم ميتًا أم يقف على الحدّ الفاصل بين الحياة والموت. يقول الراوي في مفتتح الرواية: "كأنما سمعته يتمتم: ستمر الخيول من هنا بيضاء كقباب الفرح... هل سمعته حقًا؟ هل أكون من الأحياء عندما أعتاش على الذاكرة أم ميتًا يتشبّث بالحياة؟ لماذا عليّ أن أفتّش في ذكرياتي؟ حينها أغدو أكثر بؤسًا ويصير وجهي مختلفًا في المرايا؟ عندها لا أفرّق بين طفولة وكهولة، يخونني المعنى وتشتعل شكوكي: هل الأنف في مكانه تحت العينين، ناتئ قليلًا إلى الخارج؟ هل الفم بوابة الملذّات، وأنّها ربما تصبغ بلون من خارجها فتخون؟ هل لي ذاكرة مثل البشر؟".
ما بين الواقع واللاواقع تأخذنا رواية "ماندالا" إلى عوالم ملتبسة بين الحياة والموت وبين الحلم واليقظة والهلوسة وبين الأسطورة والتاريخ والحكاية الشعبية. رواية تحفر في الصخر لغة وبناءً وخيالًا وتبحث عن مكان في ذاكرة مثخنة بالظلال وأنصاف الأشياء.
من الصعب أن نلملم شتات "ماندالا" في قراءة واحدة؛ فالرواية ليست مجانيّة ولا تقدم نفسها على طبق من فضة؛ فهي مزيج من الرمزيّة والسوريالية التي تتمثل بالأحلام والهذيان والتذكارات كوسيلة للوصول إلى اللاوعي، وهناك الفنتازيا التي تعتمد على تجاوز معايير الطبيعة المعروفة فالسارد وهو الدكتور صلاح العوّاد شخص ميت في المفهوم الفيزيائي للموت لكن هذا لم يمنعه من الحديث إلينا.
وحتى نكون على سوية واحدة من الرواية لا بد من عرض الحكاية والشخصيات حتى نصل إلى ما وراء الحكاية، وهذا ما يهمّنا من السرد على أيّ حال. تتحدث الرواية عن تشرذم وتخبّط الواقع السياسي العربي في العقود الخمسة الأخيرة؛ المكان يتوزَّع بين معتقل صحراوي غير معروف وعمّان وصويلح والبادية الأردنية وبغداد وبابل ومرّاكش والرباط وبيروت. الرواية قابلة للتّأويل من خلال طرح أحداث فيها غنى روائي يمدّها بطاقة كامنة تأخذها إلى مدارات أبعد من حدود الكلمات التي تصوغ الحدث.
الدكتور صلاح عبدالعزيز العوّاد: الراوي الذي يتولّى عملية السرد إلّا من أماكن محددوة حيث تقوم بعض الشخصيات بتذكُّر ما حدث معها في مفاصل مهمّة من حياتها. بدوي من الصحراء أو البادية الأردنية، يدرس المرحلة الثانوية في صويلح، ويحصل على درجة الدكتوراه في علم النفس في الجامعة الأردنيّة، ينتمي للحزب الشيوعي الأردني. خلال محاضرة له بعنوان "تفكيك الشخصية العربية المهزومة من منظور علم النفس" يتعرّف على "ميساء إسحاق" التي تأخذه إلى مرسمها في جبل اللويبدة وتدخله إلى الغرف السرّيّة السبع. يسرد علينا الحكاية من قبره القابع تحت بلاطات زنزانة في سجن صحراوي. يسقط في بئر رومانية قديمة وهو فتى عام 1967، وتكون هذه الحادثة أول تجربة له مع الموت، أمّا التجربة الثانية فهي عندما يتلقى رصاصتين بالرقبة من مكان قريب، وغير معروف سبب هذا الاغتيال، لكن من الممكن التوقُّع. إذن نحن أمام رواية غرائبيّة يفتّش فيها طيف الدكتور صلاح في ذاكرته عن أمور حدثت وأمور لم تحدث لكنّها من الممكن أن تحدث لو أنه لم يسقط في تلك البئر على طرف الصحراء. يقول: لكنني حينما أصنع ذكريات قادمة لأقتات عليها وأنا لم أعايشها كي أحلّلها في داخلي، أتساءل من جديد: هل تنفعني هذه الذكريات بما يكفي لأعيش الموت بطقوس الحياة؟
لماذا عام 1967؟ هل هذا إشارة إلى سقطة العرب في الحرب واهتزاز الشخصيّة العربيّة بعد الهزيمة، أم مجرَّد مؤشِّر زماني لبداية السرد؟
• الشخصيات
عبدالسلام العياشي: من مدينة مراكش في المغرب، درس الاقتصاد، كان من المناضلين العرب في بيروت خلال الاجتياح. يقبع الآن في الزنزانة المدفون تحت بلاطاتها الدكتور صلاح في المعتقل الصحراوي، ويحدث أن يتحاورا ويتناقشا كل حين بما كان أو سيكون. يديم النظر من كوّة في الزنزانة الى البعيد وينتظر وصول الخيول "بيضاء كقباب الفرح" كما وصفها في المقدمة. إلامَ يرمز المعتقل الصحراوي؟ وما هي دلالة الخيول التي ينتظرها عبدالسلام؟
يحيى عبدالرزّاق: شاعر عراقي من بابل وينتمي لطائفة الصابئة. يتحول من شيوعي إلى بعثي. يُتهم بالعمالة لأميركا خلال حرب 2003 وتُطلق عليه النار لكنه ينجو ويفقد قدمه، ويستخدم قدمًا اصطناعية بدلًا منها. طيف صلاح يزوره في زنزانته في المعتقل الصحراوي كل حين ويتحدث إليه.
هدية البصري: زوجة يحيى عبدالرزاق وابنة جبريل البصري الذي رفض اجتياح الكويت فتمّت تصفيته. هو من الصابئة وهي من عائلة دينية متشددة وهذا له دلالته. يكتشف الزوج في ليلة الدخلة أنّها خنثى. يعيشان الوهم من خلال تكرار تمثيل لقاء شاعري بينهما على ضفاف دجلة سبع مرّات كنوع من الهروب أو التحايل على الواقع المرير.
شوكت جريس نفّاع الضبع: حلاق لبناني من بيروت متزوج من ألكساندرا. يشارك بالمقاومة إلى جانب رفيقه عبدالسلام العياشي، ويصاب بالمرارة بعد خروج المقاتلين من بيروت. يُرى بعد الحرب على كرسي مدولب يتسوَّل برفقة زوجته في شارع الحمرا.
ميساء إسحاق: تقدم نفسها لصلاح على أنّها طالبة تركية وتحب الموسيقى والرسم ويتبيّن لاحقًا أنها ميساء إسحاق مردخاي يهوديّة صهيونية. تدعو صلاح لدخول الغرف السريّة في المبنى الغامض في جبل اللويبدة لفهم مغزى رحيله عن الحياة.
صيتة مجحم العوّاد: ابنة عم الدكتور صلاح. تقرأ دائمًا في كتاب الأجنحة المتكسّرة لجبران ومتأثرة بموت سلمى كرامة.
الرجل الأحدب الذي يظهر في غير موقع يدخّن الغليون ومنهمك بالكتابة ولا يتحدث إلى أحد، ويتّضح لاحقًا أنّه يكتب الحكاية، حكاية صلاح وباقي الشخصيات، بمعنى أنّه يتحكّم بالأحداث والمجريات والمصائر. ماذا يمثلّ هذا الأحدب؟ هل يمثّل قوة ما تهيمن على حياتنا؟ لكن ما مستويات هذه القوة؟ هل هي قوة سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم جميعها؟ أم هو مجرَّد وهم نمارسه على أنفسنا حتى نخرج من عقدة التقصير وانعدام الفرصة أمام بطش هذه القوة الغاشمة؟
وهناك شخصيات أخرى ثانوية لا مجال للحديث عنها في هذه العجالة وهي: الجد مفلح العوّاد، الأب عبدالعزيز العوّاد، العم مجحم العواد وأخيرًا أم صلاح.
• الغرف السريّة
في الغرفة السّريّة الأولى يرى ست لوحات على شكل "ماندالا" لعبدالسلام ويحيى وشوكت وألكساندرا وهدية وصيتة. في الغرفة الثانية يرى تماثيل طيور البوم ويرى الأحدب وهو منهمك بكتابة الرواية. في الغرفة الثالثة يرى تمثالًا له من الرمل في زجاجة عملاقة، وتمارس ميساء الجنس مع التمثال ويتعالى صهيل الخيول من الغرفة الرابعة ثم يتحوَّل التمثال إلى رماد أسفل الزجاجة. في الغرفة الرابعة يرى الخيول المتحجّرة ما عدا حصان واحد فضيّ اللون. في الغرفة الخامسة يتابع فيلمًا وثائقيًا بعنوان أوغاد الصحراء، ويسمع كلامًا صادمًا عن عبدالسلام ويحيى شوكت وألكساندرا وهدية وصيتة. عبدالسلام إرهابي داعشي ولقبه "أبو دجانة". مجرم ومبتكر طريقة الحرق داخل الأقفاص. يحيى خائن ويتعامل مع الأميركان ويقتل والد هدية. شوكت شهواني وبوهيمي وعربيد ويسرق أجراس الكنائس عند الاجتياح. ألكساندرا معلمة لغة فرنسية، امرأة تقية ومؤمنة. صيتة أخت صلاح وليست ابنة عمّه وثمرة علاقة محرّمة بين أبيه وزوجة عمّه.
يضطجع في الغرفة السادسة ستة أطفال رضّع وهم أبناء صلاح وميساء ويشاهدون وهم يدخلون المعتقل الصحراوي مطأطئي الرأس بعد أن دبّت الفوضى وهرب المساجين إلى الصحراء. في الغرفة السابعة يرى ستّة جماجم على شكل نجمة سداسية ماندالا وجمجمة سابعة مركونة في إحدى زوايا الغرفة.
اعتمد الكاتب بقصديّة واضحة في مقاطع محددة من الرواية على الهلوسة والهذيان وهذا طقس سوريالي معروف، وربما يكون الهدف منه الوصول إلى العقل الباطن وما يخبئه الإنسان هناك ولا يجرؤ حتى على التفكير به، وربما كي يُبقي الاحتمالات قائمة ولا يقطع بحدوث الأمر على وجه ما، ليظلّ التّأويل مفتوحًا على مصراعيه.
• الرموز والدّلالات
المعتقل: يمثل الواقع السياسي والاجتماعي العربي قبل وصول الثورات وما يسمى الربيع العربي.
الخيول: تمثل الثورة والتغيير المنشود والحرية بكافة مستوياتها ومعانيها وأيضًا تمثّل العدل والكرامة والمساواة.
القطار: تحول الثورة إلى أداة بيد الرجل الأحدب وميساء.
الغبار: الذي أوشك عبدالسلام أن يختنق به ويموت من مخلّفات القطار والثورة التي حادت عن مسارها وبطشت بمن ساهموا بها من أمثال يحيى الذي نهشت الكلاب جثته.
المرايا: تشير إلى تعدُّد الروايات وتعدُّد الوجوه وتعدُّد الحقائق أو أنصاف الحقائق أو أرباع الحقائق. ربما الهدف منها التأكيد على وجود وجوه عدّة لأيّ شيء من حولنا.
الفيلم الوثائقي: يشير إلى التزوير والتدليس الممنهج الذي يمارسه الإعلام الموجَّه لتضليل الرأي العام العالمي.
رِجل يحيى المقطوعة: هي نخلة العراق التي واجهت العدوان ونزفت.
الخيول المتحجرة في الغرفة رقم 4: هي الشعوب العربية قبل عهد الثورات.
الحصان الفضيّ: يمثل الأمل بحدوث التغيير في يوم ما.
ميساء تضاجع التمثال الرملي لصلاح فيتحول إلى كومة رمل: يوضِّح ما يمكن أن تقدر عليه الأنثى من إغواء وتدمير.
لوحة حمورابي التي رسمها السائح الإيطالي والمرأة شبه العارية التي تظهر في خلفية اللوحة هي أم يحيى عبدالرزاق، حيث شاع في الحيّ أنّها واقعت السائح على سطح الدار، وهذه صورة لها دلالتها.
• عتبة العنوان
وقبل الخروج من هذا المسار لا بد من أن نعرّج على العنوان الذي وكما يؤكد الأكاديميّون من عتاب النص التي تهيّئنا للدخول في أجواء العمل بكلمة أو عبارة واحدة. وضَّح الكاتب في صفحة التصدير من خلال هامش مطوّل معنى وأصل كلمة "ماندالا"، لن أكرِّر ما ذكره، ولكنني سأصل إلى العبارة المهمة وهي: اعتقد "يونغ" أنه عندما يرسم المرء "ماندالا" أو يلوِّنها فإنَّ رغباته في العقل الباطن يتم التعبير عنها في أنماط هذه الماندالا ورموزها وأشكالها. ولكن ما علاقة هذا بالرواية التي تتحدث عن التاريخ السياسي العربي المأزوم. هل يريد الوصول إلى العقل الباطن للإنسان العربي من خلال علم النفس وتحليل الشخصيّة العربيّة للوقوف على أسباب التّأزّم والانهزام؟ هل يريد تخليص العقل العربي من الكبت الذي تراكم على مدار عقود حتى يعود سويًا كما كان في يوم ما؟ لك أن تتخيل ما شئت ضمن هذا الإطار الفضفاض.
• البناء اللّغوي
البناء اللغوي في هذه الرواية مباغت ومتجدِّد، وجاء ليعوّض عن غياب الحدث أحيانًا. اللغة في رواية الفنتازيا أمر دقيق للغاية؛ فاللغة المسطّحة قد لا تناسب النَّفَس الغرائبي، واللغة الشعرية تقود الرواية إلى منعطف خطير ويصبح الشعر هو الهدف وليس الفن السردي. إذن لا بد من مستوى جديد للغة تمشي على خيط دقيق تقول الشيء وضده في الوقت نفسه. يقول السارد: "منذ اعتقالي ميتًا في هذا السجن الصحراوي وأنا لا أكفّ عن امتصاص رحيق ذاكرتي، مثل نملة مطرودة تعتاش على حبة باذنجان كبيرة، فالذاكرة كالجسد يطويها اغتراب، تنكمش، تهرم، ولكي أتنفَّس لا بد من الحفاظ عليها نشطة معافاة، هم يقولون إنَّ الموتى بلا ذاكرة، يتحلّلون في العماء، يسرقهم الزمن البعيد، ولا يعودون مشاكسين من أجل أرزاقهم، كنت من الموقنين بهذا الرأي، ولكنني الآن على خلاف تام معه". لكن هذا لم يمنع ظهور بعض المقاطع الشعرية هنا وهناك. يقول: "أنا وأمي وقبيلتي ثالوث من عدم الاكتمال، نكثر البحث عن قمر أكثر استدارة ليخضرّ الحلم في نفوسنا في بادية كثير من الأحيان قفراء هائمة، موحشة بجفافها.. أو على فراشة نسي الخريف في أجنحتها اصفرار الشفق".
مع أنني أفضل أن تبقى اللغة قريبة من السرد، ولكن ما يشفع هنا أنَّ هذه المقاطع جاءت على قلّة ومتباعدة، فأصبحت بمكان الملح من الطعام.
• البُعد المعرفي
البعد المعرفي في الرّواية جهد واضح ومثمر سواء كان في الجغرافيا أو الميثولوجيا أو الحكاية الشعبية أو الأديان أو عادات الطعام أو اللهجات أو علم النفس الحديث وغيرها من المواضيع التي اتكأت على ثقافة واسعة ومتنوعة للكاتب. وربما يجدر الإشارة هنا الى ثقافة الصحراء أو البادية التي وجدتُها خصبة ومدهشة في الرواية ولا تصدر إلّا عن ابن هذه البيئة الفاتنة.
• العبارات التأمُّليّة
العبارات التّأمّليّة كانت حاضرة بقوة في الرواية وهي ذات بعد فلسفي ونفسي ومنها: هذه هي الحياة يا صيتة، مثل شجرة الخروب؛ درهم حلاوة وقنطار خشب.
مغامرة الروائي في التّخلّي عن الجانب التشويقي تحسب له وليس عليه، فالخروج من عباءة السائد والمألوف يحتاج لجرأة ودراية وتمكّن من أدوات السرد؛ وهو ما لمسته في هذا العمل المتعب كتابة وقراءة. رواية غنية ومليئة بالإحالات السياسية والاجتماعية والثقافية وهناك تفاصيل ورموز لم تحط بها هذه القراءة على أمل أن تكون هناك قراءات لاحقة تكشف زوايا معتمة بحاجة للبحث والتّبصُّر.