الموت والانبعاث في شعر خليل حاوي ديوان الناي والريح نموذجًا


د. عبد القادر الرباعي
ناقد وأكاديمي أردني
qader_a_rabbai@hotmail.com


احتفى خليل حاوي في شعره بتنافر الأضداد، أو المفارقات المثيرة، والمقترنة ‏بالانفعال الحادّ المنضبط إيقاعيًّا. وأهميّة هذه الثنائيّات المتضادّة لدى حاوي، دفعته إلى ‏أن يجعل عنوانات دواوينه مدموغةً بها، فترك خمسةَ دواوينَ شعريّة، تحمل عناوينُها ‏ظاهرةً لافتة هي ثنائيةٌ ضديّة دالّة.‏

خليل حاوي شاعر لبناني وُلد عام 1919م على أرجح الأقوال، وتوفي عام 1982. ‏كان في شعره وحياته صارمَ العزم، فلسفيَّ الرؤيا، قاسيَ النَّهج. اشتغل -وهو ما زال ‏صبيًّا بعد وفاة أبيه- في حمل حجارة البناء وطينه، لكنه لم يترك القراءةَ وتثقيفَ نفسه ‏يومًا، إلى أنْ نال درجة الدكتوراه من جامعة "كامبريدج" في بريطانيا، ثم صعد أستاذًا ‏في الجامعة الأميركيّة ببيروت وهو في ذُروة الشباب، وانتهى منتحرًا، ليلة اجتياح ‏إسرائيل لبلده لبنان عام 1982. ‏
وتجدر الإشارة إلى أنَّ حاوي كان من أقطاب التَّجديد الشعريّ منذ بداياته الشعريّة. ‏فدواوينه ملتزمة بالشعر الحر، أو شعر التفعيلة. ولأنَّ شعره يلامس حدّ الصراع ‏اللامنتهي، فقد احتفى فيه بتنافر الأضداد، أو المفارقات المثيرة، والمقترنة بالانفعال ‏الحادّ المنضبط إيقاعيًّا. وأهميّة هذه الثنائيّات المتضادّة لدى حاوي، دفعته إلى أن يجعل ‏عنوانات دواوينه مدموغةً بها، ولكنه احتفى أيضًا بالرَّمز، والأسطورة، والصورة، ‏والخيال، في عموم شعره، ولهذا كانت لشعره سمة لا تغيب هي الإبهامُ الذي يحتاج ‏من قارئه قدرًا كبيرًا من الصَّبر، والجَلَد، والإخلاص، فسرعة القراءة لا تأتي بأيّ ‏نتيجة لصالح شعر هذا الشاعر الصارم، والذي أغرقه في هموم العالم المعقَّدة، وتشابك ‏الذات القلقة، ممهورًا بومضات شعريّة موجزة العبارة أو الصورة، متباعدةِ الأنحاء، ‏متصارعةِ الأطراف، لكنَّها منصهرةٌ، في وحدة شاملة لدى كليّة القصيدة، والتفعيلة ‏الموحدة، مثلما ظهر ذلك جليًّا في كل الشعر الذي بين أيدينا له.‏
ترك حاوي خمسةَ دواوينَ شعريّة، تحمل عناوينُها ظاهرةً لافتة هي ثنائيةٌ ضديّة دالّة، ‏فديوانُه الأول: (نهر الرماد) 1957، يحمل سمةَ الانبعاث من قلب الرماد، كطائر ‏الفينيق، وقد لُقِّب بشأنه: شاعرَ الانبعاث. وقد فُسِّر لدى بعضهم بتصويره النهضةَ ‏العربيّة بازغةً من قلب ركام الخمول والاستكانة، إثر وحدة مصر وسوريا. وتابع ‏الانبعاثَ في ديوانه الثاني (الناي والريح) عام 1961، لكنَّ هذا الانبعاثَ أصيب بخيبة ‏أمل في ديوانه الثالث (بيادر الجوع) عام 1965، الذي أتى معبِّرًا عن فشل تلك ‏الوحدة، مثلما أوحى لبعضهم، ويمثِّله فيه: ليعازر، الذي يموت فيعيد الناصري له ‏الحياة، لكنه ظلّ ميتًا، حتى وهو حيّ. في هذا الديوان رمزٌ‎ ‎لإخفاق الحضارة في تقديم ‏قِيَم باقية ترفع من سويّتها في نظر الشاعر. لذا راح ينشد الجمال لدى عالم الغجر، وما ‏إن يتغنّى بهذا العالم البريء حتى تزحف عليه المدينة فتغيِّر حاله، وتصبح الغجريّة ‏جسدًا تمزِّقه الخطيئة، حتى لتبدو الغجريّةُ نفسُها غريبة عن ذاتها، تحنُّ لعالمها القديم، ‏لكن أنّى لها ذلك؟! ‏
وانفرج حال الشاعر في ديوانه الرابع (الرَّعد الجريح) 1979. فقد انتعش وعاد ‏مبتهجًا في هذا الديوان، الذي تجلّت فيه الرؤيا هالةً من هول الرَّعد، ومهابةِ الجبل؛ في ‏طلعة بطل مخلص (حوّل الطغيان... لهوًا.. مهرجانا)؛ مثلما قال في مقدمته للديوان، ‏وكرّر ذلك شعرًا، واستعار فيه تناصًا دينيًّا (صالح في ثمود) رمزًا للهداية الفرديّة. ‏واستمرَّ الانبعاث حييًّا في ديوانه الأخير (جحيم الكوميديا) 1979. ‏
كثيرون هم الذين توقفوا في الرمز الشعري لحاوي عند وضع الأمة العربيّة الراهن ‏العاجز عن إنجاز ما يسعف الشاعر على تمجيده، لذا علق هذا الوضع المستكين ‏بالموت، أمّا الانبثاق فهو، في حالة حاوي، الخروج الشامخ من بين ركام الفشل ‏والخيبات المتوالية. كوحدة مصر وسوريا، في ديوانيه الأولين (نهر الرماد، والناي ‏والريح). وكسر الانبثاق، وعودة الفشل ثانية، في ديوانه الرابع (بيادر الجوع) مجسِّدًا ‏حدث الانفصال من تلكم الوحدة. لكن الأمر تبدَّل إلى حدّ ما في حرب تشرين وعاد ‏الأمل يهـتــزّ في داخله من جديد متمثّلًا بديوانه الرابع (الرعد الجريح)، وامتدّ أثره ‏على استحياء إلى ديوانه الخامس (جحيم الكوميديا). ‏
أعتقد أنَّ التوقُّف في تحليل الخطاب واستنباط المعنى الشعري عند هذه المقايسات ‏التاريخيّة بين الشعر والأحداث الخارجيّة، حتى لو تصادف الحدث والفحوى العام ‏للديوان المنشور زمنه! إنَّما هو توقُّف يجعل من الشعر تأخيرًا للأحداث، وهذا ما شاع ‏في كثير من دراسات الشعر العربي القديم. وهذا منحى تحليلي ناقص مثلما أعتقد، ‏وهو يقلل من القيمة الكبرى للشعر وحدود المعنى فيه، فالشعر ذو لغة جامحة جامعة ‏المكاني والآني معًا، وضاربة في آفاق الفن الرفيع الذي يرتفع بالمحلّي إلى العالمي، ‏بالفردي إلى الإنساني، فالإنسانيّة هي البدء والنهاية. والشاعر -قبل كل شيء- إنسان ‏ينشئ الشعر من دمه وكيانه وثقافته اللا محدودة؛ فرديًّا، وإنسانيًّا. أمّا مهمّتنا، نُقّادًا، ‏ففي متابعته في محاولات تبصريّة لا يحدّها حدّ إلّا اجتهادنا في قراءة خطابه الشعريّ ‏على ضوء فاعليّة تحليل الخطاب، وبما توحي به حركة المعنى الداخلي، الذي يشتبك ‏فيه الآني بالزمكاني ذي الأفق اللا محدود. ويصبح الشاعر لسان الإنسانيّة جمعاء، ‏سواء أكان ذلك تألُّمًا أم ابتهاجًا. إنَّ في الشاعر مضغة تدفعه أن يستمرّ جموحًا جهة ‏الخير ونبذ الشر. وما يبوح به الفكر والعقل، وتقبله الذائقة الفنيّة الخاصّة به. وإنْ كان ‏هذا لا يصدق على كثير من الشعراء، فإنه عند هذا الشاعر هو الغاية والهدف الأسمى. ‏ولو أخذنا قصيدته (الرعد الجريح) التي قيل: إنَّها تحاكي ظهور بطل مخلص تجسّد ‏إخلاصه بشارات الانتصار في حرب تشرين. هذه القصيدة قيلت قبل حرب تشرين لا ‏قبلها مثلما يذكر الشاعر نفسه. قال في ص43 من الديوان: "كانت صورة البطل ‏المخلص مفاجئة لي بقدر ما كانت مفاجئة لغيري ممّن طالع القصيدة حين اكتملت قبل ‏حرب تشرين". ‏
ويعلِّل ذلك بصفاء الرُّؤية الشعريّة، فيردف قائلًا: "ولستُ أدَّعي أنَّ الرؤيا الشعريّة ‏تزيح الحجب، أو ترى عبر الحجب مصيرًا مقدّرًا يهبط من عالم الغيب، بل هي إيغال ‏عبْر ظواهر الواقع إلى بواطنه حيث يولد الحلم في صيغة القدر المبرم الذي تعمل ‏عوامل خفيّة معقَّدة على تجسيده وتحويله إلى واقع". ومهما يكن فإنَّ الشعر ذو إلهام ‏لاستكشاف حالات الإنسان العميقة التي لا يحجبها عن الحقيقة الإنسانيّة الراسخة ‏زمان، أو مكان. لكنَّها لا تصل -كما أظن- إلى أن تصف حدثًا ما قبل وقوعه. أمّا ‏قول حاوي في تفسيره إنَّ الرؤيا الشعريّة عابرة للأحداث لتوليد حلم يصير حقيقة ‏واقعة، فأنا أراه تمهيدًا لاعتباره نفسه نبيًّا دونما نبوّة. فهو في قصيدته (السندباد في ‏رحلته الثامنة) يُشعرنا أنَّهُ ذو بشارات إلهيّة، فهو يتحرّك في محيط الأنبياء، ولكن ‏دون نبوّة. وهذا ما أراهُ قاعدةً لانتحارٍ معنويٍّ يتوالى مع كل خيبة من خيباته المتكرِّرة ‏في عجزه عن تغيير ما سعى إلى تغييره في عالمه. فلو كان خليل حاوي شاعرًا عاديًّا ‏يقبل النجاح والإخفاق ما أوصله قدره إلى مجرَّد التفكير بالانتحار، لكنَّ حاوي الذي ‏يعدُّ نفسه نبيًّا دونما نبوّة يصعب عليه تقبُّل الفشل بسهولة، لأنَّهُ يرى أنَّ رسالته يجب ‏أنْ تُدرَك وأنْ تؤثِّر في الآخرين حدّ التصديق بها، والعمل على تفعيلها، وهذا لم يتمّ ‏منه شيء في عالم كعالم (ليعازر).‏
بدأت قصيدة (ليعازر) بنص من إنجيل يوحنا: "ذهبت مريم، أخت ليعازر، إلى حيث ‏كان الناصري (عيسى عليه السلام)، وقالت له: لو كنت هنا ما مات أخي، فقال لها: ‏إنَّ أخاك سوف يقوم". إذن كان (ليعازر) ميتًا، فأحياه الناصري، لكنه لم يسعد بكونه ‏عاد حيًّا، وإنَّما ظلَّ يعشق موته، فهو يقول للحفّار:‏
‏ "عمِّق الحفرة يا حفّار... عمقها لقاع لا قرار‏
‏ لفّ جسمي، لفّه، حنّطه، واطمره
‏ بكلسٍ مالحٍ، صخرٍ من الكبريت،... فحمٍ حجريّ".‏
لقد أصبح حيًّا ميتًا في الواقع، وكانت هذه الحال الغريبة الشاذّة مصدر بلاء لزوجته ‏التي ظلّت تردِّد على طول القصيدة، بل لقد أنهتها بقولها: ‏
‏ "كنتُ أسترحم عينيه... وفي عينيّ عار امرأة ‏
‏ أنَّتْ، تعرَّت لغريب... ولماذا عاد من حفرته ‏
‏ ميتًا كئيب؟!".‏
ولستُ أشكّ أنَّ وراء (ليعازر) في شعر حاوي رمزًا عميقًا لِما كان يعانيه من تخلُّف ‏مستحكم في محيطه العربيّ الذي قد اكتملت صورته السلبيّة، واستقرَّت على ما هي ‏عليه دون أنْ تصغي له ولغيره ممَّن كانوا يحملون ألوية الإصلاح، ثم يصابون ‏بخيبات أمل مدمِّرة نفسيًّا. وكانت عند حاوي أكثر إيلامًا، بحيث وصلت خيبته إزاءها ‏حدّ الانتحار المعنويّ، الذي قد يصدق عليه ما أسمّيه "الانتحار الجميل"، لأنَّ منه، ‏وبتأثيره الإيجابي أتى شعر هذا الشاعر العبقريّ! ‏
ومن هنا أقول: إنَّ انتحار خليل حاوي الفعليّ عام 1982 لدى اجتياح إسرائيل لبلده ‏لبنان، ما هو إلّا خاتمة لانتحاراته المعنويّة المتكرِّرة عند كل خيبة من خيباته في ‏دواوينه الشعريّة قاطبة، وصدى حقيقي لها. كيف لا وهو يحس في داخله برؤيا ‏بشارات علويّة كبرى، كما في قصيدته التالية.‏
• الناي والريح
سأنتقلُ تاليًا لقراءة يقظة هادئة في واحد من دواوينه هو: (الناي والريح) الصادر في ‏بيروت عام 1961. والديوان عنوانه ثنائيّة متخالفة حدّ التناقض: فالناي هو أيقونةُ ‏السُّكون، ورمزٌ للتقليد، والريح أيقونةُ الحركة، ورمزٌ للتَّجديد. لكنّه عنوان مرسوم ‏بإيقاع تفعيلة البسيط (مستفعلن/ فاعلن) موزعةً بكيفيّة تتساوق ومساقط القول، وتطوُّر ‏الحدث. وتغلب على الديوان لغةٌ أشبهُ ما تكون بالسرديّة في تتابع الأحداث ‏والحوارات، كما تلجُ الحُبكة تلك اللغةَ في مواقف مفاجئة ومحفّزة، وهذه ميزتها الفنيّة ‏العالية.‏
وانطلاقًا من فهمي لماهيّة القراءة النقديّة في جماليّة الخطاب الشعري، سأعبر عالم ‏النص لحاوي في ديوانه هذا (الناي والريح)، بما في ذلك قصيدته المثيرة (وجوه ‏السندباد). تاركًا الحديث عن القصيدة الأخيرة (السندباد في رحلته الثامنة). فهي ‏قصيدة مختلفة تمامًا عن غيرها من قصائد الديوان، ولا أظنها من جسد الديوان أصلًا، ‏فهي تقف بموازاته كله، بل هي أكثر حافزيّةً، وأبعد مرمى. وهي تستحق وحدها ‏دراسةً سيميائيّة مستقلّة، لكنّي هنا سأبدأ بالناي. ‏
توقَّف الشاعر في الناي منذ البدء عند (صورة البصّارة) في عوالمها الغيبيّة التي تدعو ‏للسخرية! فبينما هو منشغل بأحداث مصيريّة تَغلي في مكانه وناسه، استوقفته هذه ‏البصّارة، لتقرأ في خطوط كفّه؛ عمّا يمكن أنْ يجود به عالم الجان من حظّ؟! أمّا ‏أدواتها، فليست أكثر من مِبخرة يملؤها مارد وجان! وهي علامة سيميائيّة على الخداع ‏وابتزاز البسطاء.‏
وفي عالم غيبيّ مشابه، اصطدم في رحلة خارجيّة، بناسك (علامة التَّواكل والتَّعطيل) ‏على ضفاف (كام) في الأرجنتين. كان غارقًا كالبصّارة في استطلاع الغيب. يُصاب ‏حاوي بالدهشة لهذه العوالم الغيبيّة التي تعمّ المكان هنا وهناك؟! إنه عالم من الصمت ‏والثبات، والموات. فلا حركةَ تدفع للأمام، ولا فعلَ يجني ثمرًا يستحق العناء. بل هو ‏معطِّلٌ لكلِّ بادرة تشقّ للنُّور طريقًا:‏
‏"أضحك من بصّارة الحيّ. وما لفَّق جنٌّ ساخرٌ لعين".‏
وليس بعيدًا عن تلك الأجواء ما كان يعانيه حتى في صومعته (الجامعة)! لقد كان ‏يشعر أنه في سجن يحول دون حريّتِه. سجنه هذا ليس أكثرَ من أكوام الورق العتيق: ‏علامة التخلُّف. لكنه لن يهدأ لا، ولن يستكين؛ فهو توّاق للعبور إلى التغنّي بالتَّجديد، ‏إلى نور اليقين. لم يفصله عن ذلك إلّا خطوةٌ، أو خطوتان إلى الباب، ثم إلى الطريق. ‏وهو مستعدّ للتضحية بكل ما في الجامعة من إغراء، مستخدمًا أسلوب التهكُّم علامة ‏سيميائيّة على الإنكار:‏
‏ "دمي ينحرُّ يشتُمُني يئنُّ: إلى متى أزني وأبصُق
‏ على لقب وكرسي. أنا لستُ منكم طغمة النسّاك
‏ لن يستحيل دمي إلى مصلٍ. كذبت، كذبت
‏ جرّوني إلى الساحات، عرّوني. اسلخوا عني شعار الجامعة".‏
وفي جوّ خانق ثالث مرفوض، هو جوّ ارتكان بعضهم إلى الدَّعوات علَّها تأتي ‏بالأمنيات! إنهم لا يرومون موقعًا، ولا يهزّون شجرة. كما أنهم لا يدفعون أبناءهم إلى ‏أن يجرِّبوا غير الذي جرَّبوه هم. إنهم يستطيبونهم صورًا منهم؛ فحين يمدح أحدهم ابنه ‏يقول: ‏
‏ "ابني وقاه الله كنز أبيه".‏
وهم متواكلون، يعتمدون على القدر، فكل عمل مفيد لا يكلّفون أنفسهم تجريبه، وإنْ لم ‏يأتِهِم كما يتمنّون، يحمِّلون القدر أو النَّصيب مسؤوليّة عجزهم عن فعله؛ فإنْ ضاع ‏ابن أحدهم مثلًا لا يعمل الأهل ما فيه الكفاية للعثور عليه، وإنَّما يركنون إلى اعتقادهم ‏بأنَّ الله كفيل بردِّه: ‏
‏ "العامُ خلف الباب يا بنتي، يعود... غدًا يعود إليك، بعضَ الصبر
‏ سوف يعود والله الكفيل!".‏
‏ هذا هو عالم النّاي (أيقونة السُّكون) إنه آلة الإيقاع القديمة التي لم تصدح إلّا بما كان ‏علامةً على التخلُّف، ثم الشَّدوِ بصوتٍ هادئ ثابت عتيق؛ بعيدًا عن التحضُّر وعالم ‏الإنجاز والإبداع. ولمّا لم تسلم منه بعض منافذ العلم والمعرفة كالجامعات وقتَ ‏الشاعر مثلًا، فقد ثار بها، وتبرَّأ ممّا فيها من تخلُّف عمّا وعاه في حياته الجامعيّة في ‏الغرب وتحديدًا في إنجلترا. ‏
أمّا الريح (أيقونة الحركة)، فهي زاد التنويريّين الدّاعين إلى جلب الضياء لقلب القبيلة، ‏كي تنبثق منه العبارة التي تصنع العالم. إنَّ الشاعر وهو ابن حركة التنوير، يسعى إلى ‏أن ينشقَّ عن جذوره الرّاكدة، القابعة في محيط الكسل، تنتظر أن يأتي الفرج بلا ‏سعي، بلا تعب أو وجع. وأن ينشقَّ كذلك عن صومعته وكتبه، وعن حبيبته التي تحيا ‏وتموت على انتظار، مستـخدمًا لذلك أسلوب المناجاة والسؤال، علامةً على القلق. ‏
‏ "ربّي! متى أنشقّ عن أمي، أبي... كتبي، صومعتي، ‏
‏ عن تلك التي... تحيا، تموت على انتظار!". ‏
لعلَّ انشقاقه عن الحبيبة أتى رأفةً بها، حتى لا تُبتلى ابتلاءه في شربه مرارات ‏الدُّروب. ربَّما ينتظر الخصب الغنيّ أنْ يحلَّ مرَّة أخرى، في العالم العاجز عن الحركة ‏والإلهام. وفي معمعة هذه الأمنيات الغوالي، يتجه بالتطواف نحو "البدويّة السمراء" ‏أيقونة الرمز المحتمل للأمة العربيّة في زمنه. فهو يجتهد في أن تهزَّها رياح التغيير ‏إلى العمل والإنتاج الذاتي، مصوِّرًا إحداث تلك الهزَّة بهدايا مدَّخرة لها في مكامن ‏البعث من داخله مثل: واحات من العجين البكر، وزوابع الرمل المرير، كي يُروِّضها، ‏ويُحفِّزَها إلى بذل نفثات من عرقها، تدفعها ثمنًا يغنيها عن انتظار قوت يسقط في ‏السلال بلا تعب. ويهديها من شوكه شوكًا ينْخَزُ في واقعها الرملي الساكن، لتصطاد ‏برقعًا يهفهف نشوانًا، وتزرعَ زوبعة من طرب، حتى تصل أخيرًا إلى منبع الريح ‏المعطّرة، الطربة، الغضوب. أمنيات عزيزة يخبِّئها في داخله كي يهديها لأمَّته الساكنة ‏الساكتة، شرابَ مراراتٍ بلا مرارة، ولتهُبَّ في عالمها الريحُ الطربة الغضوب؛ كي ‏تتحرك بالحيويّة التي تُلْحِقُها بالمجد المدخر لها من سابق تاريخها العريق المجيد. ‏مستخدمًا ما أكده "هيدجر" من قيمة فهم التاريخ أسلوبًا للتَّحفيز:‏
‏ "للريح موسمها الغضوب... من سياحات عتيقة
‏ وتعود ما كانت عليه... التربة السمراء في يد الخليقة
‏ بحضن الشمسِ ليلِ الرّعد... يوجعها وتستمري بروقه".‏
لنتوقَّف فنتملّى روعة مفارقته المفاجئة في السطر الأخير؛ الوجع الموجع الحبيب: ‏‏"يوجعها وتستمري بروقه". فهذا السكون الذي ساد التربة السمراء، لا يحرِّكه إلّا ريح ‏غضوب موجع، لكنه في وجعه طروب الإيقاظ والانبعاث. غاية الشاعر إحداث ‏التغيير شاملًا؛ لتصير البيوت بيتًا واحدًا كبيرًا، يزهو بأعمدة الجباه، ولتلحق التربةُ ‏السمراءْ القديمة، آفاقَ التحضُّر والمدنيّة الحديثة؛ فتصبح غاباتٍ من المدن الجديدة ‏بأرصفة وجاه. يجمعها جميعًا جامع الوحدة، دونما تفسُّخ، وتشرذم، ما دفع الشاعر أنْ ‏يستعير أسلوب السؤال الإنكاري المستفز، بحرقة رامزة: ‏
‏ "أيصحُّ عبرَ البحر تفسُّخُ المياه؟!". ‏
يغرق الشاعر في أمنياته العذاب! يأخذه خيال جامح يحلق بعيدًا بعيدًا، لكن أمنياته هذه ‏كان قد سرقها من عالم الناسك المخذول في رأسه لحظة غفلة هذا الناسك. وحين أفاق ‏اندفع يؤنِّبه ويصفه بالولد العاق الغارق في غوايات الشيطان. وهكذا بين يقظة هذا ‏الناسك، وغفلته دخل الشاعر وحده في صراع عنيف ينتهي بلا جدوى، ليعود مثلما ‏بدأ، يئنّ من الضَّجر، يائسًا من رياح التغيير، بعد أن أيقن أنَّ علّة وطنه الكبير: ‏حرصه على أكوامٍ من الورق العتيق علامة على التخلُّف كما سلف. قال: ‏
‏ "الناسك المخذول في رأسي... يشدّ قواه، ينهرني، أُفيق
‏ بيني وبين الباب... صحراء من الورق العتيق، وخلفها
‏ واد من الورق العتيق، وخلفها.. عُمرٌ من الورق العتيق".‏
وهكذا: عودًا على بدء؛ فبينما كان أمس متفائلًا لا يفصله عن يقينِ الباب إلّا "خطوةٌ ‏أو خطوتان، ثم إلى الطريق"، ها هو اليوم يائسًا، انتهى إلى أنَّ الذي يفصله عن يقين ‏الباب: "عمرٌ من الورق العتيق". مثبتًا أنَّ العقل حين يتحجَّر عند عقبة كأداء: تصاب ‏الرؤية بالعمى، وتشلّ الإرادة، ويتوقف الفعل عن الحركة للأمام. وهكذا كان. فعلى ‏الرّغم من محاولاته المميتة، وآماله العراض، وتضحياته الكبرى، وعمله الشاق ‏المضني، عاد كما كان مخذولًا كئيبًا. مؤكدًا بطريقة رمزيّة أنه يناطح صخرة غائرة ‏في الوحل محاطة بسياج عقلي من فولاذ عتيق. ‏
وفي المقابل، حين يندفع العقل دونما قيد، ويجمح الفعل إلى أفق خواء لا خضرةَ ‏تنعشه ولا روحَ تنديه، ولا قيمةَ ترشح من جوانبه، يغدو العيش في ظلِّه مستحيلًا على ‏مَن يُنشد العيش في مكان تتسامى فيه الإنسانيّة، ويسود فيه التعاطف الوجداني. فهل ‏هذا ما سيواجهه الشاعر في رحلته مع قصيدته التالية: (وجوه السندباد)؟! ‏
إنَّ تلك البطولة التي أبداها الشاعر في دعوته للتحضُّر والتمدُّن في ظلِّ التحجُّر ‏الشرقي أو العربي، دفعته أنْ يتحرك حركة الريح في رحلة تزايل رحلة السندباد، إلى ‏بلاد الغرب، التي شدّ إليها الرّحال للدراسة بلندن: مبتدئًا بصورة وجهه الذي ما زال ‏طريًّا طراوة بلده: بلد الأرْز، وهو بريء، دافئ لم يشوِّهه الزَّمان، مستعيرًا أسلوب ‏السرد:‏
‏ "أدري أنَّ لي وجهًا طريًّا... أسمرًا لا يعتريه... دمغةُ العمر السّفيه".‏
ذلك الوجه الطريّ راق للحب الذي حلى لطفلة الأمس التي ألفت الرَّسم على محياه ‏الأسمر الطريّ، وحكت له مرارًا عن صبيّ غصَّ بالدمعة في مقهى المطار، وكأنَّها ‏تريده إلى جوارها قبل أن يجرِّب الغصّة في بلاد الغربة. تلك كانت البداية، لكن ‏بإيجاز شديد، أمّا الرِّحلة فلها ما لها؟! ‏
تحرَّكَ صاحبنا تاركًا وراءه طفلة الأمس تلك مع ذكرياته النديّة. كانت تجربته الأولى ‏ويومُه الأول في أرض غريبة، كانت ليلته فيها رتيبة، ومع ركوب القطار شعر أنه ‏في سجن. عضّ جسده الجوع، وغطّت الغبرة حقائبه، عزّت عليه أشعة الشمس، ‏فطفق شبه حجرٍ في دوّامة كبرى، علامة على الضياع. عندها راح يعلك ذكرياته ‏القديمة. انتابته حالة من الكآبة بعد أن أكلت الغبرة وجهه الذي كان بالأمس طريًّا، ‏لكن: هل سيبقى مع الرِّحلة هذه، طريًّا؟!‏
ومن القطار إلى الفندق الريفي! الذي تخيَّل -وهو ريفي!- أنَّ الجن قد ألهب فيه حلبة ‏رقص الغجر، وخوابي الخمر، ونوادي البار المملوءة بضحكات الزوّار. ترك حلبة ‏رقص الغجر، لكن بعد أن تركت أجواؤه الصاخبة دمغة في وجهه الذي كان بالأمس ‏طريًا، فأصبح اليوم:‏
‏ "وجه مَن تبصُــقُه نبضة الدوّامة الحرّى
‏ وجه مَن يتعب من نار، فيرتاح لنار".‏
وتاه خياله: إنه الآن في جنّة، لكنَّها جنّة من ضجر. وجهه فيها غدا وجهًا محفّرًا من ‏حجر:‏‎ ‎
‏ "وجه ذاك الطالبِ القاسي.... وجهه يعرق مصلوبًا ‏
‏ حجّره طولُ الضَّجر... وجهه من حجر... بين وجوه من حجر!". ‏
في هذا الجوّ من تحفير الوجه، ومداخن الفحم من محطات القطار، والضباب الكالح ‏من صوب البحار، حنّ إلى أيامه الخضر النديّة في لبنان، حيث الجمال البريء من ‏أدران الابتذال: ‏
‏ "وبناتُ الماء ما زلنا... في الدّهر صباي
‏ تسقيه غِوى سمرته الأولى... لونَ لبنان وطيبه".‏
ويعود مع عودته من رحلته القاسية إلى حبِّه لتلك التي آنسته وماتت على قلبه، فما دار ‏النهار. ويدور النهار ويحلو في اللّب الخصب المغنِّي بالثمار:‏
‏ "اسندي الأنقاض بالأنقاض... سوف تخضرُّ، غدًا في أعضاء طفل
‏ عمره منك ومني... دمنا في دمه يسترجع... الخصب المغنِّي".‏
لم يكُن ذلك الخصب عرسًا، وإنَّما رمز لخصب حضاري غني متخيَّلُ، ومفعم بأمنية ‏عزيزة: أنْ تتشأ حضارة يتَّحد فيها طرفان متتامّان: مادةٌ في الإنتاج بحجم الإبداع ‏والتحضُّر، وروحٌ في العلاقات بحجم الإنسانيّة والإخلاص لا غير، ليأتي خصبُهما ‏غنيًّا بالتَّجديد اللامحدود، والمحبّة بلا حدود. ‏
فإذا كان الشرق العربي يعيش عفنَ الخمول، وتحجُّرَ العقول في قاعٍ من الوحل، وجنّة ‏من تواكل وكسل، فإنَّ ماديّة الغرب، وجفافَ الروح، وتراكُمَ الغبار، والأبخرةَ، ‏والضبابَ،‎ ‎وعفنَ البارات، ومجونَ السكارى، إنَّما هي جنّة ولكن من ضجر. لا تمنح ‏الوجوه نضارتها، ولا تهب الحياة نداوتها، ولا تتيح للعلاقات الإنسانيّة الحُبَّ ‏والخصبَ الغنيّ، والدفءَ النقيّ.‏
وبناء على عقم الحياة التي تحول بينها والخصب الحقيقي في الجانبين: الشرق هنا ‏والغرب هناك، فإنهما إذن يتساويان في إحداث الوجع للضمير الإنسانيّ الحيّ النقيّ ‏الذي تتساوق فيه الروح والمادة معًا. وإذًا لا يبقى للفرد إلّا أن يعيش الخصب الغنيّ ‏حيث يجده هنا أو هناك. لكنه يظلّ في الوطن أحلى وأخصبَ مثلما اختار الشاعر ذلك. ‏