نزعة السخرية في قصص "تشيكوف"‏

محمد عطية محمود
كاتب وناقد مصري
Mohammadattia68@gmail.com


على مدار كتاباته القصصيّة والمسرحيّة، عانق "تشيكوف" نماذجه المختارة من الواقع ‏بعناية ودقة، لتتماس رؤيته لهم مع سخريته الذاتيّة نحو الواقع الذي يمثل له النقيض ‏بالجهل بقيمة الكلمة وقيمة الأحلام، الأمر الذي دعاه دائمًا أن يكون في جانب الانتصار ‏للجمال والانسجام في كل ما يدور حوله، وهو ما يؤكده رفضه للجوانب المبتذلة ‏ومحاولة العمل على إبرازها. ‏

ترتبط السخرية أحيانًا بسمة جلد الذات، أو جلد الآخرين بإسقاط تصرُّفاتهم الدالّة على ‏الوقوع في حالة من حالات السقوط في هواجسهم الدافعة إلى المزيد من الاضطراب ‏النفسي، والذي ينشأ غالبًا عن علّة مجتمعيّة ربما أورثت تلك النماذج صورًا من صور ‏الخضوع أو الخنوع أو الاستسلام المريض لتلك الضواغط والهواجس، والتي ربما كان ‏لها وجه ظاهري آخر هو التظاهر بالقوة أو البطش أو ادعاء الفهم العميق للأمور.. وهو ‏ما يُحدِث التضاد أو الالتباس في وعي تلك الشخصيات المقهورة أو القاهرة على حد ‏السواء، فالسخرية ترتبط -من جهة أخرى- بسمة القهر التي يقهرهم بها واقعهم المريض ‏أو مجتمعهم/ بيئتهم التي تفرض طقوسها وتأثيرها، فالتهكُّم يُعدُّ سلاحًا ماضيًا من أسلحة ‏التعبير/ الوقوف ضد هذا الواقع الذي استفحل المرض الاجتماعي فيه.. ‏
والقصة القصيرة في تجلّياتها البكر ومشهدها المؤسس لدى عدد قليل من فرسانها/ كُتّابها ‏أو أصحاب الفضل في إرسائها وذيوعها وترسيخها، وتقديمها في صورة إبداعية ‏مغايرة.. تعبِّر عن الواقع بكشف عوراته من رؤية انتقادية له تعمل على إذكاء روح ‏سبر غور الذات الإنسانية المترعة بآمالها وآلامها وتقصي الحقائق المفزعة عن سلوك ‏الإنسان ونزواته.. ذلك أنَّ المشهديّة القصصيّة الراصدة هنا تساعد على إبراز هذا الكم ‏من التناقضات والتفاعلات الإنسانية مع الواقع، فالواقعية في أصولها الفنية، تعدُّ أكبر ‏معبِّر عن تلك الإشكاليات الوجودية التي تتمحور حولها الرؤية الفنية للأدب والفن، ‏يستقيان منها أصول التعامل مع مفردات الواقع، ومن ثم تصبح ركيزة للفن كي يزهر ‏بأخيلته وأفكاره، وآلياته، وتعميق رؤيته غير المطابقة للواقع، وغير المنسلخة عنه في ‏الوقت ذاته.‏
ولعلَّ الدَّور الأهم الذي يلعبه الكاتب الروسي العظيم "أنطون تشيكوف"، منذ فجر ‏المسيرة القصصيّة الحقيقيّة، هو تقديمه لهذه النماذج الممتزجة بإنسانيّتها وسخريتها أو ‏سخرية الواقع منها، سواء بالسلب أو الإيجاب، ليقدم صورة أقرب إلى الواقع وأزماته ‏التي لا تنتهي بتلك المساحات التي خطا بها خطوات متواثبة في تقديم وعي قصصي ‏حداثي (ما بين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين)، وقد سبق بها زمانه ‏وأزمانًا لاحقة بتقنيات اعتمدت هذا المشهد/ المقطع/ اللقطة/ الشريحة القصصيّة المحكمة ‏القادرة في إيجاز غير مخلّ على احتواء القضية المثارة، والتي تحتفظ للقصة القصيرة ‏بخصوصيّتها وإطارها المثير لبراعة الاختزال والتكثيف مع الارتباط الوثيق برهافتها ‏وقوة تأثيرها معًا، والتي قد تمتزج بذلك الحس الفكاهي الأقرب إلى الساخر التهكمي على ‏الواقع بنعومة وانسيابيّة، والذي يبطِّن المزيد من الأسى والشعور بأهمية دور الفن في ‏تقديم تلك القضايا التي تمس الوجود من خلال النماذج الإنسانية الخارجة من عتمة ‏الواقع وزواياه المنسيّة إلى براح قصصي معبِّر عن أزمة الذات ووجودها في حيِّز/ ‏موقف محرِّض على الدفاع عن الحس الإنساني ووجوب الشعور به، وإن كان من خلال ‏السخرية المبطّنة بحس فلسفي مغرق في محبة الإنسان، وكسلاح مقاوم ومناوئ ‏للممارسات الاجتماعية الضاغطة على الوعي. ‏
وليس أدلّ على ذلك من تأكيد كاتب كبير في حجم "مكسيم جوركي" في معرض تقديمه ‏لمؤلفات "تشيكوف" المختارة في قوله: "كان كثيرًا ما يفعل ذلك.. يتحدّث بحرارة ‏وجديّة وإخلاص، ثم يسخر فجأة من نفسه ومن حديثه. وفي هذه السخرية الرقيقة ‏الحزينة تحس بالتشاؤم الرهيف لشخص يعرف قيمة الكلمة، قيمة الأحلام، وفي هذه ‏السخرية أيضًا كان يلوح تواضع رقيق ولباقة حسّاسة"(1).‏
‏***‏
يسخر نص "الآنسة والكبش" بدءًا من عنوانه، من هذه الصدفة القدريّة الطارئة، من ‏خلال المقابلة التي تجمع بين فتاة بائسة، ورجل يمثله النص في صورة "كبش".. تلك ‏الصورة الكاريكاتيرية الساخرة التي يلتبس فيها الرجل/ النموذج بهذه المفردة/ الصفة، ‏من خلال هذا الرسم الدقيق والافتتاحية السردية الناطقة بالسخرية ضمنًا وإعلانًا، التي ‏يقول فيها: "كانت سحنة السيد المحترم الشبعانة اللامعة تنطق بالملل القاتل، كان قد ‏غادر لتوه أحضان مورفيوس بعد الظهر ولا يدري ماذا يفعل.. لم تكن به رغبة في ‏التفكير أو التثاؤب"(2).‏
حيث يعقد هنا العلاقة الوثيقة بين الرجل وملامحه، مع بروز صيغة التهكُّم والسخرية ‏من تلك الملامح التي تلخِّص إلى حد بعيد هذه الشخصية المفرطة في الشبع والملل، ‏والاستغراق في الغفلة التي يحدثها النوم والكسل، لتكسر قاعدة الاحترام التي يشير بها ‏الكاتب أولًا كصفة للرجل، ليكون احترامًا متهكّم عليه، تبرز الفراغ الداخلي للشخصية؛ ‏ما يجعل منها مثارًا للسخرية دونما كلام، وهو في الوقت ذاته النموذج الضد للآنسة التي ‏يبدو اضطرابها أو ملامحها الكاريكاتورية الأخرى دالّة على وقوعها في خانة الذين ‏يستغفلهم الواقع:‏
‏"لقد جئتكم في طلب (مضت الآنسة تقول وهي تجلس في ارتباك وتعبث بأزرارها ‏بيدين مرتعشتين) لقد جئت.. لكي أطلب منكم بطاقة سفر مجانية إلى موطني. سمعت ‏أنكم تعطون.. وأنا أريد أن أسافر، وليس معي.. أنا لست غنية.. بطاقة من ‏بطرسبورج إلى كورسك"(3).‏
هذا اللهاث والتقطيع الدال على الاضطراب والارتباك والوقوع في ربقة الشعور بالعجز ‏والضياع الذي ينتاب الفتاة، والرضوخ إلى التوسل لتلك الشخصية الوهمية التي وجدت ‏سبيلًا أخيرًا للخروج من تلك الحالة المعتادة من الكسل وعدم القدرة حتى على التثاؤب ‏إمعانًا في سخرية النص منها، فتحوّلت حالة السكون الصامت لديها إلى تسلية وثرثرة ‏لإزجاء الوقت تجتذب فيها وعي الفتاة البائسة المضطربة، وتجترّها كي تميط اللثام عن ‏حكاياتها الصغيرة المغرقة في إنسانيّتها واشتباكها مع الواقع، ومصداقيّتها؛ لتكون ‏المفارقة اللاذعة هي المفجِّر لتلك الحالة التي يسخر فيها منها الواقع والشخصية ‏المتقاعسة التي استنفدت كل سبل إلهائها:‏
‏"بطاقة؟.. هم.. ليس لدي بطاقات.. يبدو أنكِ أخطأتِ يا سيدتي.. هئ هئ هئ.. ‏أخطأت العنوان، دخلت غير المدخل.. بالقرب مني يسكن، حقا أحد العاملين في ‏السكك الحديدية، أما أنا فأعمل في بنك!.. يا يجور، مرهم أن يعدّوا العربة! ‏وداعًا"(4).‏
هنا تتحقق أهمية ودلالة الشق الثاني من العنوان في شأن تمثيله لهذه الشخصية التي ‏فقدت مقومات إنسانيتها وحوَّلها الموقف/ النص إلى حيوان، ليكون سلاح السخرية هنا ‏مسلَّطًا على رقبة هذا النموذج الإنساني الذي لا يؤدّي إلى فائدة ترجى، فسخرية الرجل/ ‏الكبش من الفتاة، كانت مثارًا وسببًا وجيهًا لسخرية النص/ ضمير الواقع منه، وتوجيهه ‏في الوضع الذي يليق به ككبش أو إنسان غريب خرج عن معيارية إحساسه بالآخرين، ‏ومعيار إنسانيته، فكان الجلد له عقابًا على رسوخه في تلك الحالة، ومن ثم إحالته إلى ‏الجانب غير الإنساني في الحياة، فالسخرية في النص جاءت من خلال الشكل الخارجي ‏والمضمون على حد السواء، وكان العنوان مكمِّلًا ودالًّا ومعمقًا لهذه الحالة المثيرة ‏للتهكُّم..‏
وهو الملمح الذي ربما يتقابل أو يمتد مع شخصَيْ قصة "المغفّلة" حيث يقدِّم نموذجًا ‏آخر صارخًا معبِّرًا عن مدى السخرية من تلك المرأة الطيبة حد البله، المقموعة من واقع ‏لم يوفر لها أبسط مفردات وجودها، فتأتي تلك الحوارية التي يعتمد عليها النص ‏القصصي في إقامة صلبه، لتقيم مقارنة بين عالمين: عالم الرجل صاحب العمل الأرقى ‏اجتماعيًّا والأقوى، وعالم مربية الأطفال الضعيفة المتخاذلة في الدفاع عن حقها، والتي ‏أعطاها النص صراحة صفة تليق بها، صراعًا على الثقة التي تخلقها القوة في الإنسان، ‏أو تعدمها القدرة على التواجد في هذا العالم المتناقض؛ فالحوار بين متناقضين يكشف ‏حتمًا عن تلك الهوّة السحيقة بين طبقات المجتمع التي انقسمت بين صاحب سلطة أو ‏مقام (ضاغط)، وصاحب حاجة وعوز (مضغوط) ربما عبَّرت عنها تلك (المناقصة) ‏التي يعقدها الرجل مع المرأة، وهي تتنازل رويدًا رويدًا عن جلّ راتب عملها لديه، من ‏منطلق ضعفها، واستسلامًا لقوّته.. وحيث تتماثل تلك المربية هنا إلى حد كبير مع ‏نموذج الفتاة الساذجة في استسلامها في النص السابق للكبش اللاهي، لكن صاحب ‏المنزل هنا يمثل النقيض من ذلك الرجل/ الكبش، برغم سخريته المريرة من تلك المربية ‏إلا أنَّ السخرية هنا تقترن بالحس الإنساني الذي يتألم من ضعف الآخرين وعدم ثباتهم ‏في الحياة، حيث يكتسب النص نهاية ديناميكيّته ودافعيّته من هذا الحوار الأقرب إلى ‏الحوار المسرحي:‏
‏-‏ يا للشيطان، ولكني نهبتكِ، سلبتكِ! لقد سرقت منكِ! فعلام تقولين ‏merci؟
‏-‏ في أماكن أخرى لم يعطوني شيئًا..‏
‏-‏ لم يعطوكِ؟.. أليس هذا غريبًا! لقد مزحتُ معكِ، لقنتكِ درسًا قاسيًا.. ‏سأعطيكِ نقودك، الثمانين روبلًا كلها! ها هي في المظروف جهزتها لِك! ‏ولكن هل يمكن أن تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجّين؟ لماذا ‏تسكتين؟ هل يمكن أن يكون في هذه الدنيا إلا أن تكوني حادة الأنياب؟ هل ‏يمكن أن تكوني مغفّلة إلى هذه الدرجة؟(5).‏
لتمثل السخرية هذا الرافد من التعبير الذي يجعل منها سبيلًا لدرٍس قاسٍ يبيِّن الفرق بين ‏القوة والضعف، والإرادة وافتقادها، فالنموذج هنا يعطي طاقة إيجابية للسخرية، بعكس ‏النموذج السابق الذي يمثل طاقة سلبية تنتج عنها، وهو الوقوع في فخ المخاتلة، وهو ‏ربّما ما خرج به النص القصصي في سمة من سماته الوعظية التي يسجلها تاريخ ‏البدايات القصصيّة التي تعتمد الحكمة التي تغلف النص وتكون خاتمة له: "ما أسهل أن ‏تكون قويًّا في هذه الدنيا"(النص ص36)، وهي النهاية الوعظية التي تلتبس بحس ‏السخرية من هذا الواقع الذي ربما أثارته بيئة/ مجتمع كان يرزح تحت نير الفروقات ‏الهائلة بين الطبقات في ذلك الوقت وتلك الظروف.‏
• الموت المادي والمعنوي
يأتي تعبير "الموظف الذي لا يقل روعة" والذي يصفه سارد نص "وفاة موظف"، بأنه ‏جالس في الصف الثاني من مقاعد الصالة، دالًا على الانغماس في السخرية من هذا ‏الواقع الطبقي الذي يقسم المجتمع إلى مستويات متفاوتة من المقامات والرُّتب، والتهكُّم ‏على الأوضاع الاجتماعية الهرمية، التي تبرز منها تلك النقطة الرفيعة في قمة الهرم ‏الاجتماعي على كل تلك المساحة العريضة التي تراكمت، وكلما علت ضغطت على ‏قاعدة الهرم فوطأته حتى لا يكاد يظهر إلا ذلك الرأس الضئيل، الأمر الذي يورث الذات ‏هذه السمة من التردُّد والخضوع لمن هم أعلى طبقيًّا:‏
‏"وفجأة -وكثيرًا ما تقابلنا "وفجأة" هذه في القصص- والكُتَّاب على حق، فما أحفل ‏الحياة بالمفاجآت! وفجأة تقلص وجهه، وزاغ بصره واحتبست أنفاسه.. وحوّل عينيه ‏عن المنظار وانحنى و.. أتش!! عطس كما ترون، والعطس ليس محظورًا على أحد ‏في أي مكان، إذ يعطس الفلاحون، ورجال الشرطة، بل وحتى المستشارون ‏السريّون.. الجميع يعطس"(6).‏
حيث يعتمد النص القصصي على مداره تلك الصيغة/ اللغة التهكمية المعجونة بالسرد.. ‏تستعرض الطبقات كافة التي تحفل بها البيئة/ المجتمع، وتتمثل بينها الفروق، التي تصبغ ‏ذات الشخصية (التي عطست) بهذا التراجع النفسي الخاضع للمعيار القيمي الطبقي، على ‏الرغم من أن الجميع متساوون في إنسانيتهم وحق العطس المكفول للجميع؛ فسمة ‏الدرجات والتقسيم تضغط على الوعي وتحركه بهذه الدرجة من الارتباك والاضطراب ‏والتخبط، وكنتيجة لأثر العطسة على (قفا الجنرال) غير الآبه لذلك، والذي يمثل الطبقة ‏الأعلى منه، فإنه يلاحقه بطريقة كاريكاتورية غريبة، وهي التي تمثل الحركة الرئيسة ‏للنص، إمعانًا منه في تكريس هذا التراجع النفسي والخوف الدفين الذي يحركه لدرجة ‏الملاحقة واللهاث خلف الرجل ليعتذر له، حتى ينقلب المفهوم على أنه سخرية ‏واستهزاء!!‏
‏"- جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم ‏سعادتكم فقلتم، بل أعتذر لأني عطست فبللتكم، ولكنه لم يدر بخاطري أبدًا أن ‏أسخرنّ، وهل أجسر على السخرية؟ فلو رحنا نسخر، فلن يكون هناك احترام ‏للشخصيات إذن..‏
وفجأة زأر الجنرال وقد أربد وارتعد: اخرج من هنا"(7).‏
إلا أنَّ السخرية الحقيقية هنا هي سخرية القدر من تلك الشخصية التي قتلها شعورها ‏المقيت بالذنب وبالتضاؤل والتخاذل، وما اجتمعت عليه من استلابها وعدم قدرتها على ‏الوعي بقيمة الذات وأحقيتها في الشموخ والاعتداد بالنفس كونها لبنة من لبنات المجتمع/ ‏البيئة، إلا أنَّ النص يمثل صرخة عالية في وجه الطبقية التي تجور على حق الإنسان ‏في الوجود وتؤدي إلى مثل هذه الحالات من وأد الذات وعدم تحقق وجودها المستحق، ‏كنتيجة ترتبت على جملة عوامل، ربما لم يبدُ منها إلا الأثر الانفعالي الوحيد لحالة الطرد ‏التي أدت إلى الوفاة (كمفارقة صادمة ومفاجئة)..‏
‏"وتمزق شيء ما في بطن تشرفياكوف، وتراجع إلى الباب، وهو لا يرى ولا يسمع ‏شيئًا، وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه، وعندما وصل إلى المنزل استلقى على ‏الكنبة دون أن يخلع حلّته، ومات"(8).‏
إنَّ موت الشخصية -"فجأة" على غرار الجملة التي جاءت في بداية النص- في نهاية ‏النص هنا، هو موت معنوي قبل أن يكون موتًا ماديًّا خالصًا، فالحياة في كنف هذه ‏الحالة العبثية من ترددات الشعور وتقابلاتها وازدواجية المعايير التي تتعامل بها الذات ‏مع الواقع قد أورثتها هذه السمة من الكمون والشعور الدائم بالنقص والدونية وافتقاد الثقة ‏في الذات وقناعات الآخرين، وتفاهة الوجود، وهي من خصائص الموت المعنوي الذي ‏يتكئ على جملة من المسببات المتناقضة، والتي يحار العقل الباطن في تفسيرها، ‏وتستعصي على الوجدان المضطرب فيستسلم لها؛ ذلك أنَّ المكوِّن النفسي لهذه الشخصية ‏قد مر بحالات متعاقبة من سخرية المجتمع ذاته من تلك النماذج التي تتعاقب عليها ‏الأزمات والمحن فتصير مطية ومَعبرًا لكل عابر يؤثر فيها بالسلب ولا تؤثر فيه إلا ‏بمقدار سخريته منها.. كما أنّها تمثل هذا الوجه الآخر من وجوه التعامل مع الواقع الذي ‏يزدري كل متهاون في حق ذاته، وإمعانًا في السخرية منه ومن وجوده الهش، وسخريته ‏هو من ذاته كنوع من أنواع جلد الذات وإن كان بإسقاطها على الآخرين بمحاولات ‏جلدهم.. ‏
إنَّ ملمح السخرية الذي يغلف الكثير من النماذج القصصيّة الواعية المكتملة النضج في ‏قصص "أنطون تشيكوف" وعالمه الثري بنماذجه المستلبة، ليمثل سمة واضحة ومنهاجًا ‏للحياة التي نهجها لذاته كي يعلِّم الآخرين ويتعلَّم منهم، ويعبر بالبهجة والتهكم والفكاهة ‏عن سر من أسراره الدفينة مع الألم، فجاءت السخرية -كما حاولنا أن نستعرض بعض ‏نماذجها- مبطّنة أحيانًا ومعلنة أحيانًا أخرى، لتكشف كل مرة عن وجه قبيح من أوجه ‏الحياة المبتذلة التي ظل يحارب من أجل محاولة تجميلها وإماطة الأذى عن طريقها، ‏ومن أجل البقاء وضد الكآبة، ومحاولة للحفاظ على البهجة المشتهاة التي تقف ‏الصراعات التافهة من أجل البقاء في وجهها؛ فلكل شيخ طريقة، وشيوخ الأدب كانوا -‏ولا تزال آثارهم- قادرين على إثارة الدهشة والسؤال، والتعامل بفطرية وبكارة التجربة ‏الإنسانية الصادقة أحيانًا كثيرة، والصادمة غالبًا، والتي تستهدف إذكاء وعي الإنسانية ‏دائمًا وأبدًا، فهي التي عيْنها دائمًا على الإنسان وشجونه وهمومه، قبل آماله ومنجزاته ‏التي تخفي وراءها ركامًا من الألم وأسئلة الوجود ومحاولات سبر الغور التي لا تنتهي ‏ولا تتوقف.‏
‏ ‏
الهوامش:‏
‏(1)‏ أنطون تشيكوف "مؤلفات مختارة" ترجمة د. أبو بكر يوسف، دار رادوغا، موسكو، 1987.‏
‏(2)‏ المختارات، ص29.‏
‏(3)‏ المختارات، ص30.‏
‏(4)‏ المختارات، ص32.‏
‏(5)‏ المختارات، ص36.‏
‏(6)‏ المختارات، ص 38‏
‏(7)‏ المختارات، ص40.‏
‏(8)‏ المختارات، ص41.‏