"مدافع نافارون" لـِ"إليستر ماكلين"‏ الرِّواية التي تقرأها وكأنَّكَ تشاهد أحداثها


يوسف الغزو
قاص وروائي أردني
olayanaladwan@yahoo.com


لم يكتب "إليستر ماكلين" قصته بعبارات الخيال المنمّقة ولا بالفنون الروائيَّة المعقدة ‏ولا بالمشاعر الانفعاليّة الذاتيّة المسبقة، ولكنه كتبها بمداد الواقع، واستلهمها من رحم ‏الأحداث التي عصفت بالعالم في الحرب العالمية الثانية، كتب أحداث روايته وكأنه قد ‏عاشها لحظة بلحظة، أو كأنه كان مرافقًا لأبطالها وهم يتحدثون ويسافرون ويخططون ‏ويموتون وينتصرون.‏

هناكَ معركة وقعت خلال الحرب العالميّة الثانية، وهناك عمليّة بطوليّة أسطوريّة ‏تمَّت، وهناك رواية تاريخيّة نُسجت، وهناك فيلم عالمي يحمل اسم الرواية قد تم ‏إنجازه. هذه الرواية "مدافع نافارون" تحمل في ثناياها جلّ خصائص الأبعاد الإنسانيّة ‏والشجاعات الأسطوريّة، والتضحيات الاستثنائيّة. صحيح أنَّ الأحداث كما تضمّنتها ‏الرواية لم تقع، بل هي من نسج خيال المؤلف، ولكن هذا الخيال لم يكن متكئًا على ‏فراغ، كان نابعًا من تضحيات وُثِّقت ومعارك غير متكافئة دارت ورجال بذلوا ‏أرواحهم في ميادين بعيدة وفي منحنيات نائية مجهولة بين الصخور ووسط لجج ‏المحيطات وضراوة الأجواء المثلجة والماطرة. ‏
وأنت تقرأ هذه الرواية تشعر أنكَ تشاهد الأحداث وتتفاعل معها وتنفعل بها، تشعر أنَّ ‏كاتبها يعِدُّ سيناريو لفيلم أو مسلسل تلفزيوني. أمّا وقد تحوَّلَت هذه الرواية إلى فيلم ‏عالمي شهير فلا أخال كاتب السيناريو قد بذل الكثير من الجهد لإنجازه. فقد كتب ‏المؤلف أحداث روايته وكأنه قد عاشها لحظة بلحظة، أو كأنه كان مرافقًا لأبطالها وهم ‏يتحدثون ويسافرون ويخططون ويموتون وينتصرون.‏
وملخص الرواية أنها تصطفي من أبطال الحروب قادة كأنَّما خلقوا ليؤدّوا مهمة ‏صعبة. وكأنّما كل واحد منهم قد أعدَّ لدوره ليبدع فيه. هذه مهمة لم تكن لتسجيل ‏موقف أو ترسيخ بطولة، بل لإنقاذ ألفين من جنود الحلفاء المحاصرين في جزيرة ‏‏"كيروس اليونانية" من قِبَل الألمان.. كان سر قوة الألمان مختزلًا في مدفعين ضخمين ‏نُصبا في مرتفعات "نافارون" المطلّة على الجزيرة. فما إن تقترب سفينة أو وسيلة ‏إنقاذ من الجزيرة حتى تستدير فوّهتا المدفعين صوب الهدف وسرعان ما تدمره. ‏أصبح من المستحيل إنقاذ المحاصَرين دون تدمير المدفعين. عشرات المحاولات قامت ‏بها قوات الحلفاء دون جدوى، فقد كان المدفعان لائذين في جحر جبل صلد لا يمكن ‏تدميره بالطائرات. ولكن لا بدّ من تدميره، هناك آلاف الأرواح المهدّدة بالفناء لو لم ‏يتم ذلك. ولمّا كانت الحاجة أم الاختراع فقد أصبح من الضروري ولادة فكرة مغامرة ‏تمكِّن مجموعة مختارة من الفدائيين من الوصول إلى جبال "نافارون" وتدمير ‏المدفعين. ‏
وهكذا بدأت الرواية حينما تحوَّلت الفكرة إلى خطة عملية مرسومة. تمَّ اختيار ‏المجموعة بدقة متناهية، على أن يكون كل أفرادها متمرسين في فنون الحرب ‏وقادرين على التحمُّل ومدججين بتجارب سابقة صعبة، ولديهم دراية تامة بفنون ‏وخطط القتال، فكانوا:‏
‏-‏ ‏"كيت مالوري" رئيس مكتب العمليات الفدائية وقائد فرقة العمل الصحراوي ‏بالقاهرة.‏
‏-‏ الرقيب "دستي ميلر" من كاليفورنيا بالولايات المتحدة.‏
‏-‏ ‏"أندي ستيفنسن" من رجال الاحتياط في البحرية البريطانية وهو يتقن اليونانية ‏تمامًا وخبير في قيادة السفن الصغيرة.‏
‏-‏ ‏"كازي براون" الخبير في ميكانيكية السفن والاتصالات البحرية.‏
‏-‏ وأخيرًا الملازم "أندريا" الذي عمل ملازمًا تحت إمرة قائد المجموعة "كيت ‏مالوري" فترة طويلة، وهو سريع الحركة ومتمرس في تسلق الصخور ‏واستكشاف الكهوف.‏
هؤلاء الأشخاص يحرِّكهم المؤلف، ثم مخرج الفيلم في ما بعد، ليؤدّوا مهمة صعبة ‏بدت شبه مستحيلة في البداية، ولكنها تكللت بالنجاح. ولا مجال هنا لتفصيل آلية العمل ‏التي اتبعوها وهي طويلة ومعقدة، ولكن يمكن الاعتراف أنَّ هذه الآليّة قامت على عدد ‏من العناصر بينها الخبرة والشجاعة والتحمُّل والإيثار والتصميم على الوصول إلى ‏هدف نبيل، فقد واجهت الفرقة في طريقها كل ما كشّرت عنه أنياب الطبيعة من مطر ‏وثلج ورياح وجبال عالية مسنّنة، وطابور خامس، ومراصد الأعداء، حتى استطاعت ‏الوصول إلى المدفعين وتلغيمهما، ثم التفرُّج عليهما بعد ذلك وهما يتحولان إلى كتلة ‏من اللهب المشتعل يُرى على مسافة عشرات الأميال.‏
ومن خلال هذه العجالة يمكن الإشارة إلى عدد من الإضاءات المهمة في مسيرة هذا ‏الفريق الفدائي الذي سلك الدروب الصعبة وحقق ما يشبه المعجزات. وأول هذه ‏الإضاءات التي يمكن تسليطها على هذا الفريق هي اللمسة الإنسانيّة المغلّفة بعنف ‏الواقع المرير. كان هناك قتل ولكنهم مضطرون للقتل وأعماقهم من الداخل تمور بحب ‏الإنسان والشفقة عليه. إنهم يقتلون ليمنعوا قتلًا أكثر وأكبر. ولنقرأ هذه الفقرة من ‏الرواية: "إنَّ أندريا يقتل دون شفقة، ولكنه يندم فيما بعد. فهو يؤمن أنَّ الحق لا يعود ‏له بحرمان الآخرين من الحياة، إنه لم يقتل انتقامًا أو كرهًا، ولا مدفوعًا بعاطفة وطنيّة ‏ولا لمبدأ يعتنقه أولئك المتعجرفون البلهاء الذين يشبعون غريزتهم الدموية بذبح ملايين ‏الشباب. إنه يقتل فقط كي يتمكن الناس من عيش حياة أفضل". وفي السياق نفسه نقرأ ‏هذه الصورة المركَّبة بين القتل والشفقة من خلال تداعيات مشاعر "كيت مالوري" ‏قائد الحملة بعد أن رأى وجه عدوه الجندي الألماني ممقتعًا من الخوف: "رأى مالوري ‏وجهه الممقتع من الخوف وعينيه الهلعتين وشعر بنوع من الشفقة على هذا الرجل ‏الذي يمكن أن يكون أخًا أو زوجًا أو ابنًا يقوم بمهمة خطرة أُمر أن يتمّها. أليس هذا ‏الألماني رجلًا مثله هو مالوري يشعر ويحيا كجميع الناس. مسكين هذا الرجل سيموت ‏قد دنت ساعته، ولكن لماذا يجب أن يموت؟ من أجل أي هدف؟ لماذ تتحارب الدول؟ ‏أين الأمن؟ أين الوفاق؟ أين الأمان؟ لماذا الأنانية؟".‏
أمّا الإضاءة الثانية، فهي مبدأ الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين. فها هو قائد ‏المجموعة يجلس مع نفسه بعد أن داهمهم خطر شديد سُدّت أمامهم خلاله كل سبل ‏النجاة، ها هو ينظر إلى أعضاء فريقه وهم يصارعون الموت بتوجيه منه، فينمو فيه ‏إحساس قوي بأنه مسؤول عنهم وعمّا يصيبهم من شرور؛ ولنقرأ: "فكّر مالوري ‏بنفسه للمرة الأولى، لم يشكّ بقدرته ولم يأسف لأنّ كل شيء قد انتهى، ولكنه تذكر ‏المسؤولية الجسيمة التي ترسو مسؤولية إتمامها على عاتقه، وحدَّث نفسه: إنها ‏جريمتي، أنا أتيت بهؤلاء الرجال إلى هنا، أنا رميتهم بين أشداق موت لا فائدة منه ‏لأحد. ماذا يفيد أن يعرف إذا بقي مع رجاله في الجون؟ سيتغلب عليهم الألمان ‏ويفنونهم قبل شروق الشمس. إنه هو الذي أجبر هؤلاء الرجال على مجابهة العاصفة، ‏هل باستطاعته سوى انتظار الموت؟ هو قائد الحملة ويتوجب عليه أن يجد الطريقة ‏التي يخلِّص بها هؤلاء الرجال".‏
الإضاءة الثالثة هي التضحية بالنفس في سبيل هدف وطني. وقد تمثل هذا في أحد ‏أفراد الفريق "ستيفنسن" الجريح الذي رأى نفسه قد أصبح عبئًا على رفاقة، ولكنهم لم ‏يتركوه. كانوا يحملونه معهم حيثما هبطوا واديًا أو تسلقوا جبلًا أو عبروا نفقًا. كان ‏يشعر أنه عبء عليهم. ولكنه كان يودُّ أن لا يموت قبل أن يقدِّم خدمة ما لرفاقه في ‏مهمّتهم الصعبة. وقد آن وقت المهمّة. فقد كانوا بحاجة إلى مَن يبقى في مكان ما ‏ويشاغل العدو بإطلاق النار لكي يظن العدو أنَّ الفريق لم يتحرَّك أو يذهب لأداء ‏مهمّته.. أصرَّ "ستيفنسن" أن يقوم هو بهذا العمل على الرغم من خطورته. هو يعرف ‏أنه سوف يموت من جرحه أو من غارات العدو، ولكنه لم يشأ أن يموت هكذا دونما ‏ثمن. وحينما أصرّ أحد رفاقه على عدم تركه وحيدًا أرغمه على الموافقة بقوة التهديد ‏بإطلاق النار عليه، ولنقرأ:‏
قال "ستيفنسن": "اصغوا إليّ، الأمر في غاية البساطة، إنَّ التسمُّم امتدَّ في جسدي ‏وحظّي من العيش قليل، فدعوني أقوم بهذه المهمة وحدي وانجوا أنتم بأنفسكم". لم يقل ‏‏"مالوري" شيئًا، بم يجيب؟ إنها فكرة صائبة، وشعر أنَّ عيني "ميلر" قد توقفتا عليه ‏في انتظار ما يقوله: "لك الحق يا ستيفنسن". نظر "ميلر" إلى الجريح هلعًا فقال ‏‏"ستيفنسنن": "شكرًا أيها النقيب وأعتقد أنه لا حاجة بي إلى تعداد المنافع التي تجنيها ‏الفرقة من بقائي هنا، حان الوقت لأن أقوم بعمل نافع يجعل حياتي حَريّة بأن أحياها. ‏اتركوا بجانبي صندوقَيْ ذخيرة وبعض القنابل، سأتدبر أمري"، أجاب "ميلر" بعصبية: ‏‏"لن نترك لك شيئًا" واقترب من ستيفنسن إلا أنه توقف مرغمًا عندما اتَّجهت بندقية ‏البرين إلى صدره، "خطوة واحدة إلى الأمام وأطلق النار، وأنا أفعل ذلك وأنت على ‏يقين بأني..."، نظر "ميلر" طويلًا إلى "ستيفنسن" ولم يتكلم، فقال "ستيفنسن": ‏‏"وأشكركم جميعًا على كل ما فعلتموه من أجلي". والإضاءات عبر هذه الرواية عديدة ‏وأكثر من أن تحصى.‏
وفي الختام، فإنَّ رواية "مدافع نافارون" قد حملت في أحشائها قصة الحب والحرب، ‏قصة التضحية والفداء، قصة الأمل والألم، قصة قهر المستحيل حينما يكون الهدف ‏جليًّا واضحًا. لم يكتب "إليستر ماكلين" قصته بعبارات الخيال المنمّقة ولا بالفنون ‏الروائية المعقدة ولا بالمشاعر الانفعاليّة الذاتيّة المسبقة، ولكنه كتبها بمداد الواقع، ‏واستلهمها من رحم الأحداث التي عصفت بالعالم في الحرب العالمية الثانية، وأراد بها ‏أن يخلّد البطولة كمبدأ؛ البطولة القائمة على الحق والعدل. كما أراد أن يقول إنَّ ‏المستحيلات تذوب أمام الإصرار كما يذوب الملح في الماء، وفي النهاية لا بدَّ للساعين ‏إلى الأهداف النبيلة أن يصلوا إلى أهدافهم كما فعل أولئك الرجال الذين حصدوا ما ‏زرعوا وهم يشاهدون:‏
‏"عمود أبيض من الدخان إلى ارتفاع مائة متر، وإذا بسلسلة انفجارات داوية تهدم ‏القلعة. أضاء الدخان المدينة بكاملها لفترة قصيرة، واختفى كأنه لم يكن، وتتابع دويّ ‏الانفجارات صاخبًا عنيفًا مخيفًا، وتبع ذلك تهدُّم وتفسُّخ آلاف الأطنان من الصخور ‏التي تدحرجت على المرفأ مع مدافع نافارون الأسطوريّة. ضاع كل ذلك في أصداء ‏بحر إيجه. وعندما ذهبت الغيوم وظهر القمر يضيء صفحة ذلك البحر بَدَت جزيرة ‏كيروس غافية يهدهدها البحر ويسودها الهدوء والسلام".‏