ثقافة الأمن الوطني

د. صلاح اعطيوي الحمايدة

كاتب أردني

salah_mawadyah@yahoo.com

 

عَرَفَ علم الاجتماع ما يسمّى "الفرديّة السالبة"، التي تعود إلى وعْيٍ فقيرٍ ضيِّقٍ يرى في ‏الوطن مساحةً للعيش والتكسُّب، ما يجعل الذات السالبة تتبع "مصادر رزقها" ولا تتعرّف ‏على المصلحة الوطنيّة التي هي سعادة جماعيّة تضع خير الوطن فوق المصالح جميعًا. ‏وهو الأمر الذي يستدعي ثقافةً نوعيّةً تُنيرُ عقلَ المواطن وتحصِّنه وتقيمُ علاقةً عضويّةً ‏بين الولاء المجتمعيّ للدولة ووعي المواطن بالأخطار التي تحيقُ بوطنه.‏

حَدَّدَ الوضع الوطني الاجتماعي في العالم العربي حديث المقولات الثقافيّة التي يأخذ بها، ‏وأكّد أنَّ لكلِّ سياقٍ وطنيٍّ شعاراتٍ خاصّة به، فقد أملى سياق التحرُّر والاستقلال الوحدة ‏والتضامن من الاجتماعيين، فلا يمكن تحقيق الأهداف المنشودة بالفرقة والتجزئة. ‏وفرضت حقبة النموّ وتطوير المجتمع شعارات الاستقرار وتصفية الإرث الاستعماري ‏ومواجهة ما يعرقل التقدُّم والارتقاء. ‏

تنشدُ الحقبة الرّاهنة من تاريخ العالم العربي هدفًا أساسيًّا عنوانه: مجابهة التهديدات التي ‏تواجه المجتمعات العربيّة، سواء أكانت خارجيّة ممثَّلة بقوى طامعة أجنبيّة، أم داخليّة ‏تنشر الفوضى والاضطراب وتقصد، تاليًا، إضعاف السلطات الحاكمة والمساس بهيبتها. ‏وإذا كانت القوى الخارجيّة ذات علاقة بالسّياق العالمي الذي نعيش، والذي تتصارع فيه ‏قوى مختلفة المصالح، فإنَّ التهديد الداخلي يصدر عن قوى ضيِّقة الأفق، ترى في العنف ‏والتَّطاول على الدولة أداتين لتحقيق طموحات راهنة ومستقبليّة. ‏

يفرض الواقع العربي في شروطه الراهنة ثقافة نوعيّة تنير عقل المواطن وتحصِّنه تُدعى ‏‏"ثقافة الأمن الوطني"، تقيمُ علاقة عضويّة بين الولاء المجتمعي للدولة ووعي المواطن ‏بالأخطار التي تحيق بوطنه، لا فرق إنْ كانت خارجيّة أم داخليّة، ولعلَّ الوضع الذي ‏نعيش هو الذي يجعل من وعي المواطن عنصرًا ضروريًّا في ثقافته المتوارثة، وفي ‏السياسة الثقافيّة الوطنيّة الهادفة إلى توعيته وإعادة تثقيفه، بما يلائم واقع المرحلة التي ‏نعيش.‏

‏ المصلحة الذاتيّة أم المصلحة العامّة؟ ‏

إنَّ وعي المواطن عنصرٌ أساسيٌّ في البناء الاجتماعي، وقدرته على البقاء ومواجهة ‏التحدِّيات، بيد أنَّ هذا الوعي الذي يجب أن يكون متجانسًا، من حيث كونه الملاذ الذي ‏يوحِّد أفراد المجتمع، يختلف في ظروف معيّنة، بين فرد وآخر، ذلك أنَّ للأفراد مصالح ‏مختلفة، فقد عرف علم الاجتماع، منذ زمن طويل، ما يعرف بالفرديّة السالبة، التي تضع ‏مصلحتها الفرديّة فوق المصالح الأخرى، منتهيةً إلى وعي فقير ضيِّق، يرى في الوطن ‏مساحة للعيش والتكسُّب، كما لو كان الوطن مجرَّد "مصدر رزق" لا أكثر، ما يجعل ‏الذات السالبة تتبع "مصادر رزقها"، ولا تتعرّف على المصلحة الوطنية، التي هي سعادة ‏جماعيّة، تضع خير الوطن فوق المصالح جميعًا(1).‏

تؤمن الذات الأنانيَّة، المعاصرة بوعي ضيِّق، بثقافة لا أخلاقيّة عنوانها "ثقافة التكسُّب" ‏وقد تصبح مبدأً وقاعدةً إنْ كان التكسُّب سهلًا لا جهد فيه، متحرِّرًا من الرَّوادع الأخلاقيّة ‏والدينيّة. ولكونها لا تتَّسم بالوفاء والمسؤوليّة، تنكر الجهد الذي بذلته الدولة في تنشئتها ‏والدِّفاع عنها، فهي لم تولد وتتطوَّر في فضاء مُريح لا مشقّات فيه، فلولا الدولة والمجتمع ‏لَما استطاعت الوقوف على قدميها، ولما تطلّعت إلى آفاق مستجدّة تؤمِّن لها الرقيّ ‏والازدهار. ‏

بيد أنَّ الأمر أكثر دلالة ويتمثل بالهويّة الثقافيّة التاريخيّة، التي تتكوّن في حقل اجتماعي ‏منظَّم داخل وطن معيَّن، تُشرف الدولة عليه وتتعهَّده بالنموّ بأدوات محدَّدة، هي: أجهزة ‏الدولة المدرسيّة والثقافيّة، التي تعلِّم المواطن القراءة والكتابة، وتجسِّر المسافة بين ‏حاضره وماضيه القريب والبعيد، وصولًا إلى موروث قِيَمي وروحي يمايزه عن غيره ‏من البشر، ولهذا يعرف المواطن الصالح من أين جاء وإلى أين يذهب، يفتخر بماضيه ‏وينظر إلى مستقبله بثقة، ويعقل الأسباب التي تشدّه إلى التاريخ الذي كوّنه. ‏

وإذا كانت الذات الأنانية ليست "لا ذاكرة"، أو تكتفي بذاكرة مفردة شحيحة المعنى، فإنَّ ‏للمواطن المدرك لهويّته ذاكرة جماعيّة، يتقاسمها مع غيره، ويقاسمها الانتساب إلى ماضٍ ‏وطنيٍّ متعدِّد الوجوه، له فضائله وأدبه وأساطيره، وله من الخصائص ما جعله مختلفًا عن ‏غيره من الأوطان، وبهذا المعنى، فإنَّ الذاكرة الوطنية، بصيغة المفرد، لا معنى لها، فهي ‏تحيل على مجموع يتقاسم مكانًا وزمنًا وموروثًا محدَّدًا، علمًا أنَّ الذاكرة مجلى للتاريخ، ‏وإنَّ مَن لا ذاكرة له لا تاريخ له، وبسبب العلاقة بين الذاكرة والتاريخ الجمعي، في ‏نجاحاته وإخفاقاته معًا، تكون الذاكرة بُعدًا وطنيًّا تحريضيًّا، يكشف في وجهٍ منه عن ‏وقوف الوطن وكفاحه، ويذلِّل في وجه آخر تجاربه في مجابهة أعداء الوطن وأطماعهم. ‏

يتعيَّن الجهاز المدرسي، كما أجهزة الدولة التعليمية الإعلامية بعامة، بدوره في تأكيد قيم ‏ثابتة جليلة، تستهل بتمييز الوطن وإكبار رموزه، وترهين ماضيه وإظهار قيمته، وصولًا ‏إلى توطيد هوية قيمية أخلاقية تختلف عن غيرها، وبداهة فإنَّ توطيد الشخصية الوطنية ‏لا يُناط فقط بأجهزة الدولة المختلفة، ذلك أنه يستند، لزومًا، على الأعراف الاجتماعية ‏كقوة بنّاءة، تضيء الجهد التعليمي الرسمي وتستفاد به، ولا غرابة أن يشكل الإبداع ‏المادي الفني في وجوهه المختلفة التي تتضمن النشر والمسرح والموسيقى والكتابة ‏التاريخية، دورًا في مساءلة الذاكرة الوطنية وتثبيتها. ‏

ينطوي الإنتاج الأدبي والفني على بُعد معرفي يستعيد الماضي ويعرِّف به، حال ‏المسرحيات والروايات التاريخية، وعلى بُعد تحريضي يُبرز الإيجابي الذي عرفه ‏الماضي، أكان في المجال الأدبي أم في المجالات العلمية والأخلاقية وغيرها، غير أنه ‏وهو يقوم بهذين الدورين يُبرز بُعدًا جوهريًّا أكثر عمقًا ودلالة يتجلّى في اللغة القومية، ‏هي الحامل الأكبر للهوية العربية؛ ذلك أنَّ اللغة العربية التي يتحدّثها المجتمع العربي، لا ‏تُختصر في أدوات توصيل وتفاهم وإيضاح، بل هي لغة وثقافة وتاريخ وهوية قومية ‏ودينية معًا، فإذا كان الفكر هو اللغة تعريفًا فإنَّ اللغة العربية مدخل إلى التعرُّف على ‏الطرائق التي يفكر بها العرب، وسبيل إلى قراءة الثقافة العربية وتشكُّلها في سياقاتها ‏المختلفة، بقدر ما أنَّ نموّها وازدهارها بمناهج دراساتها مجلى للتاريخ العربي في أطواره ‏المختلفة، وواقع الأمر أنَّ التمكُّن من اللغة العربية شرط الانفتاح على ثقافتها التي تعرِّف ‏العربي على هويَّته التي تسعى القوى المهدِّدة لها إلى إضعاف العلاقتين معًا، وبهذا المعنى ‏فإنَّ الدفاع عن الأمن الوطني فعل ثقافي، يتجلّى في النظر والممارسة معًا(2).‏

لا غرابة أن تُعرف اللغة العربية بلغة الضاد، تمييزًا لها عن لغات أخرى لا وجود للضاد ‏في حروفها، وأن يفخر الإنجليز بأنهم أمة شكسبير، أن يرجع العرب إلى المعلّقات ‏الجاهلية السبع، برهانًا على لغة عريقة وإبداع شعري سبقوا فيه الأمم جميعًا، والأكثر من ‏هذا وذاك أنَّ اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي تميِّز العرب المسلمين عن غيرهم من ‏المسلمين. ‏

اللغة العربية بُعد من أبعاد مواجهة التهديد الخارجي، بقدر ما أنَّ الاستخفاف بها ‏و(الاستقواء) باللغات الأجنبية التي تنشرها المدارس الخاصة، إضعاف للثقافة الوطنية، ‏دون أن ينقص ذلك من قيمة اللغات الأجنبية التي تساعد في الانفتاح على الثقافة الكونية، ‏بيْدَ أنَّ الإنسان لا يكون مثقفًا حقيقيًا وأصيلًا إلا إذا صالح بلا تهاون أو مركَّب نقص بين ‏لغته الوطنية واللغات العالمية، دون أن ينسى أنَّ اللغة العربية عالميّة أيضًا، عالميّة ‏بتراثها وعدد الناطقين بها، وعالميّة من حيث هي لغة القرآن الكريم أيضًا. ‏

تطرح العلاقة بين الإسلام واللغة العربية الدَّوْر الأوَّل في تشكيل الثقافة الوطنية من ‏ناحية، ودوْر الإسلام في الدفاع عن الأمن الوطني، ولهذا جاء في المأثور الإسلامي ‏الكريم: "حب الوطن من الإيمان" ما يعين الوعي الديني الصادق بعدًا وطنيًا، يقضي ‏بقراءة الوقائع الدينية من وجهة نظر وطنية، قبل أن يأمر بتأمُّل الوقائع الوطنية من وجهة ‏نظر دينية، ذلك أنَّ الشعوب التي تعتنق الإسلام متعددة ولها ثقافات مختلفة، بقدر ما أنَّ ‏الاجتهادات في تعاليم الإسلام ليست متساوية ولا تتَّسم دائمًا بالموضوعية الفاعلة، ما ‏يجعل بعض الاجتهادات الدينية غير متفق عليها حال تقويم مؤرخين إسلاميين "للخلفاء ‏الراشدين".‏

‏ الدين والطائفة والطائفيّة

وللدين منذ قديم الزمان أشكاله، كأن يُشتقّ من الطبيعة؛ مثل البقرة عند الهندوس، أو ‏رموز مجسّدة حال البوذية وغيرها، وصولًا إلى الأديان السماوية، التي منها الدين ‏الإسلامي، الذي عرف فرقًا وانقسامات وطوائف الطائفة الدينية، التي كثر الحديث عنها ‏في العالم العربي في السنوات الأخيرة. شكَّلت الطوائف الدينية جزءًا من الواقع العربي، ‏وأسهمت في التنوُّع الثقافي، ولم تلعب دورًا سلبيًا إلا في زمن الأزمات الاجتماعية أو ‏التدخل الخارجي، ولا مشكلة في الطائفة، إذ لكل إنسان خياره الديني الحر، لكن المشكلة، ‏التي يكون لها آثارٌ سلبية، تأتي من الطائفيّة، التي تخرج العقيدة بالعنف والتمييز، وتذهب ‏بها إلى الكراهية والتحارب. ‏

الطائفية تحزُّب ديني عنيف المنظور، لا يلتبس بالمقدَّس وبالمنظور الإيماني الأعمى الذي ‏يضع طائفة فوق غيرها وينسب إليها الحق والصلاح وينسب المغاير لها إلى الضلال ‏والكفر. غير أنَّ الطائفية تبلغ حدودها الأكثر تعسفًا حين تغدو طائفية سياسية، ترفض ‏الحوار والأحزاب السياسية والقانون الطبيعي، وتعمل على نزع المجتمع من مساره ‏الطبيعي القائم على التَّعايش الحُرّ، متوسِّلة "القوة الطائفية" مدخلًا إلى خيارها الاجتماعي. ‏وواقع الأمر أنَّ الطائفية السياسية تعبث بالدين والسياسة معًا، تسيِّس الدين وتديِّن السياسة ‏وتلغي دلالتيهما معًا. وهي تؤسِّس غالبًا شروط الحرب الأهلية، ناكرة مصالح الوطن ‏ومعظِّمة مصالح الطائفة والطائفيين. ومن نافل القول إنَّ الطائفية التي ترفع العنف إلى ‏ذروته مستنجدة بالمقدسات، تلغي المعنى الفعلي للدين، القائم على التسامح والمساواة بين ‏البشر. ‏

يشير الخراب الطائفي إلى إخفاق الدولة في توحيد المجتمع، وكثيرًا ما يشير أيضًا إلى ‏تدخل أجنبي يؤمّن مصالحه بوسائل طائفية. ‏

‏ المعلم والتلميذ

يتمثَّل دوْر المدرسة الوطنية في التهذيب الأخلاقي والتوعية الوطنيّة. تستدعي هذه الفكرة ‏البسيطة السؤال التالي: ما الذي يضمن أنَّ المدرسة تقوم بالدور المناط بها؟ أو: ما الذي ‏يجعل المعلم قادرًا على التعليم الصحيح البعيد عن الأهواء الذاتية؟ أو: هل المنهج ‏المدرسي يرتبط، فعليًا، بقضايا الحياة اليومية أم أنه صورة مجرّدة للأشياء كما يجب أن ‏تكون؟ ‏

إذا كانت الطائفية تطرح أحيانًا مسألة إصلاح الجهاز السلطوي، لتخليصه من وجوه ‏السلبية، فإنَّ "التعليم المجرَّد" يطرح مسألة الإصلاح المدرسي، الذي يتضمّن كفاءة ‏المعلمين وأسلوب التعليم والعلاقة بين المقرَّر الدراسي وحياة البشر الواقعية.‏

تدور أسئلة الجهاز المدرسي حول إنتاج وعي وطني مطابق، يضيء العلاقة بين الالتزام ‏الوطني والذات الواعية المسؤولة، التي تعلِّم التلميذ أنَّ القضية الوطنية قضية عامة، وأنَّ ‏الدفاع عن الوطن لا يقتصر على الأجهزة الرسمية، إنَّما هو واجب المواطنين جميعًا، ‏يستلزم هذا تحقيق هيمنة ثقافية اجتماعية تأخذ شكل البداهة من ناحية، وتترجم سلوك ‏الفرد إلى فعل وطني متَّسق، قادر على مواجهة التخريب الأجنبي في وجوهه المتعددة.‏

يندرج في إطار الهيمنة الثقافة الوطنيّة وخصوصية المجتمعات العربية التي تعيش فيها ‏أقليات دينية وإثنية، وعَرَفَ ماضيها غزوات خارجية كثيرة، وتتطلب تاليًا وحدة المجتمع ‏وتضامنه.‏

ومع أنه يُقال عادة: "إنَّ المجتمع الديمقراطي هو الذي لا أقليات فيه"، والمقصود بذلك أنَّ ‏أفراد المجتمع يتمتعون جميعًا بحقوق متساوية، فإنَّ المراجع الفرعيّة لا تحاصَر ‏بديمقراطية المجتمع فقط، فهي بحاجة إلى حب الوطن والانتساب الروحي المطمئن إليه، ‏الذي يضع مصالحه فوق الانتماءات العشائرية والقبلية والجهوية والدينية، وبهذا المعنى ‏يغدو الانتساب الروحي والثقافي إلى الوطن نمطًا حياتيًّا مستمرًّا، لا يرتبط بسياق ولا ‏تستنفره صدفة عابرة، يترجم هذا الانتساب العميق معنى الهوية الوطنية، القائمة في أزمنة ‏متواترة، وتغدو فاعلة مقاتلة حين تواجه هوية أخرى مختلفة عنها، أو نقيضًا لها(3).‏

‏ الوطنيّة والمواطن

الوطنيّة هي جملة القيم والمعتقدات والعادات التي تحضن إنسانا معنيًّا بالدفاع عن وطنه ‏والتضحية في سبيله، وتعلِّمه أنَّ وطنه يتميَّز عن غيره بقدر ما تعلِّمه احترام أوطان ‏الآخرين. ومع أنَّ الوطنية تتكشَّف كجملة من القيم ترتبط بموقع معيّن له تاريخه ورموزه ‏والجهود التي بذلت في تكوينه والحفاظ عليه، فإنَّ المقدمة الأولى لها تبدأ بعلاقة محدَّدة ‏عنوانها: المواطن الذي له حقوقه وواجباته، وله ما يُدْعى: حقوق المواطنة الاقتصادية ‏والسياسية والتعليمية والثقافية، فلو لم يكن للإنسان وطن رعاه وحماه وهذَّبه لما صار ‏إنسانا اجتماعيًّا أوّلًا، ولما غدا مواطنًا محدّد الهوية. ‏

ففي مرحلة ما قبل الوطنيّة وُجد الإنسان الطبيعي الذي دافع عن حقوق فرديّة، تخصّه ولا ‏تخصّ غيره، على خلاف المواطن الذي حقوقه من حقوق غيره، والمرتبط بجماعة ‏تتجاوزه، فلا وجود لمواطن إلا بين مواطنين، ولهذا فإنَّ ما قبل الوطنيّة مرحلة لا تَعرف ‏السياسة على خلاف المواطنة القائمة على أفكار سياسية، تحدِّد علاقة الفرد بغيره، ‏وعلاقة دولته بغيرها. ‏

تقوم حياة المواطنين على سياسة تنظِّم علاقتهم، وتقترح ما يطوِّر إمكانيّاتهم، وتؤكد ‏مساواة الجميع أمام الأعراف والقوانين، غير أنَّ إيمان المواطن بالعيش المشترك مع غيره ‏يأتي من أصالة الفرد التي تعني أنه يرى مصيره مع الآخرين، وأنَّ مقدّراته من مقدّرات ‏الوطن وتحوُّلاته، وما الأعياد الوطنية والأناشيد والقصص التاريخية إلا إعلان عن هذه ‏الأصالة التي يتداخل فيها المواطن الإنسان والفرد الذي تخلّى عن فرديّته مع سبيل ‏مصلحة الغير والوطن. ‏

قال "جان جاك روسو": "إنَّ وضع الدولة يكون قويًّا حين يشعر كل إنسان فيها أنه في ‏موقع يريحه، وأن يكون قويًا وأنَّ الكل يتعاون من أجل الصالح العام، عوضًا أن يبدِّدوا ‏جهودهم في الشقاق والنزاع، وهو ما يفعلونه في كل دولة سيِّئة البناء..."(4). كما أكّد ‏‏"روسو" ضرورة الطاعة القائمة على الاقتناع التي تقنع كل فرد بالتنازل عن جزء من ‏حريّته من أجل الآخرين؛ لأنّ هذا التنازل الجماعي الذي تنظِّمه الدولة هو ضامن قوة ‏الدولة وحماية المواطنين. ‏

وكما هو معروف لدى العاملين في الفلسفة السياسية، فإنَّ "روسو" جاء بنظرية ‏‏"الاغتراب" التي تعني أنَّ جزءًا من حق المواطن يصبح غريبًا عنه، عندما يتنازل عنه ‏للآخرين. غير أنَّ هذا الاغتراب، الذي يتضمّن النّقص والانصياع يعثر على ما يعوّضه ‏في قوّة الدولة وأمان الآخرين، ما يجعل الاغتراب ينتهي إلى التحرُّر الذي يعوِّض الإنسان ‏المغترب عمّا فقده(5).‏

‏ بمثابة تلخيص

ينطوي الموضوع الذي بدأنا به: "ثقافة الأمن الوطني" على عناصر أربعة صريحة ‏واضحة: الأمن الذي لا تستوي حياة المواطن إلا به، فالحياة المهدَّدة لا تسمح بحياة سعيدة ‏مثمرة، الوطن الموروث القديم الذي يحتاج الإنسان إليه، فلا إنسان بلا وطن إلا إذا كان ‏تعيس المصير، والثقافة التي تهذِّب الإنسان وترشده وتعلِّمه حقوقه وواجباته، ذلك أنَّ فعل ‏‏"ثقف" بالعربية يعني الصقل والإعداد الجيد.. أمّا العنصر الرابع القائم في المفردات ‏الثلاث فهو "الإنسان"، الذي تثقفه مدرسة وطنيّة، ويدرك بثقافته الفرق بين الأمن ‏والتهديد، ويرى في الوطن مرجعًا فعليًّا ورمزيًّا معًا، يعيش في أرجائه، ويعتقد أنه فريد ‏لا يعدل جماله شيء. ‏

قيل ذات مرة: "هب جنّة الخلد اليمن ‏

لا شيء يعدل الوطن"‏

 

‏ الهوامش:‏

‏1- د.سمير عميش: بنية الذات سؤال الهوية، أزمنة، عمّان، الأردن، 2018، ص77-84.‏

‏2- د.سمير عميش: الديمقراطية والتنمية، دار أزمنة، عمّان، 2013، ص9-23.‏

‏3- ‏j.starobinski: the invention of‏ ‏liberty‏ ‏translated by‏ ‏Bernard‏ ‏swift‏ - ‏Geneva‏ – ‏skira editions, 1964, p.p 6-55‎‏.‏

‎4- m.berman: the politics of the authenticity vero – london 2009, p.p ‎‎165-180.‎

‏5-عن جميع هذه الأسئلة يمكن الرجوع إلى الكتاب التالي:‏‎ ‎نوربيرتو بوبيو: الليبرالية ‏والديمقراطية، دار كنعان للنشر، دمشق، 1994، وخاصة الفصل التاسع: بين النزعة الفردية ‏والنزعة العضوية.‏